أحب الناس كثيراً فأحبوه

محمد المدني في سطور.. لمن لا يعرفه

محمد المدني في سطور..  لمن لا يعرفه
  • 30 ديسمبر 2017
  • لا توجد تعليقات

آسيا محمد المدني


محمد المدني

اليوم أبكيك … أم أنعيك …أم أتكلم عنك؟

ليت أدواتي تساعدني.. ليتني أستطيع.. قد توقفت الكلمات، وتحجرت في اللسان، وطُمست قواميس لغة البيان، وعجزت عن وصف محمد المدني الإنسان وتاريخه.

وأسأل الله أن يعينني أن أكتب شيئاً عن سيرته العطرة.

كان الوالد محمد المدني يحيى له الرحمة المغفرة أنصارياً ابن أسرة أنصارية، تشربت فكرة ونهج الأنصار عن السيد الإمام محمد أحمد المهدي عليه السلام، حيث كان جده يحيى ملازماً له، وكان مقيماً بجواره في الملازمين.

أما جداه المدني ونور الدين يحيى قد حاربا بكل بسالة في واقعة أم دبيكرات. ثم بعدها اتجها إلى النيل الأبيض، ثم إلى كردفان. السرد يطول، والحديث ذو شجون.

كان محمد المدني رجلاً شجاعاً مصادماً قوياً. لا يرضى الذل والهوان. قاوم الاستعمار منذ نعومة أظافره في عام 1952م. نظم مظاهرة كبيرة في كادقلي حيث كان يعمل ممرضاً. خرجت معه كل المستشفى، وحشد الشارع، واندلعت ثورة قوية معبرة.

سجن على إثرها، ثم رُحل إلى سجن كوبر في بحري. وظل مقاوماً مناضلاً، ثم انضم إلى حزب الامه في السنة نفسها، لإيمانه العميق بأن هذا الحزب هو الحزب الذي يدعو إلى الاستقلال والوحدة والديقراطية والحرية، حيث استمر مناضلاً إلى نال السودان استقلاله. ووقتها كان حاضراً في جميع مناسبات وملمات الحزب السياسية والاجتماعية، وهذا ما جعل له مكانته وقبوله من قيادات الحزب، وعلى رأسهم السيد عبدالرحمن المهدي، الذي كان يثني عليه، وعلى مجاهداته الواضحة، ورأيه السديد.

وفي الديمقراطية الأولى، كان المسؤول السياسي عن حزب الأمة في منطقة تقلي الجنوبية، التي تضم كل من أبوجبيهة، وضواحيها، وكالوقي، وتالودي، والليري شرق وغرب، وأم برمبيطة، ويرجع السبب في ذلك إلى معرفته الجيدة بتضاريس المنطقة السياسية والاجتماعية والثقافية بما لها من خصوصية، ونسبة لحكمته وحنكته وأسلوبه السهل الذي يشبه أهل المنطقة اقترح أهله أن يكون ممثلاً لهم، ومرشحاً لحزب الأمة، فإذا به يجد ابن عبدالمنعم أحمد الصافي –رحمه الله- قد رشح نفسه في الدائرة نفسها.

ولحكمته ودهائه وتمسكه بمبدأ الوحدة قولاً وعملاً رفض أن يشتت أصوات القبيلة، بل وقف مع ابن عمه ودعمه وسانده، وكسبوا الجولة ووحدوا قبيلة أولاد حميد، والقبائل الأخرى، ودخلوا الجمعية التأسيسية، وأبدعوا، وحققوا أهدافهم.

أما في عهد مايو كان معروفاً لأمن مايو. كلما يشتم الأمن رائحة مقاومة في مكان ما إلا واعتقل محمد المدني، حتى أصبح السجن بيته الثاني، وما كانت هنالك حركة معارضة إلا وجاء رجال الأمن لتفتيش بيت الوالد، الذي أصبح مستباحاً لهم، وأصبحنا لا نخشاهم، فقد صودرت كتابات وملفات ومقالات تندد بالعهد المايوي.

أما الديمقراطية الثانية، فقد كان سعيداً بها، بل كان يحثنا على أن نسلك الطريق الجاد، ونتمسك بمبادئ الحزب والكيان، ونكون أفراداً نافعين لأنفسنا وللكيان ومجتمعنا. وقد ربانا على الأنصارية عقيدة، ودائماً كان يذكرنا بالمقولة المأثورة: “كل أنصاري حزب أمة، وما كل حزب أمة أنصاري”.

كان مثقفاً كيساً فطناً يفهمها وهي طايرة، كما يقولون. كان لبقاً في الكلام، ملما بالشؤون السياسية، وكان خطيباً محنكاً بارعاً يقارع الحجة بالحجة. كان كاتباً صاحب قلم ينفث مداده مدراراً. كان صحفياً يكتب في كل من صحيفتي الأمة والجيل، كان موسوعياً، ومرجعاً للفصاحة والأدب والبلاغة. كان قارئاً ومطلعاً من الطراز الأول، ويحفظ كثيراً من الشعر العربي الجاهلي والشعر الأموي والعباسي والأندلسي وأشعار الحقيبة، بل كان قاصاً مؤثراً. له مكتبه ذاخرة بالمفيد، وبها كتب قيمة. وإن شاء الله أخي المدني محمد المدني بصدد أرشفتها قريباً .

كان مطلعاً محبا للقراءة لدرجة الشغف والعشق، إذ كان يقرأ الصحف من الغلاف إلى الغلاف، ويحتفظ بالأخبار المهمة والأحداث المثيرة، ويعملها في شكل مذكرات وملاحظات.

كان طموحاً لا يكتفي بما عنده من علم. ما أن يجد فرصة، إلا ونهل من العلم مبتغاه.

كان فارساً مغواراً يحب ركوب الخيل في شبابه، بل كان يمتلكها. كان له حصان عربي أصيل مفضل لديه، كان يحب ركوبة بكل فخر وحب، وكان يسميه (صاروخ).

كان يجيد الرماية، وله سلاح مرخص (مسدس وبندقية). كان رياضياً معروفاً، بل كان لاعب تنس طاولة بارعاً. كان مسؤول نادي أبوجبيهه الأهلي الاجتماعي الثقافي الرياضي، عندما كانت الأندية في أوج نشاطها.

ومارس كل هواياته، كان لاعب شطرنج، بل حتى لعبة القولف مارسها في الملاعب الخضراء، التي صممها الإنجليز خصيصاً لذلك الغرض جنوب الخزان القديم بالقرب من بيوت الموظفين في مدينة رشاد.

كان صديق الشباب، وحبيب الكبار، وكانت له نظرة ثاقبة، وفكر متقد، كان كارهاً الصهاينة؛ لدرجة سمي كلاب صيده العاتية بأسمائهم: مدشيان، وابابان، والأنثى جولده مائير.

احتوي كثيرا من الشباب عندما كان يعمل بوقاية النباتات، حيث كان يوظف الطلاب في فترة الإجازة، حتى يتسنى لهم جمع شيء من المال لمجابهة حاجيات المدارس؛ لكي يخفف العبء عن الأهل عندما تفتح المدارس؛ فلذا كوّن علاقات جميلة، عندما يخرج معهم في حملات مكافحة الآفات الزراعية، وهنالك يقيم المخيمات، حيث العمل بالنهار، والتسلية والقراءة والأنشطة ليلاً، حتى الرياضات بأنواعها يستصحبها أيما ذهب.

كان أنيقاً مهندماً، وفي اللبس الأفرنجي الكامل كان يحرص على أن تكون ربطة العنق متناسقة مع القمصان الجميلة الأنيقة.

أما بالزي التقليدي واللبس الأنصاري لا أحد يشبهه في الأناقة والجمال، واختيار الخامات الجميلة، والألوان الزاهية، والتفصيلات الرائعة. الجلابية الانصارية جناح أم جكوا، وعلى الله من أحلي الخامات، والطواقي الأنصارية المميزة، وعمائم توتال المطرزة، والشالات الراقية، والنظارات الإيطالية، والأحذية الفخمة، والشباشب الجميلة، والعطور الباريسية، فكان له تصنيف خاص لملابسه تعرف بجلاليب العيدين، ومقابلة الحكام. هذا أن دل إنما يدل على قدسية الأعياد عنده، وحضوره المميز أمام الحكام.

وأهم محطات حياته مدن السودان التي عاش فيها: أم درمان حي العرب، حيث كان جاراً لأهل الفن والثقافة، من بينهم الراحلان المقيمان إبراهيم عوض وأحمد الجابري اللذان كانت تربطهما به علاقة في الثقافة والفن، ومدن أبوجبيهة، ورشاد، والأبيض، والبان جديد والخرطوم في السودان، والمحطات الخارجية حيث عاش في السعودية حيناً من الدهر، والقاهرة في فترة الدراسة، وسلطنة عمان مقيماً.

وأذكر عندما قلنا له: نحن بحاجتك يا أبي اجلس معنا. عندما كنت أبكي بحرقة، قال لي: أنا أحبكم أنت والمدني وإخوانك حباً جماً. لكن أود أن أعلم القرآن في المساجد؛ لكي أستفيد من العلم، لكي لا يكون حجة علي، وتلى لي في المطار وأنا جالسة إلى جواره الآية 37 من سورة سبأ:
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ.

لو أوتيت جوامع الكلم لكي أحصي مآثر والدي لن أستطيع، بل أجد نفسي مقصرة في حقه (لا لأن كل فتاة بأبيها معجبة)، لكن هذه حقائق يعرفها من عاشره، وعايشه، واختلط به.

روحانياً، كان رجل متديناً. كان أزهرياً، حيث أكمل تعليمه في جامعة الأزهر الشريف في القاهرة، وله أثر طيب حيث ترك بحث التخرج كمرجع. كان قارئاً القران، يختمه ثلاث مرات في الشهر في الظروف العادية، أما في شهر رمضان والظروف الاستثنائية فتلك قراءة أخرى ونهج مختلف. فهو حافظ ومجود وعالم بأصول دينه، وكان معلما ًلطلابه في المساجد. كان لطيفا حنونا باراً بوالدته، ومحباً لها، وكانت معه أينما كان. أذكر له عندما يجيء متأخراً من النادي، لم يكن يدخل مخدعه إلا بعد أن يصل غرفة أمه، ويتأكد من صحتها وراحتها. إذا كانت نائمة يقبلها في رأسها ويغطيها، وإذا كانت مستيقظة تجاذب معها أطراف الحديث الحلو، ولم يكن والدي يدخل لقمة في فمه من دونها، إلا إذا كان معه ضيوف أو معها ضيفات. وكان مدرسة في البر، قد عهد على الاهتمام بصحة أمه، واعتاد تقليم اظافرها، ومداعبتها بأجمل الكلمات.

وكان في جلوسه بقربها يمسح على كفها، ويمسح أطرافها، ويقول لها: أنت العظمة كلها، وهي لا تناديه إلا بأطيب الأسماء، ونحن نراقب ذلك عن كثب، ونقلده في كثير من أفعاله حتى كبرنا، وتعلمنا أصول البر.

كان محبوباً مقبولاً لدى الناس، ولا يجتمع عنده خصمان إلا وتصالحا، كان يمشي بين الناس بالخير. كان معروف بإصلاح ذات البين، كان دمث الأخلاق مبتسماً أبداً. وكان متفائلاً دوماً، وكان زعيم قومه، وكثيرون منهم ينادونه بالزعيم، ودائماً ما كان في مقدمة الوفد لإصلاح أحوال القبائل، ولا يكتمل أي اجتماع لهم إلا بحضوره.

قد أحب الناس كثيراً، ولذا أحبوه، فمن حبه الله حبب إليه خلقه. أحب القرآن، فكان كلامه وخلقه. وأكرمه الله بتلاوته يوم رحيله.

رحم الله والدي الأمير محمد المدني، وأسكنه فسيح جناته، مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.

إنا لله وإنا إليه راجعون. ولا نقول إلا ما يرضي الله .

آسيا محمد المدني
مراجعة المدني محمد المدني
مسقط
سلطنة عمان
29 ديسمبر 2017م

التعليقات مغلقة.