الوطن والمهجر

شهادتي في معلم الأجيال

شهادتي في معلم الأجيال
  • 20 فبراير 2018
  • لا توجد تعليقات

المستشار البشرى عبد الحميد

انتقل يوم الثلاثاء ١٣ فبراير ٢٠١٨م الأستاذ المعلم عبد المنعم محمد عثمان بشير الى جوار ربه راضياً مرضياً بإذن الله، نسأل الله له القبول الحسن.

ما زال الحزن والجرح غائرين بفراقه بين أهله وطلابه وأصدقائه، وكل من عرفوه لما تمتع به من حسن خلق ومعشر. عندما تلقيت خبر وفاته استرجعت ذاكرتي، وما أنطبع في أغوارها منذ لحظات دخول ذلك الشاب النحيل الوسيم لحوش مدرستنا، مدرسة السير شمال الصغري – ريفي دنقلا في نهاية الخمسينيات قادماً لتسلم مهامه معلماً بها، لابساً زيه الأفرنجي المكون من الرداء والقميص الكاكي الذي كان الزي الغالب لأفندية ومعلمي ذلك الزمن الجميل؛ لينضم مع الأستاذ فقير محمد أحمد القادم من أرقو ليلحق بهما فيما بعد كوكبة من المعلمين من أبناء المنطقة في مقدمتهم الأساتذة حاج محمد طه وإبراهيم إدريس الملك، ومن ثم أحمد الحاج من بنارتي، ومحمد علي حمدتو من منطقة القعب؛ لتكتمل كوكبة هيئة التدريس بالمدرسة – رحم الله الأموات منهم، وأطال عمر الأحياء في طاعته ومرضاته.

أستاذنا الجليل وجيله من المعلمين لهم أفضال كبيرة لا حدود لها على أبناء جيلنا، فقد قدموا للمهنة وهم مفعمون بالمسؤولية ودورهم الوطني في بناء الأجيال لتسلم المسؤولية الوطنية، اذ إنهم كانوا يمثلون جيل شباب استقلال السودان.

كان المعلمون صفوة نهلوا من العلوم والمعارف ما تيسر لهم من منابعها، ونقلوها إلى طلابهم بكل الصدق والأمانة والمسؤولية، ولم يقتصر دورهم، وينحصر نبع علمهم على فصول الدراسة، إذ انطلقوا بنقلها إلى لأهالي في القري من خلال فصول محو الأمية للكبار، التي كانت لهم فيها صولات وجولات مع الآباء، وحكاوي وطرف لا تنتهي.

أغلبية أهلنا في ذلك الزمان كانوا من غير الناطقين العربية، وكان بعضهم ينطق (محو الأمية) بـ (نحو الأمية). كان الأستاذ عبد المنعم يحكي كثيراً من الطرائف، منها أنه كان يعرض الحروف والصور في اللوحة الإرشادية كوسيلة للتعليم؛ ليتعرف إليها طلاب محو الأمية، وذات مرة عرض صورة (قلة الجبنة) التي كانت تستخدم إناءً للقهوة، كتب بجانبه حرف الجيم، وطلب من أحدهم تعريف الصورة وفق الحرف (ج) أي (جبنة)، وعندما تلعثم الشخص حاول تقريب الصورة له، وسأله ماذا تشرب بعد شاي الصباح فكان رده ( سيبقي) وهي تعني بالنوبية (العصيدة).
كان الأستاذ عبد المنعم -رحمه الله – طريقته الخاصة والجاذبة في التدريس، وهو يربط بين النظري والعملي لترسيخ الدروس في ذهن تلاميذه، الذين ما زالوا يتذكرون بدايته المحببة للحصص بما يشوقهم لتلقي العلم، وتعلم العربية التي لا يعرفونها وهو يردد (شاي باللبن – ولقيمات بالسكر)، وما إلى ذلك من العبارات المحببة للأطفال.

كان الأهالي ينتظرون موسم الفيضان (الدميرة) وفيض النيل لخور أرقو؛ ليعم الخير. يخضر بها الزرع، ويمتلىء الضرع، ولا أنسي ذلك اليوم الذي وصل فيه النهر إلى ساقية البشراب؛ حيث قادنا طلاب المدرسة للوقوف علي النهر وهو يردد ونحن خلفه:
انظر أخي للنهر فيه المياه تجري
تجري على استمرار بالليل والنهار
وكلما أمر أسمعها تخــر
كأنها تغني بنغم ولحن
وهي لنا حياة من خيرها نقتات

كان كل ذلك من باب ما أشرنا إليه وهو تعليمنا اللغة العربية، بالربط بين النظري والواقع. كما لا ننسى في ذات شرحه لنا درساً بعنوان (المنصور يبني مدينته في بغداد)، خرجنا فيها لحوش المدرسة رسم لنا فيه خارطة مدينة الخليفة المنصور على الأرض في شكل دوائر تحيط بعضها ببعض، وداخلها قصر المنصور، وثكنات الجند، والمواقع المختلفة داخل المدينة. قمنا على إثرها ببناء مجسم المدينة الذي ظل قائماً داخل المدرسة ردحاً من الزمن.

وبعد أن شبينا عن الطوق، وتقدمنا في المراحل الدراسية، ووقفنا على قراءة الأحداث التاريخية، واطلاعنا على الكيفية التي قام الخليفة المنصور ببناء مدينته بإشرافه الشخصي، وهو يوجه العمال لوضع خطوط دائرية من الرماد على الأرض لتخطيط مدينته الدائرية المحاطة بمجموعة من الدوائر المتقنة، ويأمر بوضع كرات قطنية منقوعة بسائلٍ نفطي على الدوائر المصنوعة من الرماد، وإضرام النار لتحديد مكان تشييد الجدران الخارجية المدعمة، حيث شيد أحد أعظم المدن في التاريخ.

حينها أدركت أهمية والمناهج معانيها، وهي التي كانت تعد في بخت الرضا، ويدرّب عليها المعلمون بما يرفع من قدراتهم، ويقرب الفهم للتلاميذ، ويوسع مداركهم.

كان الأستاذ عبد المنعم شعلة نشاط، وصاحب اهتمام، وقدرات متعددة، فقد قام ببناء المسرح المدرسي وإدارته، وأنشأ فريق الكشافة الرياضية، والجمباز، وأشرف عليها جميعاً.

في أثناء عمله بالتدريس، وبعد تقاعده بالمعاش ظل الأستاذ عبد المنعم جواداً بفكره وماله ووقته، وما تمتع به من أسلوب يقنع به جهات الاختصاص للمساهمة بشكل كبير لتوفير مختلف الخدمات للمنطقة في مجال الزراعة والتعليم والصحة.

وأنا إذ أقدم شهادتي في أستاذي الذي لا تفي الكلمات بقدره، وما قدم، أسأل الله أن يجزيه خير الجزاء على ما بذله من علم لطلابه، وعمل صالح لأهله، ومسيرة حافلة بالعطاء في خدمة الوطن.
حكم المنية في البرية جار… ما هذه الدنيا بدار قرار
—————–
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول

العين تدمع والقلب يحزن وإنا لفراقك لمحزونون، ولا راد لقضاء الله، وإرادته. إنا لله وإنا إليه راجعون.

التعليقات مغلقة.