جلسة مع الرئيس !!

جلسة مع الرئيس !!
  • 09 يونيو 2018
  • لا توجد تعليقات

سيف الدولة حمدناالله

هل فكّر الرئيس عمر البشير في أن يقوم (دون أن يعلم بذلك المُمثِّل علي مهدي) بأخذ إحدى زوجتيه أو كلتاهما معه في عربته بلا إعلان ومزامير ويقصُد بها زيارة يُفاجئ بها أسرة عادية تسكن ديوم بحري أو مدينة الثورة بأمدرمان أو الكلاكلة، ليستمع إلى رأي أفراد الأسرة الأب والأم والأبناء والبنات بصراحة وبدون تكاليف (كلِ في محيط همومه) عن أحوال معيشتهم وكيف يتدبّرون نفقات التعليم وثمن الدواء الشهري للأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري والقلب وإلتهابات القولون .. إلخ، ويسمع منهم عن كيفية فرص توظيف البنات والأولاد !! هل فكّر الرئيس في أن يُفاجئ أحد أصدقائه من زمن الطفولة أو زملائه بالصف الدراسي في الإبتدائية أو المتوسطة أو الثانوية من خارج الحلقة التي تلتف حوله الآن، ويستمع إليهم بهذه الصفة حديث القلب للقلب ويحكوا له عن الواقع الذي يُخالف الصورة التي تُرفع إليه، وتجعله (الرئيس) يحكي بإنشراح جنس الكلام الذي قاله قبل أيام عن الرعاية الصحية بالمستشفيات الحكومية التي وفّرها وزير الصحة مأمون حميدة بما جعله مضحَكة للناس.

للرئيس البشير، ولا شك، أقرباء وأصدقاء وجيران وزملاء دراسة يواظب على التواصل معهم، بيد أن الذين يؤثِرهم الرئيس بالوُد والمؤانسة من هؤلاء هم الذين يُحيطون به الآن ويحملون جمائله على أكتافهم، ومثل هؤلاء لا يُسمِعون الرئيس إلاّ ما يُطربه، ويتجنبون في حضرته التلميح بكلمة تنتقِص من فهمه القائم حول عدل حكمه وإنجازات حكومته، وقد وقفت شخصياً على حالة واحد من المُقرّبين للرئيس وخاصته، وهو رجل إبن بلد وفي مُنتهى الطيبة والعفوية يُقال له “أبوجاكومة”، وأبوجاكومة هذا من أصدقاء طفولة الرئيس، حيث نشأ وتربّى معه كجار مُلاصِق بحي كوبر، وأبوجاكومة من صنف الرجال الذين يجري ما في قلبهم على لسانهم، بإستثناء الحالة التي يكون فيها الحديث عن الرئيس، والسبب في ذلك أن حياة “أبوجاكومة” قد تحوُّلت من “تمرجي” غلبان بمصحة كوبر للأمراض العقلية بمجرد تحوُّل حياة صديق عمره البشير من عميد مظلي إلى رئيس لعموم السودان، بعد أن قام الأخير بتعيينه ضابط بالشرطة وألحقه ضمن طاقم حراسته، وأصبح “أبوجاكومة” صاحب مكانة وكلمة مسموعة، يتقرّب إليه الوزراء والسفراء، وعندما مرض “أبوجاكومة” أرسله الرئيس للعلاج على حساب الدولة في جمهورية ألمانيا، وقد شاءت المنيّة أن يتوفّى فيما بعد.

بالفعل، لا يُنتظر من الذين حول الرئيس وعارفي فضله أن يعكسوا له الصورة الواقعية لما يجري في البلاد وللعباد، كما أن الرئيس ومن في حكمه من المسئولين إذا حدث أن سمِع أو قرأ شيئاً لا يُشجيه ولا يتفق مع ما إستقر في عقيدته حول الصورة الواقعية، لا يُراجِع نفسه أو يتفحّص مُشتملات الحديث، ويقطع بالحكم على أن مثل هذا الرأي لا يصدر إلاّ من مأجور أو عميل وخائن، فقد حكى لي شقيق مسئول كبير تربطني به صلة صداقة، قال أنه كان يحكي مع شقيقه في خصوص أحد المقالات التي كتبتها في موضوع معيّن يخص شقيقه، فعلّق شقيقه على ذلك في إقتضاب يقول : “خليك منه هذا واحد شيوعي حاقد”.

الذي حصد نتائج إنفصال البشير عن الواقع والعيش في الخيال والأوهام، وجعل كل ذلك في ميزان حسناته هو الرئيس الأسبق جعفر نميري، ويستطيع المرء أن يلمس حصيلة ذلك في المقارنة التي ظلّت تجري في تواتُر وإنتظام كثيفين بين الرئيسين (البشير والنميري) خلال الأسابيع الماضية عبر الرسائل والمداخلات ومقاطِع الفيديو التي إنتشرت عبر مواقع التواصل الإجتماعي بمناسبة ذكرى إنقلاب نميري الذي وقع في 25 مايو 1969، وقد شملت المقارنة المكتوبة والمُصوّرة، مثلاً، إظهار الحفاوة التي كان يُقابل بها النميري في زياراته الخارجية بواسطة زعماء العالم في مقابل زيارات (الجيران) التي يقوم بها البشير لثلاث دول بالتناوب ويُقابل فيها بالمطار على مستوى ضابط بلدية الدولة المُضيفة، وكذلك مقارنة هيبة ومقام النميري في لقاءاته الشعبية مع الرقصات غير المفهومة التي يُصِر على ممارستها الرئيس البشير بلا إنقطاع، وهو فعل (الرقص) إذا قام به شخص غيره لحُوكِم بالفجور والمياعة.

هذه مُقارنة خبيثة وتحمل تزييفاً وتحريفاً للتاريخ، وما يُؤسف له أن الجيل الحالي لا تُقدم أمامه سوى الصفحات الناصِعة لفترة حكم النميري، حتى يُخال لأبناء هذا الجيل أن الشعب كان قد فقد رُشده حينما قام بثورة أبريل المجيدة، وقد رُويت في تمجيد النميري وفترة حكمه كثير من القصص (وكثير منها كاذِبة ومن نسج الخيال) التي تجعل الجيل الطالع في حالة “هوشة” وإنجذاب لشخصية النميري – مقارنة بما صار إليه المآل – ومن ذلك قصة جرى تداولها خلال الفترة الماضية تحكي عن الكيفية التي أنصف بها النميري مظلوم إشتكى إليه من وزير الخدمة العامة فطرده من الوزارة بعد أن ضربه بالشلوت، ومن ذلك، أيضاً، ما يُروى عن قصة مُزيّفة قيل فيها أن الشيخ زائد بن نهيان طلب أن يزور النميري في منزله، فردّ النميري عليه مُعتذراً في تأثُّر: أنا لا أملك منزلاً يا فخامة الرئيس وأقيم في معسكر الجيش. وما إن عاد الشيخ زائد إلى بلده حتى أرسل 20 مليون دولار للنميري حتى يُقيم بها مسكناً لنفسه (هذا المبلغ أكثر من 200 مليون دولار بقوته الشرائية اليوم)، ثم تنتهي القصة بما يُفيد أن النميري أمر بتحويل هذا الميلغ لوزارة المالية.

هذه قصص صبيانية وخيالية، ثم أن صلاح الرؤساء وفشلهم في فترات حكمهم يُقاس وفق المعايير والظروف التي كانت تسود في مرحلة الحكم لا بعد مرور نحو نصف قرن على زواله، فالموظف العام أمس غير الموظف العام اليوم، لا من حيث السلوك ولا المظهر ولا الإنضباط ولا في طهارة اليد، ومثل هذه الصفات التي كانت تتسم بها الشخصية السودانية ليست من إنجازات النميري ولا نتجت بتحقّق الحكم الوطني بإستقلال السودان من الإستعمار، والصحيح أن هذه الصفات النبيلة لم تأخذ في الإنحدار إلاّ في زمن النميري، وقبل أن تهوى إلى باطن الأرض في هذا العهد الضال، فحينما جاء النميري للحكم كان إختلاس وكيل البوستة لمبلغ خمسة جنيهات خبراً يُنشر في الصفحة الأولى بالصحف اليومية، وكان كبار الموظفين من (إسكيل بي) وأنت طالع (يُعادِل اليوم درجة ناظر مدرسة أساس) يُعالجون في القسم الجنوبي بمستشفى الخرطوم بنفس مستوى الخدمات والرفاهية التي توفِّرها اليوم إدارة مستشفى (سانت جورج) ببريطانيا.

كما أن قيم الشعوب تتغير بفعل المؤثّرات الإقتصادية والإجتماعية، فما كان يموت من أجله رجل الأمس، لا يُحرِّك شعرة في رجل اليوم، ولو أن ضابطاً في الأمن قبض على فتاة وأبقاها في حراسته ليلة في الزمن الماضي، لما أصبح على هذا الضابط ولا أهله صباح من ثورة أهل الفتاة (ألم تستمع إلى حديث الأستاذ علي عثمان محمد طه أمام برلمان الديمقراطية الأخيرة الذي إستنكر فيه إعتقال الفتيات وقال أن هذا شيئ لم يحدث حت في زمن الإستعمار!!).

الذي لا شك حوله أنه في زمن النميري كان هناك فساد، وكان الشعب يعرف ويحكي عن علاقة النميري برجل الأعمال السعودي “الخاشوقجي”، وكان هناك فساد عمليات البترول وبطلها شريف التهامي الذي أوقف الترابي محاكمته بعد قيام ثورة أبريل، كما كان هناك رجل القصر الشهير الذي كان حديث الناس في تلك الأيام، وكان هناك مصطفى النميري شقيق الرئيس وجمعية ودنميري التعاونية التي أحرقها المُتظاهرون صباح يوم الثورة في 6 أبريل 1985. بيد أن مثل هذه الضروب من الفساد لا تُقاس بمقاييس اليوم الذي أصبح فيه الواحد من غِلمان النظام وهو مجهول لم يسمع بإسمه أحد يحقق مئات أضعاف ما كان يُحققه كل فاسدي مايو مُجتمعين.

لقد كان النميري قاتلاً وسفّاح ودموي، والرأي في فترة حكمه وتقييمها ليس رأي كاتب هذه السطور أو نظيره الذي تحمله الدكتورة الحاجة فاطمة عبدالمحمود، فقد قال الشعب، كل الشعب، كلمته في النميري وفي نظام مايو بياناً بالعمل بخروجه في الثورة الشعبية العارمة التي إقتلعت حكمه وإنتهى النميري من أسد له زئير إلى قط سيامي يموء وسط شقة بالقاهرة حتى جاءه الفرج على يد جماعة الإنقاذ.

المُعضِلة التي لا يوجد لها حل، أن السكوت على تزييف التاريخ حينما يمضي عليه زمن يصبح مُستقراً في وجدان الشعوب وكأنه حقيقة لا تقبل الجدل، برغم زيفها وبطلانها، فاليوم لا يستطيع كائن من كان أن يُجاهر برأيه في حقيقة ما يراه حول تاريخ الأسياد الميرغنية أو تاريخ المهدية نتيجة الإرهاب الفكري وما ينزل عليه من تقريع وشتائم.

saifuldawlah@hotmail.com

التعليقات مغلقة.