المال أو الرجال وليس كليهما

المال أو الرجال وليس كليهما
  • 01 سبتمبر 2018
  • لا توجد تعليقات

محمد المكي إبراهيم

تولدت عن ازمات السودان السياسية ازمة اقتصادية ذات وجه نقدي تمثل بتدهور قيمة العملة الوطنية وخلو الخزينة العامة من النقد الاجنبي المطلوب لتوفير احتياجات البلاد من الطعام والوقود والادوية وقطع الفيار وفي غياب الرشد السياسي لدى الحكم وعجزه عن ايجاد حلول وطنية للازمة الناشبة فليس امامه من حل سوى الحصول على قروض من الخارج مهما تكن شروطها ليتمكن من توفير ضروريات الحياة لشعب مهيأ بالكامل لثورة شعبية تأخرت كثيرا عن موعدها ولكن من يقرض حكومة مفلسة مدمنة على الاقتراض وعدم السداد-حكومة ذات سجل متصل من عدم الوفاء بالاقساط المستحقة بحيث اصبح تسليفها اي اموال جديدة اشبه برمي تلك المبالغ الى مياه المجارير

من إذن يقرض السودان؟

•ليس صندوق التقد الدولي الذي اوقف التعامل مع السود ان منذ بضعة عقود
•وليس بنوك الولايات المتحدة حيث السودان محظور حتى من صرف شيك عادي
•وليس الدول الاوربية التي لا تملك الاحتياطيات التي تمكنها من ذلك الصنيع
•وليس دولة قطرالتي تكاد محفظتها تنفجر لفرط احتشادها بالنقود والتي سارعت لمساعدة حليفتها التركية بخمسة عشر مليارا قابلة للزيادة ولكنها تظل غير مستعدة لمساعدة الحليف السوداني الذي خذلها في مواجهاتها مع اهلها في الخليج محاولا إمساك العصا من منتصفها ليكسب مودة الطرفين فخسر الطرفين معا وكان عليه ان يقامر على قطر “بالصولد” أي بكامل ما امامه من رهانات كما هو في لعبة البوكر المعروفة سودانيا باسم الدقو وفي النهاية تبقى للسودان العربية السعودية والامارات اللتان تستطيعان تدبير المبالغ المطلوبة لانقاذ الحليف السوداني ولكن بشروط ! فقد دخل البلدان او أجبرا على الدخول في مواجهة مع الحركة الاسلامية العالمية التي نشأت لها أظافروأنياب بفضل البترودولار الذي أغدقته عليها الدولتان (ضمن آخرين) وتريد الحركة الان ان تجرب اظفارها في الدولتين او احداهما دون اللجوء الى اعتذار اوكتافيو في مسرحية شوقي عن يوليوس قيصر حيث صاح بهتافية مكتملة
ألست شبلا فتيا من شبولتها فهل اجرب في الرئبال أظفاري

ومن بعد ذلك صار من هم الدولتين ضرب ناكري الجميل باعتبار ان الحركة الاسلامية غدت عدوا منذورا وجرى تصنيفها حركة ارهابية لاسبيل للتعامل معها الا بالضرب والطعان والرماح السنان إلا ان الحليف السوداني تحكمه هو الآخر حركة اسلامية او على الاقل كانت الامور كذلك في البدايات ثم تطورت الى قطيعة بين شقين من متأسلمة السودان شق يقول بالتعاون حتى مع شياطين الامس التي بحد تعبيرها “قد دنا عذابهم” والتمتع بخيرات انقلابها الذي حول البلاد الى مستعمرة اخوانية ينعم فيها رجالهم ونساؤهم بالجاه والمال على حساب جماهير جرى افقارها وتبديد مقدراتها لينعم بها كل من تظاهر بتأييد النظام أما الشق الاخروالذي يضم مفكري الحركة ومخلصيها فقد دخل في عداد المنبوذين ومعارضي الارتماء في احضان دول الخليج الغنية وسيطرتها على المشهد العربي

جناحان للحركة الاسلامية أحدهما سافر العداء للتحالف مع السعودية باعتباره تخليا عن المباديء الاساسية للحركة الاسلامية وبيعا لروحها للشيطان لقاء حفنة من المال لاتلبث ان تأتي عليها قطط النظام السمان ويتم إهدار المباديء وابتذالها لقاء ترضية اخرى للقطط الجائعة اما الجناح الآخر فيهمه استمرار الحفل بقيادة المايسترو المجرب عمر البشير الذي يعرف كيف يغمض عينيه متغاضيا عن أ خطاء مؤيديه وجشعهم والتعديات الاخلاقية القاتلة التي يرتكبونها وينزعون بها عن النظام قشرته الاسلامية غير محكمة التثبيت.

بلغة أخرى يجد رئيس النظام نفسه موزعة بين قطبين: قطب أصولي تطهري ينادي بما يراه تطبيقا اسلاميا صحيحا وقطب آخر انتمي للمتأسلمين منذ البداية طمعا بما بين ايديهم من المال وحين آلت اليهم الدولة بكاملها لم يتوانى في نهبها وإفساد مؤيديها المتحمسين بإيقاظهم من حميا سكرهم الثوري ليصبحوا شركاء في أعمال الرشى والنهب وتحصيل الاتاوات وهنالك كشف البشير عن عبقرية كاملة في التعامل مع المعسكرين بصورة تضمن مصالحه لدى الطرفين: لغلاة المتاسلمين يطلق البشير وعودا عن بقاء التطبيق الاسلامي بل وزيادته وتحوله الى نظام “كامل الدسم” حسب تعبيره وهي غاية ممكنة التحقيق باصدار المزيد من التشريعات الاسلامية القاضية ببتر الايدي والارجل من خلاف والتشديد على تحصيل الزكوات ممن لايملكون النصاب وغير ذلك من المظهربات القاسية التي تؤكد على الطابع الديني للنظام ويقع عبء تطبيقها على كاهل الشعب الفقير المعارض في معظمه لألاعيب النظام.

كل ذلك في باب الترغيب وفي مجال الترهيب أطلق البشير حملة تأديب لمن أسماهم بالقطط السمان وبينهم عدد وفير من الاسلاميين المعروفين الذين اغتنوا بالتسهيلات الحكومية في الجمارك والضرائب والاقراض المصرفي وهي اجراءات أدخلت الرعب في قلوب اثرياء الحركة الاسلامية وصغار مجرميها على السواء

انه وضع شبيه بسؤال اساتذة التاريخ في الابتدائيات عن اسباب غزو محمدعلي باشا للسودان واجابته التقليدية القاطعة : للمال (الدورادو ذهب السودان ) و للرجال (مقاتلي السودان الاشداء) تعبيرا عن ازمة البشير الراهنة التي تقتضيه ان يقسم تلك الاجابة الى قسمين فاما ان يحصل على ذهب الخليج (المال) اويكتفي بتأييد الاسلاميين لحكومته (الرجال)حيث ان الاسلاميين أخذوا يرفعون عقائرهم وقبضاتهم بالتهديد “لكل من يتخلى عن المباديء الاسلامية” يقصدون البشير اذا حاول بيع الحركة الاسلامية لحكام الخليج منوهين بقدرة الحركة على تدبير انقلاب يطيح بالبشير متى شرع في تنفيذ خططه أو ما يتوهمون انها خططه ضد الحكم الاسلامي في السودان.

وضع لايحسد عليه الرئيس السوداني الذي يترأس نظاما عماده تأييده من الاسلاميين الذين احتكروا باسمه الساحة السياسية واحتكروا لانفسهم كل فرص التجنيد والتدريب العسكري لثلاثين عاما متوالية ملأوا خلالها صفوف الجيش السوداني برجالاتهم ومنسوبيهم ورغم ما اصاب صفوفهم من التآكل بسبب الفساد والركون الى ملذات السلطة فانهم قادرون على الاصطفاف الى جانب السلطة أو ضدها متى اقتضى الحال.

وأذن فالمال في جهة والرجال في الجهة الاخرى وذلك ما يفسر تناقضات البشير او ما يبدو وكأنه تناقضات فحين يبذل وعوده بتشديد العقوبات الاسلامية يكون في واقع الامر مسترضيا المتخوفين من تخليه عن النظم الاسلامية وحين يلقي ببعض الاسلاميين في السجون متهمين بالفساد المالي فانه عندئذ يخاطب حلفائه في الخليج مؤكدا لهم انه قادر على شكم الحركة الاسلامية في بلاده وتدجينها لتسمع وتطيع وبالمقابل تبادر بعض اجنحة الحركة لتحذير البشير من اللعب بالنار بأشكال من التشنجات العنيفة والتحذيرات التي تذهب الى ابعد مدى من الوعيد وقد شوهد بعضها يذكر بالاسم الضباط الاسلاميين القادرين على الاطاحة به عن طريق الانقلاب.ويعتبر ذلك تأكيدا بأن البشيرسيفقد تأييد الاسلاميين متى سار في الاتجاه الذي يريده له الحلفاء الخليجيون وتضيق خياراته بين حشد الرجال او الحصول على المال.

وعلى جبهة المعارضة لايبدو ان جهة من الجهات ترغب في تقديم نفسها كنصير للبشير او تقف الى جانبه ضد الاسلامويين والرأي السائد في أوساط المعارضة هو شيء من قبيل:”دع الذئاب تأكل بعضها” ولا يبدو ان العراك بين الفرقاء الاسلاميين سينتهي الا اذا انحسم الاشكال القائم بحصول الحكم على ما ينقذه من ورطته المالية .

 

التعليقات مغلقة.