رحلتي إلى آخر الدنيا (3): كاليفورنيا الذهبية

رحلتي إلى آخر الدنيا (3): كاليفورنيا الذهبية
  • 23 يوليو 2019
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

عندما أقلعت بنا الطائرة التركية من مطار إستنبول الدولي اجتاحني شعور بالقلق من الرحلة القارية والبقاء بين السماء والأرض طويلاً، وهو شعور يتفاقم ليتحول لفوبيا مرعبة لدى بعض الناس من الطيران واشتهر عن الموسيقار محمد عبد الوهاب مقولته “أركب البحر ولا أركبه” وأحيانا تزاحم الخاطر حوادث الجو الكارثية.
تجتاز الطائرة بحر إيجة ثم اليونان وتقطع أوربا الغربية انتهاء بلندن.

أمام كل راكب شاشة بمقدورك متابعة الرحلة من خلال خريطة تبين أين نحن وما تبقى بل يمكن مشاهدة المنطقة التي نطير فوقها دون النظر بالنافذة.

تركنا أوربا وراءنا وبتنا نطوي الأطلسي سيد المحيطات الذي كان يسمى بحر الظلمات في الأدبيات العتيقة.

ظل في المقاعد التي تتموضع خلفنا بصفين راكب يغني ويصيح ويرغي بفعل عب الخمر المجاني الذي تمرره علينا مضيفات يانعات مع الطعام والشراب المستساغ فتذكرت قول جاري في سفرية سابقة مهندس النفط التايلندي العائد لبلاده بإجازة من الكويت إنه يحرص على التنقل عبر الخطوط الكويتية لتميزها بعدم تقديم المشروبات الكحولية تفادياً لعربدة السكارى، وكان شاباً عذباً هبط مني في بانكوك فيما تابعت رحلتي لمانيلا.

ساعات طويلة ظللنا نكابد فيها معاناة السهر ومغالبة النعاس حتى دخلت الطائرة القارة الجديدة إلى الشمال من نيويورك وبوسطن عبر كندا حتى حلقنا فوق مدينة ونيبق وإن شئت ونيبج كما في خرائطنا المدرسية.

أخيرا بعد طول تحليق بدأت الطائرة تنخفض تدريجياً حتى بت أرى بوضوح جسر البوابة الذهبية المعلق الشهير احد معالم العصر الحديث Golden gate وحتى حركة السيارات المكتظة فوقه عبر المسارين.

إذن نحن في سان فرانسيسكو درة ولاية كاليفورنيا التي إن صنفت دولة لباتت ضمن أقوى ١٠ اقتصادات ويعادل ناتجها المحلي إيطاليا.

وجدنا الوقت عصرا بعد طيران ١٧ ساعة من مبارحتنا تركيا ظهرا فكسبنا بذلك يوما لأن الشمس تشع على الدنيا على جهاتها الشرقية أولا وطبقا لذلك يخسر المسافرون من هنا للشرقين الأوسط والأقصى يوما!

فور فتح ابواب الطائرة ثم اعتلاء سيارات التوصيل لمباني المطار والنزول منها تدفق المئات صوب صالات الوصول الفسيحة في تسابق.

اخذنا موقعا ضمن عشرات الصفوف الزاحفة نحو الكاونترات ببطء فيما عكفت على ملء بيانات الاستبانة المعدة الشخصية منها والعامة منها أسئلة تدور حول إن كان الراكب يحمل منتجات حيوانية أو نباتية أو أسلحة ومخدرات وإن كان في معيته ما يفوق ١٠ آلاف دولار وإن كان قد أصيب بمرض معد خلال الأشهر ال ٦ الماضية وهكذا.

بعد فراغي من التدوين لفت انتباهي الخواجة الذي كان قدامي فأمامه شابة شقراء باسمة يحضنها بل يحملها عن الأرض ثم يضعها متى وجب السير ويمطرها بمداعباته الشفيفة فدهشت ثم رمقت من حولي فلم يعر أحد عجبا فازداد استغرابي!

كان المشكل أن طائرتنا لوجهتنا التالية أزف موعدها وعبثا حاولت شرح وضعنا الشائك لمشرفي الصفوف الذين رفضوا أي استثناء فالتزام الصف مقدس.

بعد التلوي في نحو ١٥ صفا متتابعا وصلنا لأحد الكاونترات الذي اضطلع موظفه بتصويرنا وأخذ بصمات الأصابع والعين ثم أحالنا لمكتب داخلي وجدنا فيه عددا من المنتظرين فسلمنا الجوازين وجلسنا منهكين. وكان بعض شرطة الجوازات يعملون ويغنون ترويحا بمقاطع من أغانيهم من وقت لآخر.

بعد نحو نصف ساعة جاء دورنا فنودي علينا فمثلنا بين يدي الشرطي الذي مد لي الجوازين مهنئا بحصولنا على تأشيرة الدخول فشكرته فمضينا نحاول الإسراع عبر ممر طويل أفضى بنا لصالة وصول العفش فيما كانت شنطتانا اللتان سلمناهما في الخرطوم امام منصة موظفي الإعلام فسألت عن مكتب شركة ألسكا التي ستنقلنا لوجهتنا الجديدة فوجهونا بالخروج للصالات الخارجية ففعلنا وأنا ادفع امامي عربة عفشنا.

بين الصالات الداخلية والخارجية راجع شرطي الجوازين فمضينا قدما فوجدنا شابة مليحة تعتمر خمارا دلتنا على مقصدنا الذي بلغناه بعد جهد.

قدمت لهم الجوازين فراجعوا بياناتنا في الجهاز ولم يكترثوا لتفويت حجزنا فقط أوضحوا السفريات التالية فاخترت الواحدة ظهر اليوم التالي فاعتمدوا الحجز وطلبوا الحضور قبل ساعتين فخرجنا للشارع العام.

كانت سيارات عديدة تفد للمكان وعبثا حاولنا استئجار إحداها وبالاستفسار قيل إنها لا تاتي إلا بطلب مثل ” ترحال ” في السودان.

اما سيارات الأجرة فكانت في المسار الآخر فأوقفنا إحداها فتفاهم مع سائقها الابن بسام من مانيلا طالبا توصيلنا لفندق محدد في وسط المدينة حجز لنا فيه ودفع بالنت التكلفة فهو يعرف المدينة جيدا حيث قضى فيها فترة.

دفعت بالجوازين لموظفة الاستقبال اللطيفة وبينما تدخل بياناتنا طلبت تفعيل ال واي فاي في جوالي من شبكة الفندق واعلمتها بمغادرتنا للمطار العاشرة صباحا فاستجابت ثم سحبت معي الشنطة الأخرى إلى غرفتنا الأخيرة في ممر الطابق الأرضي ثم أضاءت الأنوار وسلمتني بطاقة ممغنطة لفتح الباب إن عدنا بعد خروج بتمريرها على فتحة الضبة فقلت: عرفنا حاجة!

كانت الغرفة لامعة فاستلقيت سريعا على سريري من الرهق وبينما أحاول التغطي بشال كبير في معيتي تحوطا إذ لم نجد أغطية رددت مقولة مالك التميمي في خراسان رغم اختلاف الظرف:
وأين مكان البعد إلا مكانيا
ترى
كيف هذه المدينة الذائعة الصيت بالخارج؟
أين وجهتنا الجديدة؟
وسرعان ما اختطفنا سلطان النوم الثقيل!

أنور محمدين
ولاية واشنطن

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.