طابور صاخب

طابور صاخب
  • 11 يونيو 2017
  • لا توجد تعليقات

ياسين حسن ياسين

مطر.. مطر.. أيأتي مبكراً هذا العام؟
لطالما كان يفعل ذلك في أزمان غابرة. وقتها كان الخريف يبدو جريئاً، مقداماً، متهوراً، يأتي قبل أوانه؛ ليعانق الرمال الذهبية، ويبثها عشقه الأبدي للنماء، وتعطشه السرمدي للسقيا. الأرض هي الأخرى كانت تتهيأ مبكراً لزخات المطر. ومع القطرات الأولى، تستجيب التربة، وتضوع أريجاً مسكياً فواحاً نسميه الدعاش. تخرج حشرة صغيرة مضيئة، هي الجوهرة، تطير قريباً من الأرض، وتملأ الأطفال غبطة وحبوراً. بذلك وحده يوقنون أن الخريف قد أظل ديارهم باعتدال هوائه وتباين أجوائه وتقلب سمائه.
ود غلباوي قرر هذا العام أن يزرع أرض أجداده في جهة الصعيد. إنها أرض قردد، طينية، متشققة، ذات شجر وأودية ذاخرة بمياه خور أبي حبل الذي يفيض من أعالي جبال النوبة. فهي أرض شديدة الخصوبة، صالحة لأنواع شتى من المحاصيل. سيزرعها سمسماً وطماطم، ومن شأن حصادها أن يدر عليه مالاً وفيراً، سيغطي نفقات تعليم أولاده الثلاثة، وبنته الوحيدة. أصبح التعليم في هذا الزمن الغشوم كالسلعة، تباع وتشترى. من لم يدفع نقداً، زجروه من بينهم زجر الكلب.
وضع ود غلباوي سرجه الخشبي العتيق على حماره الفاره المتين. أخذ معه مخلايته الجلدية البالية التي بهت لونها، واكتظت بأشياء عديدة لا بد منها في سفر بعيد يكتنفه المجهول. أخذ معه قطع الخبز الجاف، وملاية وبرش وسبحة وإبرة وخيط ومنقاش. لم ينس ود غلباوي أن يأخذ معه أيضاً فأساً ربما احتاج إليها لقطع أشجار تعترض مدخل المزرعة من جهة الشرق، وربما صلحت أيضاً سلاحاً يقيه شر الثعابين، والعقارب في أرض ظلت بوراً كل هذه السنوات منذ وفاة جده محمد أحمد، الذي استحق لقب غلباوي عن جدارة، وأورثه لأبنائه وأحفاده من بعده. كان جده ذلك كثير الجدل في شؤون الحياة، لا يقبل الأمور على علاتها دون تمحيص للأسباب وتأمل في البدائل جميعها. مثل هذا السلوك يسمونه في يومنا هذا مماحكة، ولم يكن ود غلباوي يعرف معنى المماحكة، إنما يرى أن تصرفه تصرف بديهي، بل هو سمة من سمات ذوي العيون المفتوحة، ممن لا يحبون الغافلين الذين تناسلوا تناسل النمل في أزمان لاحقة!
ابتعد ود غلباوي من مدينته الأثيرة، وأوغل في الصعيد. اصطرعت الأفكار في رأسه اصطراعاً.
من أين يأتي بالمال الذي يكفل تأجير عمال لمساعدته في مزرعة مساحتها عشرة أفدنة؟ كيف سيترك أسرته دون مصروف ويغيب وقتاً يستغرق موسم الخريف بتمامه؟ ذلك أن مزرعته تقع في منطقة تنقطع عن المدينة عندما يفيض أبو حبل. هل سيتجه إلى الاستدانة؟ ومن الذي يقرض مالاً دون ضمانة في هذا الزمان؟ هل يلجأ إلى البنك؟ يتحدث أمثاله من «الغلباويين» أن البنوك تسيطر عليها فئة ماهرة في استغلال الضعفاء؛ وهي فئة أشد مهارة أيضاً في تبرير أفعالها باسم الوطنية والدين. ود غلباوي لا يجد مسوّغاً للتعامل مع هذه الفئة، ولو من باب الإخلاص لوطنه والصدق في دينه. لن يتنازل لهم عن قيراط واحد من كبريائه.
في هذه المعمعة من الأفكار المصطرعة، تذكر ود غلباوي أن للمرحوم والده صديقاً يعمل تاجراً، ويملك معصرة للزيوت، ويعدّ من الرعيل الأول المؤسس لبلدتنا. إنه تاجر يخاف الله حقاً، ولا يقبل الغبن أبداً. بيد أن أحد معارف ود غلباوي أخبره مؤخراً أن ذلك التاجر قد بات قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس بعدما هيمن على السوق أثرياء الغفلة الذين يجهرون بموالاة السلطان.
إذا كان التاجر الطيب يوشك أن يفلس، فتلك مأساة. لكن ما مدى مصداق الأمر؟
مع ذلك، قرر ود غلباوي أن يجرب، فلعل وعسى! وبمرور الوقت، أخذته أحلام اليقظة على استبعاد شائعة الإفلاس، وبات على يقين أن التاجر الطيب سيقرضه ما يحتاج إليه للزراعة، لا سيما أن المبلغ المطلوب يعد محدوداً جداً، ومن المحتمل أن يعرض عليه التاجر قرضاً عينياً من سمسم وذرة بدلاً من النقود. وسوف يسدد له الدين في موسم الحصاد، نقداً أو عيناً.
وصل ود غلباوي القرية التي تقع مزرعته في طرفها الغربي. اتجه إلى بيت محمد جادين، وهو كبير القرية وعمدتها. لم يجد العمدة في بيته، بل قابل ولده الكبير وزوجه. قالا له إن العمدة سافر منذ يومين إلى البندر للعلاج من آلام مبرّحة انتابته مؤخراً في ساقه، وأعاقت حركته. وقد سافر بصحبة أخيه محمدين.
ود غلباوي ألح على ولد العمدة لمرافقته إلى المزرعة في الجهة الغربية من القرية، وهي الأرض التي تقع بمحاذاة غابة السنط، حيث توجد بئر القرية التي يستقي منها الأهالي، ويسقون بهائمهم من حوض كبير أعد خصيصاً لذلك.
كانت مفاجأة لود غلباوي عندما أخبره ولد العمدة أن كل الأراضي غرب القرية قد استحوذت عليها الحكومة واسـتأجرتها لأحد المستثمرين الأجانب، وهي بصدد الانتهاء من تدابير الإيجار. وأنها طلبت من الأهالي عدم الاقتراب منها.
كاد ود غلباوي أن ينفجر غيظا وحنقاً، وارتفع وجيب قلبه، وتعرقت جبهته واحمرّت عيناه. ابن العمدة كان حصيفاً إذ أدرك صعوبة الموقف بالنسبة إلى ود غلباوي، فأخذ يطمئنه بالقول إن أهل القرية رفعوا شكوى إلى محكمة المدينة التي تتبع لها قريتهم، وقد أوكلوا محامياً معروفاً من أبنائهم للدفاع عن حقوقهم في الأرض، وتفنيد خطل قرار الاستيلاء على الأراضي بحجة تركها بوراً طوال العشر سنوات الأخيرة. وأضاف أن المحامي قام مؤخراً بزيارة القرية ووقف على المزارع واحدة تلو أخرى، وقابل أصحابها فرداً فرداً، ثم مجتمعين في فناء المدرسة الابتدائية، وبدد مخاوفهم بقوله: إن المحكمة تقرر عقدها في غضون شهرين، وربما تستعجل الحكومة عقدها قبل ذلك من أجل إنهاء موضوع الاستثمار الأجنبي، وأن أكثر من جهة نافذة قد أكدت له أحقية الأهالي في أراضيهم، وأن الحكومة من المرجح أن تستأجرها منهم بمبالغ سخية.
ولد العمدة أضاف بصوت واهٍ لا يكاد يبين أن الأمر الوحيد الذي يضعف موقف الأهالي هو وجود بعض الممالئين للحكومة في وسطهم؛ وأن هؤلاء يزعمون أن مصلحة البلد ينبغي أن تعلو على مصالح أصحاب الأراضي.
ود غلباوي لم يحفل لمثل هذه الأباطيل المنكرة. كان يرى أن الحكومة قد طالما رفعت يدها من التعليم والصحة ومعاش الناس، فينبغي لها، والحال هذه، أن تبتعد عن المساس بحقهم الطبيعي المشروع في تنفس الهواء من حولهم، وما أراضيهم الزراعية إلاّ هواء ومتنفساً لهم في زمن خؤون.
وحتى لا يدخل في معركة لم يحن معتركها بعد، امتنع ود غلباوي عن مواصلة الحديث في الموضوع، وطلب من ولد العمدة مصاحبته في زيارة المزرعة على الفور. قال له ولد العمدة إن الحكومة أقامت نقطة تفتيش في الطرف الأقصى من الغابة، وعند مدخل الجهة الغربية حيث المزارع، وأن أفراد النقطة قد جيء بهم من أقاصي الأرض ولا يجيدون العربية، وهم لا يكترثون لكبير أو صغير، وأن من الخير له ألاّ يتجرأ ويذهب إليهم تفادياً لما قد يبدر منهم من جناية جسدية عليه. وحكى له قصصاً كثيرة تظهر تعدي الجنود على الأهالي، وخاصة بين النساء والأطفال.
كل ذلك لم يستطع أن يزعزع قناعة ود غلباوي بأحقيته في أرضه، ولم يضعضع رباطة جأشه. وأخيراً أفلح في اقناع ابن العمدة ليذهب معه إلى المزرعة أياً كانت العاقبة.
ذهبا معاً نحو الغابة على قدميهما مخافة أن يتعرض الحمار للمصادرة من قبل الجند، كما حذرتهما زوج العمدة بنبرة صارمة ووجه عابس. وأضافت أن عاقبة ذهابهما لا يعلمها إلاّ الله وحده. وفي نظرها أن هؤلاء الجنود من المحتمل أن يرتكبوا جناية في حق أهل القرية انتقاماً منهم لتعدي ود غلباوي، ومحاولته زيارة أرض أصبحت في حكم المعروضات الجنائية التي ينبغي التحرز من مسها.
أخذ الجنود ود غلباوي بقوة السلاح وألقوا به في كوخٍ صغيرٍ مسقوفٍ بالزنك، ريثما تحول إلى فرن يفور لهيباً عندما ارتفعت الشمس قيد رمح. ظل ود غلباوي واقفاً مرة، جالساً القرفصاء مرات. تعرض في أثناء ذلك إلى شتى ضروب التعدي الجسدي والفحش اللفظي بلهجة ركيكة غير مألوفة.
كان الجندي الموكل بود غلباوي يستكمل لغته غير الواضحة بإشارات بذيئة لا تخفي على ذي عينين. أما ولد العمدة فقد طلب منه الجنود الابتعاد تماماً عن المكان، وإلاّ سيتم احتجازه فوراً. رجاه ود غلباوي أن ينصرف، وأكد له أن الأمور لن تسوء أكثر مما وصلت إليه من سوء الآن.
ود غلباوي بات تلك الليلة سجيناً داخل الكوخ الصغير الملتهب، وعرف أنهم سيرحلونه صبيحة اليوم التالي إلى المدينة. سيصبح ضمن المعروضات الجنائية في القضية.
الهرج والمرج عمّ بلدتنا من أقصاها إلى أقصاها.. وانتقل إلى القرى المجاورة، إذ تردد أن الحكومة حددت سلفاً نتيجة المحاكمة مع القاضي ووكيل النيابة، وأن المعروضات ستتم إبادتها جميعاً. ما معنى أن تُباد المعروضات؟ ما مصير ود غلباوي؟ تساءل الأهالي في لهفة دون أن يهتدوا إلى جواب يشفي غليلهم.
الهرج والمرج زاد صخبه ووصل إلى المدرسة في بلدتنا، التي ارتجت فصولها وساحات اللعب فيها ارتجاجا عنيفاً. ذلك اليوم، أحال الطلاب طابورهم الصباحي إلى صيحات غضب وتحدٍ وزئير… وبجرأة الصبيان، وشجاعة الأشبال، قالوا سنحرق المحكمة، ونقتل كل من يتآمر على أراضي القرية.. بل وأراضي القرى الأخرى.. بل الأراضي في كل رقعة من بلدنا الجميل. بعضهم ذهب شوطاً بعيداً للقول إنه سيلقي الحجارة في وجه أفراد الحكومة والمستثمرين إذا ما وطأت أرجلهم القذرة هذه الأراضي، ودنست روائحهم النتنة طيب ترابها. قالوا إن محاولة استثمارهم في شقائنا لن تكون نزهة يسيرة وعملاً يعود عليهم بالربح كما يؤملون. قالوا إن أجدادنا استطاعوا أن يبطلوا أفاعيل الإنجليز، بمدافعهم الرشاشة وعيونهم الشرسة وأحابيلهم الماكرة؛ فهل نعجز نحن أمام هؤلاء؟ هيهات!
دوت صرخاتهم وهتافاتهم، وزُلزلت الأرض زلزالها. كانوا كصقور كاسرة، تحلق عالياً في سماوات بعيدة، تستنشق هواء صافياً يزيدها منعة وجسارة، لتحوم وتناور يمنة ويسرة قبل أن تنقض على فريستها بحذاقة ودقة وبعد نظر.. هتافاتهم المدوية غادرت أسوار مدرستهم، وحلقت في الأزقة الضيقة المتعرجة، ورويداً رويداً تجرأت لتخرج إلى الشوارع الرحبة. صداها رددته المباني الشعبية المبنية من آجر محلي رخيص. بساطة عباراتهم ونغماتها تلقفتها اسماع الرجال والنساء، هنا وهناك. في السوق، كما في ورش الحدادة وأماكن تجمعات العمال، ارتفعت أصوات تحث على فك أسر ود غلباوي، بل دعا بعضهم إلى السفر بالأرجل إليه، وإحضاره إلى بلدته دون أن يطاله المزيد من الأذى.
حقاً كان الطلاب يتصدرون الهتاف والإنشاد. كانوا كصقور كاسرة لا يجد الخوف إلى قلوبها سبيلاً.. سوف تنقض على فريستها.. حتماً سوف تنقض .. عاجلاً كان أم آجلا.

التعليقات مغلقة.