من هو المهمش؟ وحديث عن مفهوم المركز والهامش مرة أخرى

من هو المهمش؟ وحديث عن مفهوم المركز والهامش مرة أخرى
  • 18 أغسطس 2019
  • لا توجد تعليقات

مبارك أردول

في خضم الجدل الذي يدور هذه الأيام عن المهمشين والمركز والهامش كان لابد لنا أن نعود مرة أخرى لنتحدث عن هذا المفهوم حتى نستطيع أن نوضح وجهة نظرنا، ليستبين المُطّلع ما نفهمه عن القضية بقدر ما علمنا وأعملنا بمنهج تحليل الأوضاع وفق مفهوم التهميش والتمركز والتي تتجلى ظواهرها في بلادنا، وكيف يمكن أن نخطط للحلول على ضوء تلك النظرية.

لقد ظهرت هذه النظرية في الخمسينيات والستينيات وازدهرت في السبعينيات من القرن الماضي من قبل الرواد اليساريين من مدرسة التبعية (Dependency) في المستعمرات القديمة والجنوب العالمي عموما وأمريكا الوسطى واللاتينية على وجه التحديد، وقد عرفوا أيضاً بالماركسيين الجدد (New-Marxist) حيث كان لهؤلاء صولات وجولات في التفكيك المنهجي للرأسمالية ولسياسات النيوليبرالية الغربية التي أفقرت شعوب العالم ونهبت ثرواتها وتحكمت في قرارها السياسي ومصائر شعوبها وجعلتهم فقراء معدمين وتابعين لا إرادة لهم.

يجدر بنا أن نذكر من هؤلاء الكوكبة المنظرين السيد اندريا قندر فرانك وبول باران وبول سويزي و راؤول بشبيك وسمير أمين وولتر رودني ودي سانتوس وآخرين ممن نحتوا عقولهم في هذا المجال ليثبتوا كيف عملت هذه السياسات على إثراء النخبة وكذلك إفقار شعوب العالم في نفس الوقت.

سنستعرض هنا المفاهيم المتعددة والجمعية للنظرية (النظام العالمي- البنيوية التاريخية – النيوماركسية) والتي توافق عليها أغلب هؤلاء العلماء عن تسمية المركز (Core) وكذلك الهامش أو المحيط (Periphery)، والمعايير التي اعتمدوا عليها لتقسيم دول العالم والبلدان على أساسها، وكيف تعمل الأنظمة وفق تلك النظرية، وسنتطرق للمبررات والآليات التي يستخدمونها والمؤسسات التي يعملون خلالها؟ وأين يقع السودان وفق ذلك التصنيف وكيف يمكننا أن نعكس أو نطبق ونسقط هذه النظرية على واقع بلدنا؟ وهل يمكننا أن نحلل أوضاع بلادنا وفقها وبالتالي يمكننا تلمس حلولها المثالية، أم أنها ستعقده ولا يمكنها أن توصلنا إلى نتيجة، وكيف انحرف من نقل عن النظرية ونسبها لنفسه واستخدم قشورها باعتبارها الجذور فأزموا بها الأمور المتأزمة أصلاً في البلاد؟

لقد توافق أغلب رواد هذه المدرسة على تقسيم دول العالم إلى أربعة أصناف تلعب كل دولة دورها في الاقتصاد العالمي، أُطلق على الصنف الأول منها اسم دول مركز المركز (وهي الدول الغنية والقوية في العالم مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها) والثانية دول هامش المركز (وهي الدول الصناعية الحديثة مثل كندا وهولندا واليابان ولها قوة أقل من الأولى ولكنها غنية)  والثالثة دول مركز الهامش(وهي الدول التي تتطور حالياً ولها حاجة من الثروة مثل الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل) والأخيرة دول هامش الهامش(وهي الفقيرة المدمرة التي تقع في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية).

ففي كل الدول هذه هنالك تقسيمان، الأول للعمل ؛سنأتي إليه والثاني طبقي ؛بحيث هنالك طبقة نخبوية صغيرة سياسية واقتصادية موزعة في كل هذه الدول مرتبطة ارتباط وثيق ببعضها البعض، هذه الطبقة النخبوية تحتكر وتسيطر على خمسة أشياء هي السلاح النووي والاستثمار في الموارد الطبيعية ورؤوس الأموال أو النقود والتكنولوجيا والإعلام، تحمي قرارها السياسي عبر المجموعة الدائمة في مجلس الأمن الدولي أو عبر التحالفات الإقليمية الأخرى مثل حلف الناتو ومجموعة السبعة الكبار والاتحاد الأوروبي على التوالي، وتستديم مصالحها والاقتصادية عبر مؤسسات النيوليبرالية التي تم إنشاؤها في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية مثل مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية بسياساتها المتعولمة المعروفة.

وتقسيم العمل فيها جوهره أن طبقة النخبة هذه تستخلص فوائدها عبر استغلال طبقة الجماهير العريضة الموجودة في دول الهوامش الثلاث بعد أن ثبتت سياساتها وهيكلت اقتصادياتها لصالحها والتي تقضي باستجلاب المواد الخام من ثروات معدنية وزراعية وكذلك العمالة الرخيصة من تلك الدول، وبالمقابل تصدر منتوجاتها لتباع في تلك الدول بأسعار فائدة مرتفعة.

هذا النظام يعمل على زيادة تخلف الدول الأخرى لصالح إثراء دول المركز ونخبتها، وتستغل آليات مثل النظام التعليمي بمناهجه وكذلك الدعاية والإعلام لاستدامة هذا النظام بامتيازاته، وتردد آلة دعاية هذه النخبة مبررات مختلفة مثل الدين والإثنية والمناطقية وغيرها من الأساليب الشعبوية كمجرد غطاء لغرض السيطرة، ولذلك تلاحظ أن دول العالم ونظامها يعدمه العدالة بحيث تسيطر أقل من ٥٪ على ٩٥٪ من موارد العالم والبقية فقراء معدمون وعطالة ومهاجرون يعيشون في حروب ومجاعات وكوراث وأوبئة، والنظام الذي تكدست فيه الثروات في يد الصفوة خلّف في جانب آخر كساداً في السوق أيضاً لايمكن معالجته.

لا شك أن بلدنا السودان وفق هذا التصنيف يقع ضمن دائرة دول هامش الهامش لأن دولتنا فقيرة ولا تأثير عالمي لها في السياسة والمؤسسات الدولية، بل أنها من ضمن الدول المثقلة بالديون، وتصدر المواد الخام والعمالة الرخيصة كبقية بلدان العالم التي مثلها في التصنيف في العملية التبادلية غير المتكافئة، ولذا من يقولون إن السودان كله مهمش يجانبهم الصواب في حديثهم؛ ولكن هذا لا ينفي وفق نفس التصنيف أن هنالك نخبة وطنية سياسية واقتصادية موجودة في بلدنا تحمي مصالحها ومصالح النخبة العالمية وتكون بالأحرى وكيلة لها، وطالما هناك نخبة فأيضاً المهمشون موجودون في السودان، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه من هو المهمش وكيف نعرفه ومن الذي تنطبق عليه هذه الصفة؟

لقد ذهب البعض في وصف المهمش في السودان بأنه الإنسان الأفريقي (غير العربي) القادم من غرب أو جنوب البلاد سواءً كان دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق أو شرق السودان أو جنوبه في السابق، وقد ربطوا ذلك بالإثنية، مقابل الآخر الذي ينتمي إلى الإثنيات العربية بانه (جلابي) أو نخبة أو صفوة أو غيره من الأوصاف المقابلة للمهمشين، ويرجح أصحاب هذا الادعاء الإثني أو المناطقي قولهم نسبة للتراكمات التاريخية التي مكنت النخبة الوطنية السياسية والاقتصادية المنتمي أغلبها لوسط وشمال السودان من السيطرة على الحكم منذ الاستقلال وبسط بعض الخدمات من تعليم وصحة، وكانت اللغة العربية التي يتحدث بها أغلب سكان تلك المناطق هي السائدة الآن، وكذلك ألحقت دينها كدين للدولة، فعند هؤلاء مجرد انتماء النخبة لوسط وشمال البلاد يعني أن كل سكان هذه المناطق يمثلونها،  أو أن النخبة تمثلهم، وهذا قول مردود لأن النخبة بطبعها مجموعة صغيرة تتخذ المبررات أعلاه لإخفاء نفسها، وهذا لا يعفي أن تشمل نفس طبقة النخبة سكاناً من المناطق التي ينتمي لها المهمشون.

 وحسب رأينا وفهمنا للنظرية نرى أن المهمش هو أي شخص تم استبعاده من لعب أي دور وإقصاؤه من مراكز السلطة واتخاذ القرار السياسي وكذلك من مصادر السيطرة على الأموال والموارد، بل تم استغلاله بنهب ثرواته وتشغيله كعامل بغض النظر عن انتمائه الإثني أو المناطقي أو الديني، أو ظل عاطلاً ومعدماً، وحتى هذه الطبقة (المهمشون) ليست صماء بل مقسمة فنجد النساء في أسفل قاعها كما قال دكتور “جون قرنق” إنها مهمشة المهمشين، لأنها فوق كل ذلك تتعرض لتهميش متوارث يمنعها من الوصول لهياكل السلطة والتمتع بحقوقها في العمل ويصفها بالضعف وحتى من التمتع بحقوقها في الميراث بمبررات العادات والتقاليد وغيرها.

وبالمقابل النخبة المسيطرة سياسياً ومتحكمة اقتصاديا لسنا في حاجة كبيرة لتوصيفها، فمن سماتها جاء اسمها، وتشمل النخبة كل المتحكمين بغض النظر عن انتمائهم الهوياتية (دين وعرق وجهة وغيرهم)، ووفق هذا التصنيف يمكن أن يكون واحداً من سكان جنوب كردفان ضمن طبقة النخبة وبالعكس يمكن لأحد سكان الخرطوم  أن يكون من المهمشين.

فالقضية كلها مرتبطة بالسياسات التي تمكن مجموعة مصغرة من الاستئثار بامتيازات الغالبية  السياسية والاقتصادية واستدامتها وإن استخدمت المبررات الهوياتية كغطاء للتعبئة والتحشيد، و اقتصار توصيفها على المبررات الهوياتية فقط هو معالجة للقشور ومفارقة للجذور .

إن التعريف السليم لطبقة المهمشين وكذلك طبقة النخبة ستمكننا من تفكيك وإزالة هذا التهميش وأسبابه وآثاره، ليس بالاستعداء والاستقطاب الإثني والجهوي الذي نراه، بل بتفكيك سيطرتها على السلطة والحكم عبر العملية الديمقراطية والانتخابات، وذلك بإشراك الجماهير في تحديد وتسمية حكامهم واستبدالهم بشكل دوري، وأيضاً أن تتولى الجهات المنتخبة تخطيط السياسات الاقتصادية المنحازة لصالح الجماهير وتوزيع الموارد الناتجة من النمو والخدمات والتنمية وغيرها بعدالة، وسن التشريعات التي تحافظ على الخصوصيات الثقافية والقومية لكل منطقة، وليس كما أطلق بعض وزراء المالية الأوروبيون في إحدى لقاءاتهم لوزير مالية اليونان يانيس فاروفيسكي بأنهم لن يسمحوا للعملية الديمقراطية والانتخابات بأن تغير الخارطة السياسية وخاصة المتعلقة بالسياسات الاقتصادية، وهم كانوا يرون في الانتخابات تغييراً في الحكام فحسب وليس في السياسات والبرامج.

وتغيير هذه النخبة وسياساتها لن يكون مقصوراً على حدود الوطن وحده بل يتعدى الإقليم ويصل إلى العالم، ولكن مشوار المليون ميل دوماً يبدأ بخطوة، فاتحدوا يا مهمشين.

 17 أغسطس 2019م

 من المنفى الإجباري

المراجع:

١. خطاب جون قرنق في حفل توقيع اتفاقية السلام ٢٠٠٥م.

٢. اندريا غندر فرنك – تنمية التخلف .

٣. سمير امين – محاضرة منشورة على اليوتيوب في جامعة بالصين.

٤. نبذة تعريفية عن نظرية التبعية – معهد ليو بجامعة كولومبيا البريطانية.

الوسوم مبارك-أردول-

التعليقات مغلقة.