الغدار دنقلا العجوز: كنوز جوف الأرض 2/1

الغدار دنقلا العجوز:  كنوز جوف الأرض 2/1
  • 30 ديسمبر 2019
  • لا توجد تعليقات

دون تخطيط مسبق كأن منادياً هتف بأذني كنت ضمن ركاب بص سفري لقرية الغدار ريفي دنقلا العجوز هذه البقعة التي أعشق ترابها أرض أجداديي، التي ضمت جسد أبي أسكنه العلي القدير الفردوس الأعلى، بعد أن قضي عمره كطواف بكل بقاع سوداننا شمالاً وغرباً شرقاً وجنوباً.

وما شجعني أن مدير الترحيلات الرجل الشهم صديق كليدة أوجد لي مقعداً مريحاً بالباص، والأسطى كليدة قبل سنوات أيضاً كان دليلي ومرشدي، حيث سرد لي نبذة عن كل قرية من الغدار لكرمكول الطيب صالح، وحتى مشارف أم در التي دخلناها، كأننا في معية البطل محمد أحمد المهدي، فكانت بحق رحلة ماتعة علي امتداد البصر وغنية بما نحمله من هدايا الأهل من تمور طازجة في نهايات موسم حش البلح الشهير بتلك النواحي.. بركاوي وقنديلة وسمن وعسل شاطرهم في رحلتي الشهر الماضي القريب فروت والبرتقال والليمون الطاعم، رغم حموضته.

وقد حدثني اثيرون أن موسم المانجو أيضاً حقق نجاحاً حيث نوع المزارعون حقولهم وزينوها بتحويل بعض أملاكهم لزراعة الفاكهة بدلاً من التمور التي اشتهروا بها منذ القدم، والتي أثبتت نجاحها التنافسي تسويقاً، واحتلت مكانها بين وجباتهم.

ظهرت ملامح جبل الغدار كأنه أسد ضخم ذو أجنحة فضفاضة وأرجل يرتكز بها علي مساحة واسعة كحارس مغوار أمين قوي وحنون علي تلك البقاع المباركة والتي تختزن الكنوز في جوفها، وبين جنباتها ملامح آثار جلية للنظر لا تقول إلا أنها كانت مدينة عامرة تضج بأجراس الكنائس والرهبان والرعية بأسواقهم ومتاعهم، وربما اشتق أسم دنقلا العجوز الى ما آلت اليه، حيث يستشعر الزائر أن ساكنيها الاوائل هجروا مساكنهم وعدتهم وعتادهم، ونزحوا الى جوار مسرى النيل، فهل يا ترى كان هذا النزوح نتاج لحرب ضروس رغم ان ما تحدثنا عنه الدلائل ان الاسلام دخل لهذه البقاع بسلمية، حيث تسجل كل الشواهد ان اتفاقية البقط المنحوتة علي قطعة رخام أعلى المسجد ” الكنيسة ” او مقر ملك مملكة المقرة تقول بهذه السلمية، التي ما زالت مسطرة علي جباه سكانها نابعة من قلوبهم الصافية وأياديهم الحاضنة لكل من يزورهم.

فدنقلا هذه التي احدثكم عنها هي اول مدينة وطأتها اقدام صحابة الرسول صلي الله عليه وسلم وجيوش الاسلام والدعاة من بقاع الارض وبها أول مسجد رفع فيه اذان حي علي الصلاة حي علي الفلاح تبعدحوالي ٣٧٥ من العاصمة الخرطوم وتقع علي الضفة الشرقية من النيل وتعتبر آخر مناطق النوبة السودانية من جهة الجنوب مدينة تاريخية موغلة في القدم ما في باطن جوفها لم ينجلي حتى الان خاصة تسيدها في فترة المسيحية وبدايات دخول الاسلام

قبل سنوات ألتقيت بفوج سياحي قادم من مدينة مدريد اسبانيا ذكرت لي إحداهن أن سبب زيارتهم أن هذا المبنى هو أقدم مبني نوبي من طابقين في العالم، حيث كان مقراً لملك مملكة المقرة المسيحية، التي ينتشر في محيطه عدد من الاديرة والمعابد، ما يعرف ” أبادماك ” إله الحرب والصحراء عند الكويشيين والغدار دنقلا العجوز احدى اهم مركز للحضارة النوبية كما تقول الاثار الماثلة بها مجموعة من الاهرامات التي يطلق عليها الأهالي ال ٩٩ بنية ويعتقدون بصلاح من بنوها، وأنهم سلالة لهولاء الصالحين وجلهم دخلوها مع الفتح الاسلامي، كأنما حضارة مسيحية سادت ثم بادت لتحل محلها إسلام بالفطرة النقية التقية، وهي ما ستكشفه الاستكشافات الحديثه، وليت وزارة التعليم العالي تشجع الدراسات العميقة للآثار للكشف وتجلية هذه الكنوز التاريخ والحضارة المدفونة ما بين الرمال والحجارة الصلدة وارض طينية خصبة وغنية .

وانا اتجول وسط هذه المدينة الكنز والأثر الجاذبة المدهشة كنت ابطيء خطواتي ففي كل موطىء قدم تشعر كأنك تطأ علي كنوز ثمينة تركها أهلها وناسها أجدادنا الى حين ميسرة فهذه بقايا لزير ماء، وهذه بقايا ل “قسيبة ” مخزن الفول والقمح من محاصيلهم الموسمية التي ما زالت تشتهر بها تلك البقاع.

وما جعل لزيارتي للمنطقة الاثرية أو حلة فوق كما يطلق عليها الأهالي ممكنة وغنية بالمعلومات الشيخ الوقور صلاح موسى أدام الله فضله، ووجود أعضاء البعثة البولندية للآثار ، فدخلنا برفقتهم الكنيسة، التي ما زال كثير من اسرارها تحت طور فك طلاسمها ورسوماتها وحكاويها والتي إن أفصح عن خباياها ومكنوناتها وخطوطها ورسوماتها وألوانها ورموزها ستحدث العالم عن مكنون تاريخي عميق غني، وستدهش المهتمين وطلاب العلم بأسرارها وخباياها الثمينة، التي ربما تغير في صفحات من تاريخ حضارة دنقلا العجوز الشامخة علي مر العهود، وتقلب السنين التي زاوجت ما بين مركز للديانة المسيحية لانطلاقة راسخة وقوية ودخول الإسلام، فما أجمل هذه البلاد التي ترقد في أمان الله على ضفة النيل المتدفق في هدوء احياناً، وزمجرة واندفاع في أحايين اخرى، وتماوج وانسياب هاديء في كثير من الاوقات مشكلاً مع أشعة الشمس في شروقها وغروبها ايقونة جمالية تمنح اهلها وساكني الغدار هذه السنحة القمحاوية والهدوء والطيبة التي تعانقك من القلب للقلب، فتغرس في الدواخل المحبة والألفة والأمن والأمان .. ويبقى للحديث بقية.
عواطف عبداللطيف
اعلامية وناشطة اجتماعية مقيمة بقطر
Awatifderar1@gmail.com

التعليقات مغلقة.