الغدار دنقلا العجوز (2/2) .. الفطرة النقية والتربة الغنية

  • 06 يناير 2020
  • لا توجد تعليقات

عواطف عبداللطيف

تصيح الديكة فتتبعها عصافير فالعجول والحمير وجريد النخيل تتمايل طرباً وخرير المياه يتدفق كأنما معزوفة موسيقية في حضرة شروق الشمس وقبل أن يتمدد دفئها وشيء من إضاءتها للحقول الخضراء علي امتداد البصر متجاوزاً الحيشان الطينية الشاسعة التي دخلتها المدنية بمبرداتها ومكيفاتها برغم ذلك ما زال أهل تلك النواحي يبكرون ” أسماء” ذات السنتين إلا قليلا تزيح كل سواتر وضعتها أمها لتحول بينها وبين وصولها لزريبة الأغنام و لفك علاقتها الحميمة بإحدى ” السخيلات ” ذات الجسد الطري .. تماما كعدم اكتراثي بتحذيرهم أداء صلاة الفجر وسط شجيرات النخيل فمشاعري الفياضة طقت علي خوفي من دبيب الارض فقط يلتبسني شعور فياض بالدعاء لمن غرسها ومن سقاها حد الارتواء أن الطبيعة عالم متداخل مدهش وله بريقة وألقه يلفك في عوالمه الغير منظورة ..

حينما تكون بالغدار من الصعب الاعتذار عن ارتشاف كاسات الشاي المنعنع او فنجان القهوة المعتقة بانفاس محبة الاهل فالضيافة فرض مقدس والكرم خصلة متأصلة وزيارتي لدنقلا العجوز وموسم “حش البلح” أدفقت أدمعي ورقص قلبي فرحا فالصغير قبل الكبير يعانقك بمكامن المحبة قبل اطراف الايادي ولم ترضى الحاجة “شانتنين بت ساتي ماجد ولا الحاجة عاجبة وسيدة ” وغيرهن إلا ان تكون هديتي أجود انواع البركاوي وما يعرف بالماكولات.

خرجت صباحا برفقة مريم كانور شقيقة أمي وتؤامة روحنا لزيارة حي القضوة تتبعا لسيرة طيب الذكر “ساتي ماجد شيخ الاسلام بامريكا ١٩٠٤/١٩٢٩” كنا نسير عكس سير البكاسي المتوجهة لسوق السبت فكانت سانحة فريدة لركوب الكارو فتندر الجميع علي خالتي فبلدياتنا يتقنون النكتة والتعليق الطريف فكل من لمحنا لوح بأياديه سلاما ومستنكرا علي بت كانور ان تأخذني بكارو وهم يجهلون انني ما سعدت برحلة في حياتي تماثلها فنحن أهل المدن حرمنا من كثير ما يلف الريف ويحرك دولاب حياتهم اليومية النقية والبسيطة عادت بي الذكريات لرحلتنا من مدينة متشيجان لديترويت حينما هطلت أمطار غزيرة فانتحينا لناحية معرض ايكيا وما ان خرجنا لمتابعة سفرنا إلا والشوارع تلمع براقة كأنها أغتسلت ترحيبا بدخولنا لمدينة ديترويت ” مدينة العرب”، كما يطلق عليها وبما انها مدينة تنام مع تباشير المساء اضطررنا للبحث عن فندق للمبيت وكأن الحظ لعب لصالحي حيث استدلينا علي فندق عتيق بصالة أستقباله اول سيارة فورد صنعت بامريكا كنت اقضي جل أوقاتي ألامس اطرافها، كأنها تحادثني ان ساتي ماجد قد شارك في صناعتها والذي اتيت لتتبع سيرته ومساره ذلك الفتي اليافع الذي غادر دياره الغدار في وقت لم تكن تتوافر الطائرات ولا السيارات الفاخرة السريعة لاكتشاف بلاد تموت من البرد حيتانها غير اندماجه في مجال الدعوة والتصدي لقسيس ابطالي لتصحيح افكاره وكتابته في صحيفة نيويورك تايمز مناظرا حينما استقر بمدينة نيويورك ومتابعة امور ومظالم البحارة اليمنيين الخ سميته في احدي مقالاتي ” كولمبس السودان” الخالة شانتنين حدثتني بذاكرة قوية عن تاريخ الاسرة التي هاجرت من الجزيرة العربية لبلاد السودان واستقرت بدنقلا العجوز عاصمة دولة المقرة المسيحية والغنية بالاثار الدفينة في باطن الارض، التي لاحت بعض خيوطها مما يمكن ان تغير فيً كثير من صفحات التاريخ وتسلسل الحضارات وربما جزء من هذه الاسرار دفينة بين شجيرات النخيل الشائخة التي تصارع السنون وتقلبات الازمنة وتأبى أن تنحني لتحدثنا ان الاقواياء لا ينزاحوا للعواصف وإن ينحنوا لمرورها لان ثقافاتهم تنتقل جيلا بعد جيل وهذا هو الارث الذي يختزنه انسان مدينة الغدار دنقلا العجوز الغنية بإنسانها المعتدة بأنسابها وجريان نيلها المعطون بالطمي الغني الذي جعل انسانها كريم طبع معطأءة يحفر ارضه ويسقيها ويدس في كبدها كل ما يجعله عزيز النفس تلمسها في روح الشباب اللذين هبوا مع تباشير ثورة ديسمبر انسجاما واطروحاتها وفلسفتها ولاعادة ترويسة التنمية المستدامة.

حدثني د صالح محمد عثمان حيران خبير الامم المتحدة ان أهل الغدار في الأربعينيات هم من أسسوا الجمعية الزراعية التعاونية واستبدلوا السواقي بالوابور لضخ المياه لأغراض الزراعة كما ان أهل الغدار (جد المية) كانوا من أوائل من فتحوا طريق العربات (اللاواري) بين أمدرمان و دنقلا. 


كما كان مسيد الشيخ محمد احمد عوض منارة جذبت العديد من الحيران من القرى شمالاً و مثال لذلك جدي عثمان حيران الذي جاء من مراغة شمال دنقلا العرضي طلبا للعلم وانتهى شيخا للحيران بعد حفظ القران و تزوج وانجب في الغدار.

ويبقى للحديث بقية لنحدثكم عن المؤسسات التعليمية وحراسها من معلمين ومعلمات تربويين حملوا هموم التربية باصلتها رغم ضيق ذات اليد فكانوا لنا خير عون لتجديد سقوف فصولها الآيلة للسقوط وكثير من تلك الرحلة الموفقة


اعلامية وناشطة اجتماعية مقيمة بقطر
Awatifderar1@gmail.com

التعليقات مغلقة.