الحاجة إلى صياغة تنبع من تربة السودان

في وداع فاطمة أحمد إبراهيم: نادت بالعدالة الاجتماعية ودافعت عنها

في وداع فاطمة أحمد إبراهيم: نادت بالعدالة الاجتماعية  ودافعت عنها
  • 15 أغسطس 2017
  • لا توجد تعليقات

د الطيب حاج مكي

الكتابة في وداع السيدة فاطمة أحمد إبراهيم -رحمها الله – يدفع إلى التهيب والتردد. ولكن يصح القول إن الكتابة عن أمثال الفقيدة مغر ومحفز للتناول.

لا شك أن ما شد السودانيين إلى فاطنة أسلوبها وجرأتها. فهي بوصفها امرأة في مجتمع محافظ صادمت أعرافاً، وهاجمت مؤسسات رأت في طرحها شيئاً لا يخلو من الغرابة. وخصوصاً حين ربط المجتمع بينها والتزامها بشعار اليسار.

وقد تميزت فاطمة خلال حياتها بدعوتها إلى تعميم مبدأ العدالة الاجتماعية والدفاع عنها. وكانت من المطالبين بالحريات العامة، وخصوصاً بعد إعدام النميري زوجها الشفيع أحمد الشيخ. لم تكتف بتلك الشعارات، بل كانت لها أفكار قد نتفق أو نختلف معها حولها، ولكنها كانت مؤمنة بها.

أدت الفترة التي برزت فيها فاطمة دوراً مهماً في لفت الأنظار إليها، مثلما أدى التسامح السوداني دوراً مهماً في نجاحها، وصعود نجمها تحت شعار العدالة الاجتماعية.

ففي فترة الستينات كانت العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة ومحاربة العادات والتقاليد الاجتماعية الضارة معان لها بريق، وكانت موضوع الساعة. ولكن ما لبثت أن صارت أكثر شيوعاً في السودان، وخصوصاً بعد مشاركة اليسار نظام السفاح جعفر نميري الحكم. فقد تبنى آراءهم، وعمم قاموسهم في صحف النظام، ولكنه أفرغه من اي محتوى. ثم هبت نسمة على المستوى العالمي أسهم بها المفكر الأمريكي جون راولز من ناحية إعادة تعريف مفهوم العدالة الاجتماعية، وذلك بإعادة صياغته في نظرية متكاملة بحسبان أن العدالة نوع من الإنصاف بين المواطنين، ثم تحولت العدالة الاجتماعية إلى رؤية شعبيه شائعة الاستخدام وأممية؛ إذ أصبحت ركيزة أساسيه في قياسات برنامج الأمم المتحدة لمدى وجود تنمية بشرية في دول الأعضاء بالمنظمة.

وعلى الرغم من ترويج نظام نميري شعارات اليسار، لكن بعد غزو النميري الحي الذي ولد فيه (ود نوباوي) وحرقه أطفال مسجده بتأييد من اليسار انقض على حلفائه الشيوعيين، فتراجع الشعار، وتراجع معه حضور الحزب الشيوعي السوداني على الساحة السياسية. ثم جاءت موجة لم تبق ولم تذر على إثر انهيار المنظومة الاشتراكية، وتحلل الاتحاد السوفييتي.

هذا الوضع ساعد على صعود الليبرالية التي حاول ملء الفراغ بممارسات شجعت المبادرة الفردية والخصخصة، وإن أبرزت تيارات شعبوية وداعشية موغلة في تخلفها.

وقد أكدت هذه الظواهر إسهام المفاهيم الاشتراكية التي طرحتها فاطمة وجيلها بأدوار إيجابية، من نواحي تصويب النظرة لدور الدولة السودانية في التنمية المتوازنة، وتحقيق العدالة بين المجموعات السودانية على قدم المساواة.

كما أن مرحلة استيلاء نظام جماعة الشيخ حسن الترابي على السلطة في عام 1989م أكد أهمية العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة؛ لأنه في هذا العهد انتشر تطبيق نموذج اقتصادي رأسمالي كلاسيكي في السودان، تحللت الدولة السودانية فيه من أي التزام نحو مواطنيها، فعمّ الفقر، ولحق بمفهوم التنمية العادلة تشوهات لا أول لها ولا آخر. فقد غابت الدولة السودانية عن أبجديات شروط صحة توجهها الاقتصادي، فهي لا تدعم التنافسية للسلع السودانية، ولا تدعم الأبحاث الزراعية، لا عجب أن فقدت جميع أسواقها التقليدية. على أن غياب الدولة دفع الجمهور السوداني للمقارنة بين نهجين، نهج جماعة فاطمة الاشتراكي، ويشاركهم أغلبية الجسم السياسي السوداني بتعديلات عند حزب الأمة وبين جماعة الإخوان. أحيانا تتم المقارنة بين النظام الاشتراكي والنظام الإسلامي الذي روجت له الإنقاذ، ومهما يكن، فإن أغلبية القوى السياسية السودانية تنادي بالتوزيع العادل للموارد الوطنية، على أساس المواطنة. والجدارة أن تكفل الدولة لمواطنيها الضرورات الأساسية للعيش اللائق الكريم الذي يصون كرامتهم، ويحفظ إنسانيتهم.

وعلى عكس حدة فترة الستينيات والسبعينيات يبدو من توجه القوى السياسة السودانية بما فيها اليسار أنها قد وصلت إلى مرحلة من النضج الذي يواكب طرح جون راولز، من ناحية إلزام الدولة بمساعدة الشرائح الضعيفة، حتى تتحقق لهؤلاء العدالة، وتصبح المنافسة بين جميع السكان قائمة على أسس من العدالة القانونية.

إن طرح جون راولز وبعض أبناء مدرسته فيه استيعاب لمفاهيم اليسار، وإكمالها بما ينقصها من ناحية تأكيد الحرية الفردية، بوصفها حقاً من حقوق الإنسان، ومعنى من معاني العدالة في إطارها الأشمل.

إن مشكلة جيل فاطمة أنه لا يزال يلتزم بكلاسيكيات الستينيات، التي ليس من أولوياتها الحريات. ولهذا يربط الرأي العام بين تلك الكلاسيكيات وممارسات معظم الأنظمة التي أقامها اليسار العربي، فهي جمهوريات رعب تنافس أجهزتها الكي جي بي في القهر والسحل وإلغاء الفرد؛ ولهذا إن كان لإرث فاطمة أن يتقدم لا بد من مراجعة للتناقض من حيث المطالبة بالعدالة للطبقة العاملة، وفي الوقت نفسه، قمع حقها في التعبير، وفي المطالبة بالحريات السياسية.

المشكلة الأخرى أن السودان الذي غادرته السيدة فاطمة، رحمها الله، تردى في كل مؤشرات التنمية البشرية والعدالة الاجتماعية، وهذا يتطلب وفاقاً فكرياً يبلور المستقبل يصيغ عدالة اجتماعية من تربة السودان، وتتميز بتأكيد الحريات السياسية والاقتصادية، وتستهدف تحسين أوضاع الفقراء في الريف، وعلى مستوى الطبقة العاملة.

التعليقات مغلقة.