” التحرير” تنشر كتاب “موعد في القاهرة” ( الحلقة الأولى)  

انقلاب البشير دفعني لمغادرة السودان لأكثر من ربع قرن

انقلاب البشير دفعني لمغادرة السودان لأكثر من ربع قرن
  • 24 يونيو 2017
  • لا توجد تعليقات

وضع  الزميل  الصحافي والكاتب  حسن أحمد الحسن  اللمسات الأخيرة لطباعة  كتابه الذي  يحمل عنوان”موعد في القاهرة”، ولأهميته تنشره ” التحرير” في حلقات قبل أن يرى النور في المكتبات، لأنه يكشف أبعاد الأزمة السودانية الناجمة عن انقلاب  عمر البشير على نظام ديمقراطي منتخب ، ما أدى  إلى تشريد آلاف السودانيين وخروجهم من البلاد ، كما يعكس الكتاب  بعض جوانب حياة حسن  السياسية  والصحافية في القاهرة ، وواشنطن، والدوحة.

وإذ تحيي أسرة  صحيفة ” التحرير” الإلكترونية المؤلف على حرصه إهداء  الكتاب لـ” التحرير” لنشره ، نشير إلى  أن المؤلف  كتب أهداءً  في الكتاب لشريكته في مشوار الحياة بكل أفراحها وأتراحها زوجه  “الراحلة المقيمة” – كما وصفتها  حروفه-  لمياء هباني.

البروفيسور أحمد ابوشوك أستاذ التاريخ المعاصر والمقارن – كلية الاداب والعلوم – جامعة قطر كتب   تحليلاً شاملاً ورصيناً لمضامين الكتاب ، ولفت إلى أن المؤلف  كتب ” محاور بعض المشاهدات الإنسانية والأحداث السياسية التي عايشتها في مصر إبان حقبة معارضة نظام الإنقاذ الإخواني من القاهرة وعدد من العواصم، بوصفي شاهداً على بعض جوانبها، وكمراقب لتطوراتها في حقبة التسعينيات، وهي الفترة التي قضيتها ( حسن)  في مصر لأكثر من عقد عندما ، كنت مراسلاً لصحيفة البيان الإماراتية، ووكالة يونايتدبرس في القاهرة، ضمن كوكبة من الصحافيين والمعارضين والناشطين في فترة من أثرى فترات العمل السياسي والإعلامي السُّوداني الخلاق، الذي رغم فشله سياسياً في إحداث التغيير المطلوب في استعادة الديمقراطية والحريات الأساسية إلى رحاب الوطن؛ إلا أنه أسهم في انضاج التجربة السياسية السُّودانية”.

الأهداء الى ليمياء هباني

” الإهداء” الذي كتبه حسن  أحمد الحسن جاء مفعما بنبض المحبة  “إلى الراحلة المقيمة لمياء هباني شريكة هذه المحطات بكل تفاصيلها ،إلى أجمل بصمات إنسانية أتركها على مقبض باب الحياة محمد ودانية وحسام”.

و أهداه  أيضا “إلى الأستاذ والصديق  الجميل كاتب مقدمة هذا الكتاب البروفيسور أحمد إبراهيم ابوشوك أستاذ التاريخ المعاصر والمقارن – كلية الاداب والعلوم جامعة قطر”و “إلى كل الأصدقاء الأعزاء في مصر الحبيبة وكل مضارب الأحباب انسانا ومكانا أهدى هذه الفصول بكل شتائها وصيفها وخريفها وربيعها” .

 نص حسن التوثيقي  أشبه بكتابات حسن عابدين

 في ” تقديم ” الكتاب يرى البروفيسور أحمد ابوشوك أن المذكرات ضرب من ضروب السيرة الذاتية؛ لأنها تَعْرِضُ جوانب مهمة من حياة المؤلف في فضاءات الحراك الإنساني المتنوعة، واصفةً دوره الاجتماعي والسياسي والثقافي، دون أن تتَقَصَّى مسيرته الحياتية بطريقة تاريخية مسلسلة، ونتيجة لذلك أضحت أقرب لما يسميه هجيل بـ”التاريخ الأصل” الذي يكتبه المؤرخ الشاهد الذي ينقل ما راه، أو ما سمعه من الآخرين، وبذلك يحوّل الأحداث من واقعها الساكن إلى تصور ذهني متحرك. وإنَّ عملية التصور الذهني لأحداث الماضي تخضع لصراع جدلي بين “الأنا” المتمثلة في الراوي، و”النظرة الغيرية” التي تشكل قراءة الآخرين للأحداث نفسها، فضلاً عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أحاطت بمجرياتها وأسهمت في تشكيلها. ومن زاوية أخرى نلحظ أن الخيط الفاصل بين المذكرات والتدوين المهني للتاريخ خيطٌ رفيعٌ، علماً بأن المذكرات توثِّق لجزء من أحداث الماضي حسب انتقائية الراوي؛ لكن المؤرخ المهني يحتاج أن يقارن روايات الأحداث التاريخية بنظائرها من الروايات الأخرى؛ ليتحقق من صحة ثبوتها، ثم يعيد تركيبها، ويحللها في إطار الظروف المحيطة وفق منهج بحثي ملتزمٍ بالمهنية الأكاديمية. ولذلك يقول الدكتور حسن عابدين في مؤلفه الموسوم بـ حياة في السياسة والديبلوماسية السُّودانية: “ليس هذا الكتاب بحثاً أكاديمياً في تاريخ السُّودان المعاصر، أو حتى عن حقبة من حقبه الأخيرة. فمثل هذا يكتبه المؤرخون وفقاً لأصول ومناهج البحث العلمي. ولئن عدَّني البعض من زملائي وأصدقائي وطلابي في زمرة هؤلاء المؤرخين، بحكم التأهيل الأكاديمي، والتجربة المتواضعة في تدريس تاريخ السُّودان وإفريقيا. فإن ما أكتبه اليوم ليس تاريخاً، إنما هو شهادة على أحداث ووقائع تاريخية، وعلى تداعيات لها تاريخ … شهادة على أقوال، وآراء، وروايات، ومواقف آخرين، هي كلها أو بعض منها مادة للمؤرخين لكتابة التاريخ.”

فالنصُّ الذي بين أيدينا الآن يُشبه ما كتب الدكتور حسن عابدين من ناحية التوثيق التاريخي، وإن اختلفت الأحداث المروية، والمواقف المشاهدة، والشخصيات المحورية، والأزمنه المجددة لديناميات الحراك الإنساني، والأمكنة العارضة لمجرياتها. والدليل على ذلك قول الأستاذ حسن أحمد الحسن نفسه: “حظيت بالتواصل مع [الصحافي محمد علي] صالح في واشنطن، وكان يلح علىّ خلال تلك اللقاءات والمناقشات على ضرورة تدوين محاور بعض المشاهدات الإنسانية والأحداث السياسية التي عايشتها في مصر إبان حقبة معارضة نظام الإنقاذ الإخواني من القاهرة وعدد من العواصم، بوصفي شاهداً على بعض جوانبها، وكمراقب لتطوراتها في حقبة التسعينيات، وهي الفترة التي قضيتها في مصر لأكثر من عقد عندما كنت مراسلاً لصحيفة البيان الإماراتية، ووكالة يونايتدبرس في القاهرة، ضمن كوكبة من الصحافيين والمعارضين والناشطين في فترة من أثرى فترات العمل السياسي والإعلامي السُّوداني الخلاق، الذي رغم فشله سياسياً في إحداث التغيير المطلوب في استعادة الديمقراطية والحريات الأساسية إلى رحاب الوطن؛ إلا أنه أسهم في انضاج التجربة السياسية السُّودانية، وفتح آفاقاً جديدة للتواصل بين القوى السياسية السُّودانية  من ناحية، وبين النخبة السُّودانية والمصرية من ناحية أخرى.”

ويرى أبو شوك أن  ما دوَّنه يراع الأستاذ الصحافي حسن أحمد الحسن له قواسم مشتركة من حيث الطرح السياسي وكيفية التوثيق مع بعض المذكرات السُّودانية، مثل مذكرات خضر حمد (1910-1970م) ، ومذكرات الدرديري محمد عثمان (1896-1977م) ، ومذكرات محمد أحمد محجوب (1908-1976م) ، ومذكرات أمين التوم ساتي (1914-2004م) . نعم إنَّ الأستاذ حسن لم يتقلد مناصب دستورية في الحكومات السُّودانية المتعاقبة مثل هؤلاء، ولم يكن من رواد جيل الحركة الوطنية، لكنه كان ناشطاً سياسياً في حزب الأمة، ومديراً لتحرير صحيفة الأمة الناطقة باسم الحزب، ثم رئيساً لتحرير صحيفة الأنباء الأسبوعية أبان حقبة الديمقراطية الثالثة (1985-1989م) في الخرطوم. وفي فترة المعارضة السياسية ضد حكومة الانقاذ خارج الخرطوم عمل الأستاذ حسن محرراً ومراسلاً لصحيفتي الشرق القطرية والبيان الإماراتية في القاهرة، وبعد انتقاله من القاهرة إلى واشنطن عمل محرراً ومذيعاً في القسم العربي بإذاعة صوت أميركا، ثم معداً ومقدماً للأخبار في مؤسسةMBN  التابعة لمكتب الإذاعات الأميركية والخاضعة لإشراف وزارة خارجيتها. وتتمثل القواسم المشتركة بين الأستاذ حسن والسلف الوطني في الرؤية الحزبية للأحداث التاريخية، أي بمعنى أن الراوي حاول أن يوطِّن لنشاطه السياسي والثقافي والاجتماعي في إطار الحراك السياسي الذي عايشه والحزب الذي ينتمي إليه، ويوضح رؤية الحزب وتقيمه للأحداث التاريخية وفق منطلقاته السياسية، مع أصطحاب بعض المواقف والرؤى السياسية الأخرى التي كان شاهداً عليها، أو مراقباً لمراحل تشكلها في محيط الواقع. لكن هذا المزاج السياسي المشترك بين النخب الحزبية لا يمنعنا القول بأن مذكرات الأستاذ حسن مازت نفسها عن مذكرات الآخرين التي أشرنا إليها في أربعة جوانب:

أولاً: تعتبر مذكرات الأستاذ حسن أحمد الحسن مذكرات لاجيء سياسي، هجر وطنه نتيجة لسياسة النظام العسكري الانقلابي الإقصائية تجاه الخصوم السياسيين؛ لدرجة جعلت مصير بعضهم القتل، أو السجن، أو التعذيب، أو اللجوء خارج السُّودان. وعن مرارات اللجوء السياسي يبتدر المؤلف صفحة الهجرة القسرية بقوله: “إن احساسي بالرحيل عن مدينة أم درمان الأم إلى القاهرة …  بعد وقوع انقلاب الإخوان في بدايات الياذة النجوع يختلف في ظاهره وباطنه عن الرحيل عن غيرها؛ لكونه يحمل مخزوناً خاصاً ومختلفاً من الذكريات التي شهدت على تفاصيل الطفولة والصبا، كان ذلك في صباح اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام تسعة وثمانين أي بعد شهرين من وقوع انقلاب الإخوان بزعامة البشير، كنت في طريقي إلى مطار الخرطوم صوب القاهرة في رحلة طويلة، وممتدة، ومتشعبة، لم أكن أعلم أنها ستستغرق حتى خروج هذا الكتاب أكثر من ربع قرن، هي عمر نظام الانقاذ بكل قراءاته ومحطاته وإفرازاته حتى اشعار آخر .” وفي حديثه الماتع عن أم درمان وثَّق المؤلف لطرفٍ من تاريخ المدينة الشامخ، ولطرف آخر من سيرته الذاتية وعلاقته بالمدينة التي أحبها. وفي مواقع أخرى من السيرة يُشرك المؤلف القارئ في تذوق رحيق الأمكنة التي عاش بين ظهرانيها، وطبيعة الانطباعات والآثار التي تركتها على جدارية عمره المهجري سواء كان ذلك في قاهرة المعز، أو واشنطن. و ويضيف أبو شوك أن في بعض منعطفات المهجر السياسية تتقاطع مذكرات حسن أحمد الحسن مع مذكرات علي أبوسن (المجذوب والذكريات)؛ إلا أن الفرق بين الاثنين يتمثل في أن الأول كان راضٍ عن أداء الإمام الصادق المهدي في قيادة حزب الأمة؛ والثاني كان قادحاً في قيادة السيد محمد عثمان الميرغني، للحزب الاتحادي الديمقراطي الذي ينتمي إليه. ويتجلى ذلك في خطابه المفتوح للميرغني، قائلاً: “وما زال الاتحاديون يتذاكرون كيف أن رجالاً شرفاء مثل الأساتذة ميرغنى سليمان، وأمين عكاشة، وغيرهم شباب كثير، كانوا من أقرب الناس إليك، ضقت بنصحهم المخلص فضاقوا بك، وجفوتهم فجفوك، وأبعدتهم فأبعدوك. وما زال الاتحاديون يتذاكرون كيف سقط وفارق الحياة بفعل الغيظ، وجرح الكرامة، والضيم، رجال أعطوك من جهدهم ومالهم وذات أنفسهم ما شهد به الأعداء، ثم فوجئوا بالخذلان والعقوق؛ لمجرّد إبداء رأى مخالف لك. منهم د. عثمان عبد النبى، وإبراهيم حمد، ويوسف أحمد يوسف، وغيرهم كثير.” فلا جدال أن قضية الصراع في السُّلطة والقيادة السياسية قضية شائكة، ولذلك تمنيت لو وثَّق الأستاذ حسن أحمد الحسن لأسباب الصراع بين السيد الصادق المهدي وبعض قيادات حزب الأمة، والمخرجات التي ترتبت على ذلك، علماً بأنه تناول طرفاً من موقف الأستاذ علي أبوسن تجاه الميرغني وقيادته السياسية للحزب الاتحادي الديمقراطي؛ وتطرق لأسباب الخلاف بين المهدي وقرنق. فشهادة الحسن عن الأسباب والمسوغات التي أفضت إلى الانقسامات السياسية التي شهدها حزب الأمة كانت ستضفي بُعداً آخر على هذه المذكرات، وترقى بقيمتها التاريخية؛ علماً بأن المؤلف كان شاهداً لصيقاً على معظمها، إن لم يكن طرفاً فاعلاً من أطرافها المتصارعة.

ثانياً:  يقول أبو شوك إن هذه المذكرات تعكس  شذرات من حياة الأستاذ حسن أحمد الحسن السياسية والصحافية في القاهرة، وواشنطن، والدوحة، حيث اشترك في كثير من المواقف والمشاهد السياسية، بحكم وضعه الصحافي أو انتمائه لحزب الأمة، فضلاً عن أنه كان شاهد عيان على بعضها، ومراقب حصيف على بعضها الآخر. وهنا تكمن قيمة العمل التوثيقي لنشاط المعارضة في القاهرة وواشنطن، والشخصيات الفاعلة في قيادة العمل المعارض على المستوى الحزبي، والعسكري، ومؤسسات المجتمع المدني. وفوق هذا وذاك توثيق المؤلف لدور حزب الأمة في المعارضة، وعلاقته مع التجمع الوطني الديمقراطي، والقيادة الشرعيه للقوات المسلحة، والحركة الشعبية لتحرير السُّودان، وطبيعة مفاوضاته مع النظام الحاكم في الخرطوم.  ويستقيم ميسم التوثيق بملاحظاته وتعليقاته الثاقبة عن الدور المصري في دعم المعارضة السياسية في القاهرة، ووسائل العمل السياسي المعارض، وقنوات التواصل بين القيادات السياسية وجماهير الشعب السُّوداني، وكذلك الحال بالنسبة للفترة التي قضاها في واشنطن، حيث وثَّق للعمل السياسي في أوساط الجالية السُّودانية، وطبيعة علاقتها بمؤسسات الدولة والمجتمع المدني الأمريكية.

ثالثاً: تحوي هذه المذكرات بعض المقالات التي نشرها المؤلف في مناسبات مختلفة وعبر وسائط صحافية متعددة. ومن أكثرها إمتاعاً ومؤانسة حديثه عن سير بعض الشخصيات السُّودانية التي قدَّم لها بقوله: “السُّودان وطن يذخر بنوع نادر من الرجال والنساء، قلما تجد شبيها لهم؛ لكنهم يمضون في تواضع كالأنجم، بعد أن يهدوا الناس طريقاً للعبور إلى غاياتهم. دائماً ما يكون رحيلهم في صمت؛ إلا من ضجيج الحزن وجلبة الفقد ومأساة فراقهم، لمن سعد بصحبتهم، وعشق لحظاتهم النادرة، ونال من خصوصيتهم المتفردة. ومنهم من لا يزالون أحياءً يتجددون من خلال أعمالهم وآثارهم، كالشمس في كل صباح تتفاوت درجات دفئهم وإشعاعهم؛ لكنهم يظلون دوماً كل في مجاله مصدراً للفكر والإبداع، ووقوداً نووياً للخلق والتميز، تضاء بهم دروب المعرفة وتزدهي بهم الساحات. ورغم تكاثف الضباب يظلون أنجماً في سماء هذا الوطن … من مضى منهم يظل حاضراً، ومن بقي يظل مؤثراً في التفاصيل.” وهنا يقدم المؤلف شذرات عن سير رهط من هؤلاء النفر، ونذكر منهم الدكتور عمر نور الدائم، والفريق فتحي أحمد علي، والأستاذ علي أبوسن، والأديب الطيب صالح، والأستاذ الطيب محمد الطيب، والأستاذ التجاني الطيب بابكر، والصحافي المصري يوسف الشريف. وإلى جانب هؤلاء سجل المؤلف انطباعاته عن صُنَّاع السياسة العالمية، ودرجة تواضعهم على المستوى الشخصي، حيث وقف عند مشاهد مختلفة لبعضهم، ونذكر منهم سيدات الخارجية الأمريكية: مادلين أولبريت، وكونداليسا رايس، وهنري كلنتون، فضلاً عن دينس روس، رائد الديبلوماسية المكوكية في الشرق الأوسط.

رابعاً: ضمت مذكرات حسن أحمد الحسن بين دفتيها جزءاً نفيساً من الوثائق السياسية والمذكرات، والقصاصات الصحافية المرتبطة بعمل المعارضة السُّودانية في الخارج، فلا غرو أن هذه النصوص الوثائقية ذات قيمة تاريخية بالنسبة للباحثين في مجال العمل السياسي المعارض خارج السُّودان.

وفي الختام  يقول  أبو شكوك في تقديمه “تبقى لنا كلمة أخيرة، ذروة سنامها التهنئة الصادقة للأستاذ حسن أحمد الحسن على إخراج هذا السفر القيم في أدب السير والمذكرات إلى دائرة الضوء؛ لأن طرفاً منه يشكل توثيقاً لنشاط المعارضة السُّودانية في الخارج (مصر، وإرتيريا، وأمريكا)، وموقف حزب الأمة من بعض القضايا التي كانت مطروحةً على طاولة التداول السياسي السُّوداني، وطبيعة علاقات المعارضة بالدول المضيفة. آمل أن يكون إصدار هذا السفر حافزاً للآخرين، الذين عاصروا المؤلف في القاهرة أو واشنطن؛ ليدونوا شهاداتهم عن تلك الفترة، وبذلك يسهموا في تكتملة الصورة، وتقديم مادة أولية للباحثين في تاريخ المعارضة السُّودانية ونظام الحكم في السُّودان”.

 قبل البدء.. موعد في القاهرة

يقول حسن أحمد الحسن أن فكرة  هذا الكتاب نبعت خلال حوارات ولقاءات سابقة مع الزميلة أسماء الحسيني في القاهرة التي شغلت منصب نائب رئيس تحرير صحيفة الاهرام المصرية وتجددت الفكرة مرة أخرى إثر لحظات متفرقة مع الزميل محمد على صالح كبير مراسلي ومحرري صحيفة الشرق الأوسط في مكتب واشنطن في أحد مقاهي استاربكس بمنطقة سبرنغ فيلد بفرجينيا وهو مقهى درج صالح على التردد عليه في نهايات الأسبوع من وقت لآخر يتوسط مقري إقامتينا في ذات الولاية.

محمد علي صالح

ومحمد على صالح من كبار الصحفيين السودانيين الذين عملوا في الصحافة السودانية في زاهر عهدها المهني يوم كانت تضم في صفوفها نخبة متفردة من الصحافيين الأعلام الذين جاءوا امتدادا  لجيل متفرد من الصحافيين منذ حقبة الاستقلال حيث برز اعلام من رواد العمل الصحافي أمثال أحمد يوسف هاشم (السودان الجديد 1943م) وفضل بشير (السودان الجديد)، وإسماعيل العتباني (الرأي العام 1945م) ويحي محمد عبد القادر (مجلة المستقبل 1949م)، وعبد الله رجب (الصراحة 1949م)، وبشير محمد سعيد (رئيس تحرير جريدة الأيام 1953م)، ورحمي سليمان (الأخبار 1955م)، ، وحسن نجيلة، وزين العابدين حسين شريف،(النيل والأمة) محمد سعيد معروف، وعبد الرحمن مختار (الصحافة 1961م) ومحمود إدريس، الأمة والتجاني الطيب بابكر،( الميدان )  ومحمد الحسن أحمد (الأضواء 1968م)، والفاتح التجاني (الرأي العام الأسبوعي)،وفضل الله محمد وحسن ساتي ( الصحافة – والأيام ) ومجموعة أخرى من الصحافيين المتميزين لاحصر لهم الذين قدموا مثالاً طيباً لخدمة القضايا الوطنية . وكوكبة اخرى ابتلعتها صحف ومؤسسات الاعلام الدولي وصحف الخليج حين ضاقت بهم مساحات الحرية في وطنهم.

محمد على صالح كان ممن تنسموا أريج هذا الجيل المهني الشفاف  حظيت بالتواصل معه في واشنطن كزميل في مجال المهنة وكصديق أتردد على مكتبه بصحيفة الشرق الأوسط الذي كان يديره لفترة من الوقت امتدت لأربع سنوات الأخ الأستاذ طلحة جبريل بالإضافة لنقاشات جرت بيننا خلال استضافته المعتادة بين فترة وأخرى بمنزله العامر في منطقة دنفرز فرجينيا جلسات اجتماعية تضم نخبة من السودانيين من الأصدقاء المشتركين لتناول الغداء في حديقة منزله خلال عطلة نهاية الأسبوع.

كان صالح يلح علىّ خلال تلك اللقاءات والمناقشات على ضرورة تدوين محاور بعض المشاهدات الانسانية والأحداث السياسية التي عايشتها في مصر إبان حقبة المعارضة في مواجهة نظام الإنقاذ من القاهرة وعددا من العواصم بوصفي شاهدا على بعض جوانبها  وكمراقب  لتطوراتها في حقبة التسعينات وهي الفترة التي قضيتها في مصر لأكثر من عقد عندما كنت مراسلا لصحيفة البيان الإماراتية ثم وكالة يونايتد برس في القاهرة ضمن كوكبة من الصحافيين والمعارضين والناشطين في فترة من أثرى فترات العمل السياسي والإعلامي السوداني الخلاق الذي رغم فشله سياسيا في إحداث التغيير المطلوب في استعادة الديمقراطية والحريات الأساسية إلى رحاب الوطن إلا انه أسهم في إنضاج التجربة السياسية السودانية وفتح آفاقا جديدة للتواصل بين القوى السياسية السودانية  من ناحية وبين النخبة السودانية والمصرية من ناحية أخرى .

ورغم أنني كنت أدون كلما علا مزاج الكتابة بعضا من الوقائع والمشاهد في تلك الفترة الخصبة من العمل السياسي والمدني المطالب بالتغيير والحريات المدنية واحترام حقوق الإنسان دون تمييز إلا أن فكرة إعادة صياغة هذه المشاهد والوقائع في سلسلة قصص إخبارية بلغة حرة ظلت شغلي الشاغل الذي آمل ان يعبر عنه هذا العمل.

هي مشاهد تتوالى من خلالها الأحداث والمواقف والوقائع والمشاهدات عبر محطات متناثرة ومواقف وانطباعات تحاول أن تقدم صورة للقارئ عن أبعاد الشخصية السودانية والوجدان السوداني من خلال تلك المواقف والمشاهد.

كما تعبر أيضا عن رغبة حقيقية في إنتاج إدراك انساني متبادل بين السودانيين أنفسهم وأخر يعزز من قدرات الشعبين في وادي النيل خلال فترة وجودنا في القاهرة ويدعم المصالح المشتركة بين البلدين لولوج مستقبل زاهر على أساس من التفاهم المشترك والاحترام المتبادل.

هي إذن بعض حكايات تتنقل في حرية من حدث إلى حدث ومن مشهد إلى آخر دون قيود ودون أن تملك فصل الخطاب أو تدعي احتكار الحقيقة، تحاول ما استطاعت أن تقدم نوعا من التحية والتقدير لأسماء وشخصيات هنا وهناك أناس أسهموا بدرجات متفاوتة في دعم تطلعات الشعب السوداني الباحث عن معنى اشمل للحرية منهم من رحل إلى فضاء أوسع تظلله رحمة الله ومنهم من لا يزال على قيد الحياة يكابد في صبر واحسان متعهم الله بالصحة والعافية.

  الرحيل … تظاهرة إحساس صامت

 ذات الاحساس بتداعيات الرحيل عن مدينة ام درمان تلك المدينة المستعصية المسترخية على شاطيء النيل الغربي تجدد ذلك المساء بعد عقد كامل ويزيد من الحياة في القاهرة في نهايات عام الفين ، احساس بانك تفارق أمكنة منك تشكلت في دواخلك بكل تفاصيلها واختلطت بك لأحد عشر عاما متصلة هي القاهرة بكل الوانها الانسانية ورؤيتها للحياة التي تجمع بين وقار عمامات  الأزهريين في الحسين وتمرد بدلات الراقصات في شارع الهرم. لذا كان الصعود بالنسبة لي على متن طائرة TWA   تي دبليو ايه المتجهة إلى نيويورك تلك الليلة في رحلة مجهولة الإياب صعبا للغاية سيما على من تنامى فيه عشق مدينة القاهرة بكل معاناتها وصخبها وضجيجها وبكل مافيها من تضاد وضوضاء وازدحام وبكل ما تحمله في احشائها من قصص وحكايات وامزجة وطقوس ومعاناة ودعابة وتوجهات وتباينات انسانية وحياتية .

ولعل عشق جيلنا للقاهرة ولوجهها الأدبي والثقافي والفني شبّ ونما كنتاج لعصير مكتبات الصحف الخشبية  في زوايا مدينة ام درمان حين كنا  ننتظر في شغف كل يوم خميس مجلات صباح الخير وآخر ساعة والمصور وروز اليوسف مثلما كنا ننتظر في طفولتنا مجلات سمير وميكي وروايات محمود سالم في كتب الألغاز .

كانت القاهرة المتلألئة تلك الليلة بقعة ضوء تتلاشى بين الغمام  امام عيني وانا الاحقها من نافذة الطائرة وتصغر كلما صعدت الطائرة  إلى اعلى صوب الغرب كان احساسا مختلفا ومختلطا بالحزن على مغادرة المدينة المختلفة والرغبة في اكتشاف المجهول في مدن اكثر اختلافا واكثر مادية وثراءا وعدلا اجتماعيا .

ذات الاحساس تجدد مرة أخرى بعد خمسة عشر عاما من الاقامة في أميركا  بعد إلفة دافئة مع شوارع واشنطن حين قررت مغادرة واشنطن صوب الدوحة والعمل في احدى مؤسساتها الإعلامية.

إنه عشق المدينة ودلالها ولواشنطن نمط خاص في التعبير عن جمالها وانسانيتها أن تتركها من ورائك حالة تولد احساسا جارفا لديك بانك خلفت من ورائك مكانا انسانيا وصداقات انسانية راقية ومجتمع ناهض متحضر واناس طيبون يجيدون فن التعامل الانساني مع الآخر ووجوه ناضرة مستبشرة تحترف رسم الابتسامات على الشفاه والوجوه مدينة تعاقر الجمال بكل صوره .

حين تنتعش الذاكرة بين بنايات واشنطن ومراكزها البحثية حتما تعيد للمشهد دموع اماندا طالبة الدراسات العليا في جامعة كولمبيا في نيويورك حين تراها وهي تلهث جيئة وذهابا من اجل اطفال ونساء دارفور المشردين القابعين في مخيمات النزوح في أروقة معهد بروكنز ، وتعاطف ايفان اندرسن صاحبة شركة العلاقات العامة ومقدمة البرامج في إذاعة ولاية كونتيكت وسانتا ري وتيم كيري وميشيل هنري وتوم هاملتون وولف براون وايفان ديفز وصولات وجولات ناشطي هولي وود وعلى رأسهم جورج كلوني ،انجلينا جولي وبراد بيت وغيرهم من المشاهير وهم يستحثون ضمير العالم وأثرياء بيفيرلي هيلز تلك الأيام  لتقديم العون الانساني والدواء لأطفال الجنوب السوداني ونساء واطفال معسكرات كلمة وابوشوك وحسكنيتة بدارفور  وغيرها .

ثم تلك التظاهرات الحرة الطليقة في الهواء الطلق الحر دون غازات مسيلة للدموع التي تضم الالاف من الأميركيين وهي تجوب منطقة المول في واشنطن بين البيت الأبيض ومبنى الكونغرس تطالب بوقف العدوان الاسرائيلي على الفلسطينيين واستهداف الآطفال والمدنيين في قطاع غزة ووقف الحرب على العراق وافغانستان وفوق كل هذا وذاك تلك الابتسامة الأميركية الناصعة البياض  حين تلقاك في الطرقات وأماكن العمل صباح مساء .

غير ان رحيلي عن ام درمان واحساسي بالرحيل عنها إلى القاهرة بعد وقوع انقلاب الإنقاذ  في بدايات الياذة النجوع يختلف في ظاهره وباطنه بل في طعمه عن غيرها من المدن وشخوصها لكونه يحمل مخزونا خاصا ومختلفا من الذكريات التي شهدت على تفاصيل الطفولة والصبا .

الياذة النجوع

كان ذلك في صباح اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام تسعة وثمانين  أي بعد شهرين من وقوع انقلاب الاسلاميين بزعامة البشير كنت في طريقي إلى مطار الخرطوم صوب القاهرة في رحلة طويلة ممتدة ومتشعبة  لم أكن أعلم أنها ستستغرق حتى خروج هذا الكتاب أكثر من ربع قرن هي  عمر نظام الانقاذ بكل قراءاته  ومحطاته وإفرازاته  وتقلباته وشخوصه حتى اشعار آخر .

والسيارة تعبر شارع النيل من ناحية ام درمان صوب مطار الخرطوم بدأ شريط سينمائي طويل في الدوران وأنا أودع آخر مشهد من مشاهد المدينة  في ذلك الصباح الباكر مبانيها السمراء حواريها أزقتها أحيائها القديمة طقوسها وعاداتها وتقاليدها وسحنات بنيها وبناتها السمراء الجميلة، سوقها الكبير ،مبنى الإذاعة والتلفزيون ، المسرح القومي  حديقة الريفيرا والموردة وهناك حديقة البوستة مقهى يوسف الفكي الشهير ملصقات الافلام الهندية والمصرية في واجهتي  سينما ام درمان الوطنية وسينما ام درمان المكتبة المركزية والمكتبتين الشهيرتين الحرية ومكتبة افريقيا وعربة أسطى بّين الزجاجية للباسطة والكنافة التي باتت معلما مسائيا امام  مكتبة الحرية  .

هي إذن تلك المدينة التي نسجت علاقات خاصة مع كل أبنائها وقاطنيها تمتد في كبرياء غير منقوص على ضفة النيل الغربية أسماها من اختارها عاصمة لدولته الوطنية الإمام المهدي “البقعة المباركة ” وهو ينيخ زاملته في ذات الموقع الذي تقوم فيه اليوم قبتة  الشهيرة  أحد أهم معالم أم درمان التاريخية  وقد اختارها عاصمة وطنية بعد مقتل غردون باشا حاكم السودان الذي مثل أعظم حدث درامي تراجيدي سجله الغرب في عمل سينمائي كبير باسم ” الخرطوم ” لتخليد ذكرى الرجل الذي دوخ سكان المستعمرات البريطانية في الهند والصين والذي مثل مقتله  على ايدى ثوار السودان قرب ملتقى النيلين صدمة لبريطانيا العظمى وأوساطها السياسية والثقافية والاجتماعية لما للرجل من مكانة في قومه .

لذا جاء فيلم الخرطوم تعبيرا عن اعتزاز البريطانيين بقائدهم وقد انتج الفيلم  عام 1966. وهو يحكي عن معركة أبو طليح التي حدثت بين البريطانيين وجيش الامام المهدي في السودان في 17 يناير 1885م، والتي انتصر فيها الإنجليز بعد تكبدهم خسائر كبيرة في الأرواح ومنها العديد من كبار الضباط وضمنهم قائد القوة البريطانية هربرت ستيوارت، والكولونيل إ.گ. برنابي) مما منع الإنجليز من تحقيق الهدف من المعركة وهو الوصول السريع بالقوة كاملةً لنجدة غوردون باشا المحاصر في الخرطوم.

غير ان مقتل غردون الذي سلط اضواء الغرب واهتمام لوردات المملكة المتحدة على السودان بوصفه القائد الذي ينظر إليه بنوع من القداسة باعتباره قديسا في عيون الإنكليز مزج بين القوة و البطولة والتدين في ثوب اسطوري عند الإنكليز،  لم يكن في غايات ورغبات زعيم الثوار السودانيين الامام المهدي لأنه كان يدرك تقدير البريطانيين لغوردون بل كان يرغب في اسره حيا ليفتدي به زعيم الثورة العرابية في مصر أحمد عرابي  الذي كان عدد من قادته يقاتلون إلى جانب جيوش المهدي ومن بين خاصته ومن ابرزهم  المصري احمد العوام الذي اصبح ملازما للمهدي ومقربا منه  ، إلا ان الأمير محمد ودنوباوي أحد قادة  الثورة المهدية كان قد سبق بسيفه رغبات المهدي  بقتل  غردون لا اسره  كما تشير بعض الروايات التاريخية .

المهدي وعرابي .. عمق الصلة

ويستدل المؤرخون على أن رغبة المهدي في الاحتفاظ بغردون كان تهدف لافتداء عرابي دلالة على عمق الصلة بين الثورتين المهدية في السودان والعرابية في مصر في تلك الفترة حيث وصلت  أصداء منشورات المهدي شمالا قبل ان توزع في صعيد مصر تمهيدا لقدوم قواته  وعدا بتحريرهم من الاحتلال البريطاني بينما كان المصريون يستشرفون قدوم المهدي إلى  صعيد مصر ولايزال حتى وقت قريب يحمل  صعيد مصر تلك المشاعر الثورية النبيلة  تجاه ثورة المهدى.

ولعله من حسن الطالع أن يرتبط اسم الحي الذي شهد مولدي في ام درمان  والذي تفتحت عيني عليه “ودنوباوي” باسم القائد محمد ودنوباوي الذي ارتبط اسمه وفعله بولوج سودان المهدية إلى مرحلة جديدة من التحرروالانعتاق  .

ورغم انقضاض الإستعمار بطوابيره مرة أخرى على الثورة المهدية وإجهاضها كدولة إلا أن مدينة ام درمان القديمة أصبحت بأحيائها العريقة تحمل بطاقة وبصمات المهدية  الدولة والمؤسسة  وترتبط بأسماء قادتها وأصبحت تشكل قيمة معنوية وتاريخية قبل ان تصبح ساحة لمواجهات ونضالات الاستقلاليين ضد الاستعمار فيمابعد وموطنا للزعماء الوطنيين والحكام ومنابر للإبداع والفنون وملاذات للشعراء والمطربين ، تحتضن دور اندية الكرة العريقة في السودان  الهلال والمريخ  والموردة وودنوباوي وبيت المال وابي روف والملازمين والمسالمة والعرضة وغيرها وتمثل منبرا إعلاميا للسودان من خلال مبنى الإذاعة والتلفزيون  والمسرح القومي وأنديتها  الثقافية والاجتماعية ومقاهيها ومساجدها  وحلبات طرقها الصوفية وقبل كل هذا وذاك جوهر إنسانها المتفرد  الذي لايعرف القبلية او الجهوية بل يشكل خلاصة سودانية معتقة وتعريفا بليغا للشخصية السودانية بكل مكوناتها وجيناتها .

ورغم أن ام درمان تميزت بعدة ميزات واطلعت بعدة أدوار وطنية واجتماعية وثقافية وسياسية واحتضنت أئمة وزعماء وقادة ورؤساء ونساء رائدات في مجال التعليم والنشاط الاجتماعي ومبدعون من كل نوع ، إلا انها تميزت بانها كانت ينبوعا للفن والشعر والإبداع طبع ذوقها العام بمذاق خاص . فهوى إليها الشعراء والمطربون من كل بقاع السودان فأصبحت بميزاتها الخاصة وطنا للمبدعين ومهدا للأغنية الشعبية منذ قبل الاستقلال في عام 1956 وغدت أغنية الغزل أو ما يعرف بأغنيات الحقيبة  بطاقة خاصة تمثل وجه المدينة الفني  وصبغتها الرومانسبة .

لذا ارتبطت أم درمان التي أصبحت عاصمة للفن والثقافة بشكل خاص بالمبدعين والشعراء الذين تباروا في التغني بما تحمله من معاني وقيم وبما تزخر به من جمال ورومانسية جسدتها  “أغنيات الحقيبة”  وهو اسم مستمد من اسم برنامج إذاعي قديم  كان يستعرض تلك الأغنيات صباح كل جمعة وهي نوع من الأغنيات الشعبية المحببة للسودانيين تمثل الذاكرة الفنية لهذه المدينة الرائعة  فانتشرت الأغنية الشعبية والحديثة وتباري الشعراء بالقصائد والكلمات فأثروا الساحة الفنية والثقافية وبرز شعراء شعبيون شكلت كلماتهم وإبداعاتهم وجدان قطاع كبير من أهل السودان  وكان لشعراء الأغنية الشعبية  القدح المعلى فأصبحت المدينة بؤرة للنشاط الفني وتقاطر المبدعون والشعراء من كل أنحاء السودان إلي مدينة  شكلت أحيائها مسرحا هاما ومكمن عشق للكثيرين فسطع نجم كوكبة منهم  على سبيل لمثال لا الحصر  شيخ شعراء الحقيبة محمد ود الرضي ابن العيلفون الذي وظف ترحاله بين أقاليم السودان في أعماله الشعرية ومن ثم تراه قادرا على تسمية الأماكن.

وود الرضي كان من اوائل الشعراء الذي كتبوا مايسمي ( بالرميات ) في الغناء والرمية هي مقدمة الأغنية الشعبية  وسطع نجم الشاعر إبراهيم العبادي وهو المع شعراء فن الدوبيت ” الزجل” في السودان ولقب بأمير شعراء الشعر الغنائي وكان العبادي أحد الشعراء الذين قام على أكتافهم مسرح الشعر القومي السوداني وقد كتب مسرحية المك نمر التي قدمها المسرح القومي في أول مواسمه الثقافية بعد افتتاحه  وهو من  مواليد عصر المهدية شارك مع صديقه الفنان محمد احمد سرور في تأسيس حقيبة الفن .

من هذه الكوكبة أيضا الحاج محمد احمد سرور الذي كان من عمالقة الطرب في عصره صدح بصوته العذب في أحياء امدرمان وكان له طقوس في الغناء وله معجبات وحبيبات لا يكتمل رونق الحفل إلا بحضورهن طاف محمد احمد سرور البلدان العربية وسجل بعض أسطواناته وأصبح علما في المجتمع زار اليونان وغني للجنود السودانيين في الميدان وتعقبهم حتى أسمرا وهناك كانت خاتمة مطافه حيث توفي هناك.

الحاج محمد احمد سرور

ومن اعلام امدرمان الأفذاذ في مجال الشعر الغنائي  صالح عبد السيد أبو صلاح نجم  من أبناء أم درمان ونتاج مميز لديناميكية الإبداع الإنساني في هذه المدينة الرائعة حين يزدهر  الإبداع في ظل التسامح وكرائد من ألمع شعرائها ولد  بحي المسالمة لأسرة قبطية اعتصمت بالإسلام نبغ في الشعر والفن والإبداع قربه إليه الشيخ الطيب السراج ورعاه تحت جناحه الإمام عبد الرحمن المهدي راعي الفنون والابداع الانساني في حياته حفظ الكثير من شعر العرب وتباري مع الشعراء الأقدمين في أوزانه وأبحره قال عنه الشيخ عبد الله محمد عمر البنا لو نظم  أبوصلاح الشعر بالفصحي لفاقنا جميعا .

الشاعرصالح عبد السيد ابوصلاح

في سيرته يقول الكاتب السوداني محجوب عمر باشري ” يعتبر ابو صلاح على رأس المدرسة التشكيلية في الشعر الغنائي السوداني فتجريده للأشياء هو إضافة للحقائق وكل حسناء وصفها دلت بحسنها عن نفسها . ولا يفتن ابو صلاح بتكرار الألفاظ فمعجمه واسع وكأنه ينسي اللغة فهو أقرب إلي شكسبير الذي لا يكرر ألفاظه لذا يقولون عن شكسبير أنه أشخاصا كثيرين لأنه لا يكرر رواياته ولكل رواية لغتها الخاصة وهكذا كانت أغنيات وقصائد أبو صلاح. ”

 ومن ام درمان يذكر أيضا أحد ملوك الطرب عبد الكريم كرومة  الذي ارتبط كثيرا بالحاج سرور فبعد أن كان ملحنا فقط شجعه سرور على الغناء وبرع كرومة في تنويع الغناء السوداني فأدخل التخت والإيقاع المرتبط برقص الفتيات في الحفلات  برع  كرومة في حسن الأداء حتى أن صوته قد جعل الشيخ الصوفي الجليل العارف بالله الشيخ قريب الله يهتز من النشوة وتقول القصة أن الشيخ كان على مصلاته في الثلث الأخير من الليل في مسجده بودنوباوي وكان كرومة يشدو في احدي الحفلات بأغنية يقول مطلعها :

ياليل ابقالي شاهد على نار شوقي وجنوني

ياليل صار ليك معاهد طرفي اللي منامي زاهد

دنالي سهرك واشاهد فوق لي نجمك ظنوني

فما كان من الشيخ إلا أن صاح في نشوة الصوفي الله الله. وسأل حوارييه من هذا الذي يشدو فقيل له إنه مطرب يسمي كرومة فقال هل أخبرتموه ليقابلني ، وعندما زاره كرومة قال الشيخ قريب الله هلا أسمعتني ما كنت تنشده  تلك الليلة فأنشده كرومة ماطلب فتأوه الشيخ  استحسانا وطربا لصوت لكرومة وماحمله من معنى جسّر المسافة بين المادة والروح .

هي ذاتها المدينة التي انجبت الشاعر عمر البنا في عام 1900 الذي بدا كتابة الشعر منذ عام 1916 وحتي نهاية منتصف الثمانينات كان والده شاعر المهدية محمد عمر البنا وشقيقه الشاعر الكبير عبد الله البنا أشهر شعراء السودان وأستاذ الجيل في كلية غوردون .

أما الشاعر والمطرب خليل فرح فقد كان رفيقا لسرور وكرومة وقد تأثر الخليل  بالحركة السياسية والاجتماعية وأحدث في الأغنية تغييرا واضحا بإدخال آلة العود وعرف الغناء على عهده ما يعرف بغناء الصالونات للنخبة فكانت قضايا أغنياته وطنية واجتماعية فغنى من الأغنيات الخالدة :

– (عزه في هواك)

وأغنية بين جنائن الشاطئ وبين قصور الروم

حيى زهرة روما وأبكي يا مغروم

وهي قصيدة  يقال انه نظمها وأداها  في ابنة جواهري أرمني في منشية البكري في القاهرة عندما كان يقيم مع خاله هناك وقد شاءت الأقدار ان يقابل الفتاة مرة أخرى وعندما ذاعت القصيدة وترجمت للانجليزية اطلع عليها الخواجة ارمان والد ماري صاحبة القصيدة وأصر على تقديم هدية مالية قدرها خمسون جنيها من الذهب للخليل الذي رفض تلك الهدية .

ويتصل العقد ببزوغ نجم آخر من نجوم ام درمان وهو الشاعر عبيد عبد الرحمن   نشأ في حي العرب بهذه المدينة العامرة كان من الشعراء الذين تعمر بهم مجالس الإمام عبد الرحمن المهدي راعي الحركة الاستقلالية في ام درمان الذي كان يرعي أيضا اهل الشعر والفن والأدب والرياضة نشأ في فترة ازدهر فيها شعر ود الرضي ، وابراهيم العبادي،  وحدباي ، وسيد عبد العزيز ومحمد بشير عتيق ،وسلسلة الشعراء  المبدعون عبدالرحمن الريح والمساح ، وسيد عبد العزيز وأبو صلاح وقد تأثر هؤلاء الشعراء ببعضهم البعض رغم تفرد أساليبهم .

أما الشاعر سيد عبد العزيز فقد كان رفيقا للشاعر عبيد عبد الرحمن وصديق له يقول عنه محجوب باشري ” إن سيد عبد العزيز أم درماني نشأ في اسرة من أصول مصرية  كان والده أحد شيوخ الطريقة القادرية وقد نشأت والدته في بيت عز وجاه في كنف الخليفة عبد الله التعايشي حاكم ام درمان الوطني ومؤسس بواكير نهضتها ”

ويعتبر سيد عبد العزيز من الجيل الثاني لشعراء الغناء الشعبي حيث كان الجيل الأول يتكون من أبراهيم العبادي ويوسف حسب الله سلطان العاشقين ومحمد ود الرضي وعمر البنا وابوعثمان جقود ، ومصطفي بطران وخليل فرح ومحمد عبد الرحيم العمري ولحق بهم سيد عبد العزيز ومحمد على عبد الله وعلى المساح  والشاعر الفذ عبد الرحمن الريح ملك الكلمة واللحن الذي اثرى الوجدان السوداني باروع الكلمات والألحان .

إذن هي ام درمان التي ازدهى بها الشعراء وازدهت بهم ممن تركوا بصمات وآضحة في صفحات الإبداع السوداني ومن أبنائها  مثالا ليس حصرا من مختلف الأجيال من فحول شعراء الفصحى والعامية الشاعر محمد عمر البنا – والشاعر يوسف مصطفي التني والشاعر أحمد محمد صالح-  والشاعر عبد الله البنا وهؤلاء لهم  دواوين ساهمت في اسراء ساحة الشعر والمكتبة السودانية  ويشار إلى أن  يوسف مصطفي التني كان أول رئيس تحرير لصحيفة صوت الأمة في سنوات اصدارها الأولي .

ولم تتوقف امدرمان عن انجاب المبدعين من الشعراء فأنجبت الشاعر السفير صلاح احمد ابراهيم  الذي ولد في امدرمان عام 1935 وتوفي في باريس عام 1996 من دواوينه الشعرية – غابة الأبنوس – غضبة الهبباي ومن أروع قصائده الطير المهاجر التي صور فيها مشاعر الحنين إلي الوطن والحبيبة وهي الأغنية التي خلدها فنان أفريقيا المطرب محمد وردي بعذب الحانه الخالدة :

الشاعر صلاح احمد إبراهيم

وان جيت بلاد تلقي فيها النيل بيلمع في الظلام

ذي سيف مرصع بالنجوم من غير نظام

بالله ياطير قبل ما تشرب تمر

على بيت صغير من بابو من شباكو

بيلمع ألف نور

تلقى الحبيبة بتشتغل منديل حرير

لحبيب بعيد

تقيف لديها

وتقول إليها

وتحمل رسالة ليها بحبي الكبير .

ولاتذكر أم درمان إلا ويذكر الشاعر الرومانسي المبدع مصطفى سند  على رأس كوكبة اخرى  من شعراء  الأغنية الحديثة المميزين الذين رفدوا جيل القمة من مطربي الأغنية التي صعدت بروحانها على موجات وأثير اذاعة امدرمان

الشاعر مصطفى سند

وخلفّ سند أجمل ما يترك الشعراء ذلك الشفيف ساحر الكلمات والقوافي التي تسري في قامة الأحاسيس كما يسري الضياء على سفوح الأنجم  وعرف سند برومانسيته الأخاذة التي زينت أعماله رغم انه طالما كانت تعذبه فكرة الرحيل والفراق وهي فكرة شغلت قوافيه قلق من رحيل أحبابه الذين يتراؤون وكأنهم شفق ندي يسابق الريح ويحترق :

أحبابنا رحلوا..

ومضيت اسأل عنهمو…
فانسدت السبل
قالت مطوَّقة والريح تنزف والأمطار تشتعلُ
كانوا هنا .. شفقا ندي
أشعارهم في النيل تسبحُ ..
دمعُ أحرفهم على الشرفاتِ
ينسفحون أغنية
ويحترقون أغنية
ويبتردون في البرق المعَّلقِ بين أنفاس المدى ..
شفقاََ ندي

لم يقطع هذا الشريط السينمائي الطويل الذي استحضرته نظرات وداعي لأم درمان والسيارة تعبر شارع النيل إلى حرم المطار إلا ضجيج صالة المغادرة التي أصبحت في ذلك اليوم شاهدا على بدايات غربة مجيدة تجاوزت العقدين ابتلعتنا شبابا وطوقتنا باثارها مخبرا ومظهرا . سنوات من العمر بين القاهرة ولندن وواشنطن وعواصم افريقية ومابينها إلا ان حقبة تسعينات القاهرة كانت هي الأكثر تأثيرا والأعظم اثرا  والأبلغ دلالة .

التعليقات مغلقة.