حول العزل السياسي وقرار استبعاد الإسلاميين

العزل السياسي ليس بدعة في القوانين الحديثة ولا انتقامًا أعمى من الخصوم، بل هو أداة من أدوات المجتمع لحماية ذاته من القوى المفسدة التي لو عادت إلى مسرح السياسة لأعادت معها الخراب. فهو إجراء وقائي بالأساس، لا يشترط بالضرورة ارتكاب جرمٍ جنائي مثبت، بل يكفي أن تثبت القرائن السياسية والاجتماعية على فساد التجربة وسوء الأثر.
فالجرم الجنائي شيء، والعزل السياسي شيء آخر. الأول يتطلب أدلة قاطعة تُعرض على المحاكم، ويُحاكم المتهم فيه وفق أصول العدالة والإثبات. أما الثاني فيكفي فيه أن يثبت للمجتمع أن هذا الفاعل لم يعد صالحًا للإسهام في المجال العام، وأن وجوده يشكّل تهديدًا لمسار الحياة الديمقراطية. وعليه، فإن العزل السياسي لا ينبغي أن يُفهم كعقوبة جنائية، بل كإجراء إداري أو سياسي وقائي، يمكن أن يتداخل مع العقوبة الجنائية فقط إذا نص القانون على الحرمان من الحقوق السياسية كأثر تبعي للإدانة.
لقد حوّل الإسلاميون في تجربتهم السودانية وجهة الدين؛ فبعد أن كان لاهوتًا للتحرير ونصرة المظلوم، صار لاهوتًا يحمي الطغيان ويبرّر الاستبداد. الدين الذي كان منبرًا لمحاججة الظلم غدا جدارًا يستتر خلفه الطغاة، والنصّ الذي كان يُفترض أن يحرّر البشر أضحى ذريعة لتبرير القمع. هذه الخلطة من قداسةٍ مسخّرة للسلطة ورواسب قيم إقصائية أنتجت أيديولوجيا تؤطّر الاستبداد وتمنحه شرعية رمزية. وهنا تبدو الخسارة مزدوجة: فقدان البعد التحرري للدين، وفقدان السياسة لحدّها الأخلاقي، فصار الدين أداةً تُستغلّ لقتل الحسّ العامّ بالعدل والمساواة.
بهذا المعنى، العزل هنا لا يستهدف المعتقد أو الاعتقاد الفردي، بل يطال أولئك الذين ثبت أنهم لا يلتزمون بقواعد اللعبة الديمقراطية، من يستغلون الإيمان لتصفية الخصوم أو لتفكيك مؤسسات الدولة. إنها مدافعة عن سياسةٍ أخلاقية، وعن مجتمعٍ يعيد للدين موقعه الخلّاق دون أن يجعله حصانةً لمرتكبي الجرائم السياسية.
أما الحركة الإسلامية السودانية، تلك الطغمة التي جرّت البلاد إلى الخراب، فقد جمعت بين السوءين معًا: ثبت فسادها السياسي وموثّق تورطها الجنائي.
فهي لم تكتفِ بإفساد الحياة العامة وتفكيك الدولة من الداخل، بل ارتكبت جرائم ضد الإنسانية يشهد عليها القاصي والداني. إنهم “شياطين العصر” بحق، إذ جمعوا بين الخيانة الفكرية والتدمير المؤسسي والانتهاكات الجنائية. لقد كان قرار الرباعية بإقصاء جماعة الإخوان المسلمين من أي مشاورات سياسية مقبلة استجابةً طبيعية لدورهم الكارثي في إشعال الحرب الأخيرة. فهذه العصابة لم تكتفِ بتخريب الاقتصاد ونهب الدولة خلال خمسة عقود من الحكم المباشر وغير المباشر، بل لجأت بعد سقوطها إلى تفجير البلاد من الداخل، تسليحًا للميليشيات، وتخريبًا للمؤسسة العسكرية، واستدعاءً لصراعات جهوية وقبلية سالت بسببها دماء الأبرياء. إنهم لم يتركوا سلاحًا إلا استعملوه، ولا وثيقة إلا أحرقوها، من أجل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ولو على جماجم الناس.
لقد تسببت هذه العصابة في واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في تاريخ السودان الحديث: ملايين النازحين، مدنٌ مدمّرة، اقتصاد منهار، وأجيالٌ كاملة محاصرة بين المجاعة والاقتلاع من الجذور. فالحرب التي أشعلوها لم تكن إلا استمرارًا لمشروعهم الاستبدادي بوسائل أخرى؛ مشروع يقوم على ابتزاز الدولة بالدين، وعلى إحراق الأرض حين يُهزمون في صناديق الاقتراع أو ساحات الإعتصام. لهذا فإن العزل السياسي في حالتهم ليس فقط إجراءً وقائيًا أو خيارًا إداريًا، بل هو أيضًا ردٌّ أخلاقي على جرائمهم، ووفاءٌ لضحاياهم الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لمغامرات هذه الطغمة الفاسدة
من هنا، فإن قرار إبعادهم عن أي مشاورات سياسية ليس ترفًا ولا انتقائية، بل هو ضرورة وطنية وفلسفة أخلاقية لحماية المجتمع من عودة الاستبداد بوجهه القديم. فإذا كان العزل السياسي يكتفي بالإبعاد الإداري، فإن الحالة السودانية تستدعي ما هو أعمق: تحقيقًا جنائيًا شفافًا يسبق أي حديث عن الحقوق المدنية أو السياسية.
إننا لسنا أمام اجتهادٍ قانوني مجرّد، بل أمام امتحان وطني وفكري وأخلاقي. فإذا أُعيدت هذه الحركة إلى المشهد السياسي، فذلك يعني أن السودان لم يتعلم شيئًا من مآسيه، وأن دماء الشهداء ذهبت سدى. أما إذا جرى ترسيخ مبدأ العزل، فسنكون قد خطونا خطوة أولى نحو تأسيس مجتمعٍ يرى في السياسة عقدًا أخلاقيًا، لا غنيمة يتوارثها الفاسدون