حتمية الوحدة الكنفدرالية السودانية

حتمية الوحدة الكنفدرالية السودانية
  • 25 يوليو 2021
  • لا توجد تعليقات

م. عمر البكري أبو حراز

مرت علينا الأحد الماضي 11 يوليو الذكرى العاشرة لانفصال الجنوب المؤسف والكارثي للدولتين. كل أزمات الجنوبيين وتذمرهم وخروجهم في حركات مسلحة ضد التهميش منذ العام 1955 عندما تمردت حامية توريت، وقام الجنود الجنوبيون بقتل كل ضباط وجنود حامية توريت وعدد كبير من المدنيين الشماليين. كل الأزمات كانت تحل ودياً في إطار السودان الواحد، تلى تمرد حامية توريت نشأة حركة الأنانيا بقيادة اللواء جوزيف لاقو عام 1964.

قامت الأنانيا بعمليات عسكرية من الإستوائية عمت كل مديريات الجنوب الثلاث- الإستوائية، أعالي النيل وبحر الغزال حتى العام 1972 عندما تم توقيع إتفاقية أديس أبابا بين الرئيس الراحل نميري واللواء جوزيف لاقو. توقفت الحرب وتم دمج قوات الأنانيا في القوات المسلحة السودانية والشرطة والسجون، وتم الإتفاق على حكم إقليمي في الجنوب تحت مظلة مجلس إنتقالي.

في العام 1982 خرق نميري الإتفاقية بإلغاء الحكم الإقليمي والعودة إلى المديريات الثلاث مما أدى إلى تمرد آخر بقيادة العقيد جون قرنق في العام 1983 وخروجه بحاميته في بور إلى دولة اثيوبيا، التي أنشأ فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها الشعبي لتحرير السودان.

توسعت الحركة الشعبية وعمت عمليات الجيش الشعبي كل ربوع الجنوب واستولت على مدن عديدة منه، الأمر الذي أدى إلى موت الملايين من العسكريين والمدنيين ونزوح عشرات الملايين إلى الشمال.. استمرت الحرب في الجنوب بضراوة خاصة بعد أن حشد نظام الإنقاذ قوات ومليشيات تحت شعار الجهاد، الأمر الذي استفز الكثير من الدول الغربية وإسرائيل الذين قدموا دعماً كبيراً عسكرياً ومادياً للحركة الشعبية زاد من قوة وضراوة المعارك، وتحرك المجتمع الإقليمي والدولي بقوة حتى تمت تسوية النزاع باتفاقية السلام الشامل الموقعة في 5 يناير 2005 في نيفاشا بكينيا تحت رعاية الإيقاد ودول الترويكا- أمريكا، النرويج وبريطانيا- وأصدقاء الإيقاد.

منحت إتفاقية نيفاشا حق تقرير المصير لأول مرة في تاريخ النزاع الشمالي الجنوبي منذ العام 1955 كانت كل بنود الإتفاقية تنادي بالوحدة الجاذبة، وكان شمال السودان هو المقصود بالوحدة الجاذبة عبر تقديم تنازلات، ومنح الجنوب نسبة عادلة من الثروة والسلطة والحكم الذاتي في ظل السودان الواحد، حتى تعود ثقة الجنوبيين في إخوانهم الشماليين في ظل شعارات الحرية والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وكان عقلاء الجنوب يفضلون الوحدة العادلة وسودانا جديدا في حكم فدرالي وإبعاد الدين عن الحكم . كان الراحل د. جون قرنق وحدوياً خاصة بعد زيارته الخرطوم في بداية العام 2005، التي وجد فيها استقبالاً مليونياً غير مسبوق من كل السودانيين في الساحة الخضراء (ساحة الحرية حالياً)، وأصبح بموجب الإتفاقية النائب الأول لرئيس الجمهورية، ولكن سرعان ما تآمرت المخابرات الأجنبية عليه لخوفهم من قوته وفكره الثاقب وإيمانه بالوحدة، وتم إغتياله بعد أيام قليلة من توليه منصب النائب الأول وذلك في حادثة احتراق طائرته وهو عائد من يوغندا.

تولى بعده سلفاكير رئاسة إقليم الجنوب ومنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، طوال الفترة الإنتقالية المنصوص عليها في الإتفاقية وهي ست سنوات ونصف، كان الحكم في الجنوب ذاتياً ولم يتدخل فيه البشير ولو بقرار واحد وعم السلام ربوع الجنوب، ولكن لم تعمل الإنقاذ على جعل الوحدة جاذبة كما نصت الإتفاقية، بل على العكس تماماً جعلتها طاردة بخطوات ومؤامرات محسوبة لدفع الجنوبيين للإنفصال، وذلك لتحقيق رغبات الحركة الإسلامية العالمية والمحلية في نظرة ضيقة خالية من الروح الوطنية السامية في التعايش في حكم مدني، يفصل بين الدين والدولة، حتى تصفوا لهم الأجواء لتطبيق شريعة (غير مدغمسة) كما كان يقول البشير.

لعب إعلام الحركة الإسلامية دوراً مؤثراً في جعل الوحدة طاردة باستفزاز القيادات الجنوبية، والإصرار على تطبيق الشريعة الإسلامية كاملة في العاصمة القومية الخرطوم، والتي كانت الحركة الشعبية تنادي بأن تكون الخرطوم كعاصمة قومية لكل السودان محايدة في حكم يفصل بين الدين والدولة، وباقي شمال السودان يمكن حكمه بأي تشريعات إسلامية. صار الخطاب الإعلامي الإسلامي متزايداً بوتائر محسوبة أفقدت القيادات الجنوبية الثقة في الشماليين، وجعلتهم يتجهون في حملات إعلامية مناوئة للوحدة وتعبئة المواطنين الجنوبيين بالتصويت لخيار الإنفصال، وكان لهم ما أرادوا عند الإستفتاء الذي فاز فيه خيار الإنفصال بنسبة (98%) وذلك في 11 يوليو 2011 كحدث مؤسف في تاريخ السودان أفضى إلى دولتين فاشلتين، خاصة دولة جنوب السودان التي تعاني حتى اليوم من الصراع وانعدام الأمن والحروب الأهلية والجوع والمرض وتوقف التنمية- عقلاء الجنوب كانوا يقولون لابد من وجود الشماليين في الجنوب خاصة القوات المسلحة، لأنهم في ظل النزاعات القبلية في الجنوب والإحتكاكات المسلحة المدمرة مثل (القش) الذي يتم وضعه في صندوق أكواب الزجاج، بدون هذا القش الأكواب تتكسر كلها وهذا ما يحدث الآن في الجنوب، بعد عشر سنوات من الحكم لم تتوقف الحروب الأهلية بين القبائل مما أدى إلى عدم إحداث أي تنمية أو رفاهية أو حتى أمن لمواطن الجنوب.

فترة ما بعد الإنفصال ساد فساد مالي غير عادي في الدولتين أقعدهما عن تحقيق أي تنمية أو رفاهية للشعبين، في الشمال قاد انفصال الجنوب إلى فقدان (75%) من إيرادات ميزانية الشمال بسبب تقليص عائدات البترول، ولكن الفساد الذي ساد في الشمال منذ تصدير البترول قبل الإنفصال بعشر سنوات أضاع كل عائداته، والتي يقدرها الخبراء بحوالي (70 مليار دولار). ساءت الأحوال الاقتصادية في الشمال وزاد العجز في الميزان التجاري حتى بلغ (5 مليارات دولار) سنوياً حتى اليوم، وارتفعت أسعار السلع وازدحمت محطات الوقود والمخابز بصفوف طويلة وانعدمت السيولة في أيدي المواطنين، مما أدى إلى خروجهم للشارع في مليونيات رهيبة منذ ديسمبر 2018 حتى توجت في 11 أبريل 2019 بثورة شاملة، أطاحت بحكم الإنقاذ بعد ثلاثين عاماً من الحكم الأتوقراطي الشامل وانعدام الحرية وتزايد الإعتقالات والقتل، وزادت في الفترة من 2003 حتى 2018 حدة الحروب الأهلية في دارفور ولم تفلح كل اتفاقيات الدوحة في إيقافها، الآن ورثت حكومة الثورة كل هذه التركة المثقلة والتدهور الاقتصادي مما حدا بالحكومة الإنتقالية إلى اجراءات اقتصادية قاسية لابديل لها، أهمها رفع الدعم عن السلع خاصة المحروقات وتم تعويم سعر صرف العملة، مما أكسب السودان التعاطف الدولي الكبير الذي توّج برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبه تم رفع كل القيود والعقوبات الاقتصادية وتم عقد مؤتمرات دولية للسودان أدت إلى عودته إلى المنظومة الاقتصادية الدولية والتي ستؤدي إلى إعفاء السودان من الديون الخارجية للدول والتي بدأت بشائرها بإعفاء فعلي بلغ 14,1 مليون دولار يوم الجمعة 11 يوليو الجاري من دول نادي باريس بعد أن تمت تسوية ديون البنك الدولي وصندوق النقد بمنح منهما عبر أمريكا وفرنسا.

بعد فشل الدولتين- السودان وجنوب السودان- يصبح من المنطق والوجدان السليم التفكير الجاد في عودة البلدين إلى وحدة كنفدرالية، تحتفظ كل دولة بحكم ذاتي كامل وتتوحد الدولتان في القوات المسلحة، السياسات الخارجية والمالية تتوزع فيها السلطة والثروة بالنسب العادلة حسب عائدات كل مصدر ثروة، والسلطة بنسبة تعداد السكان. تكون في كل دولة حكومة برلمانية تعنى بالشؤون الداخلية لهما وكل السلطات والصلاحيات التنفيذية، وتكون رئاسة الدولة الكنفدرالية في مجلس سيادة ثلاثي برئاسة شخص شمالي ونائب أول جنوبي وثالث يتفق عليه الطرفان، ويكون شخصية قومية شمالية كنائب ثاني يكون لكل دولة برلمان خاص بها مع انتخاب برلمان إتحادي مقره الخرطوم.
هذه خطوط عريضة قابلة للتفصيل والإبداع بخلق وحدة كنفدرالية مستدامة.

التعليقات مغلقة.