الانقلاب العسكري بالسودان: تحليل واستقراء

الانقلاب العسكري بالسودان: تحليل واستقراء
  • 27 أكتوبر 2021
  • لا توجد تعليقات

د. محمد تورشين

من يقرأ في تاريخ السودان الحديث منذ فجر الاستقلال وحتى يومنا هذا، يدرك بأن مآلات الأوضاع الاقتصادية والأمنية وانسداد الأفق السياسي سيقود المشهد السياسي في السودان في الغالب إلى الانقلابات العسكرية، في ظل ضعف المؤسسات الديمقراطية المدنية وتورط بعض الأحزاب السياسية نفسها في تدبير تلك الانقلابات.

وبالرجوع إلى الوراء نجد أن انقلاب الجنرال إبراهيم عبود قد حدث عندما انسد الأفق السياسي بين حزب الأمة والشعب الديمقراطي من جهة والوطني الاتحادي والنقابات واليسار من الجهة الأخرى، مما هيأ الظروف لإنجاز اول انقلاب عسكري مدعوماً من حزب الأمة في 1958م.

توالت الأحداث بعد ثورة أكتوبر بنفس الظروف والتعقيد عندما تآمرت القوى السياسية على الحزب الشيوعي في حادثة جامعة الخرطوم في 1965، مما أسفر عن حل ذلك الحزب وإبعاد نوابه من البرلمان، ثم كانت توجهات إجازة الدستور الإسلامي هي الظروف إلى أدت لتهيئة المشهد السياسي إلى انقلاب عسكري برعاية اليسار عام 1969م.

وبعد انتفاضة مارس – ابريل 1985 لم تتوقف مماحكات القوى السياسية وسلوك الأحزاب الاقصائي فيما بينها حتى تعقد المشهد في الديموقراطية الثالثة بخلافات في الائتلاف الحكومي لم تنجح الأحزاب في إدارة حوار شامل عقلاني بينها لاستكمال التجربة الديمقراطية الناشئة وتثبيت التداول السلمي للسلطة. وبناءً على مذكرة الجيش وتشكل حكومة جديدة استبعدت منها الجبهة الإسلامية ، وكرد فعل ناجم عن ذلك قادت الجبهة الإسلامية انقلاب الإنقاذ 1989م.

مرة أخرى بعد الإطاحة بالبشير ظهر المجلس العسكري الانتقالي الذي أعلن انحيازه مكرها إلى خيارات الشعب السوداني المطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة والسلام، لكنه منذ البدء لم يكن جاداً في تسليم السلطة الانتقالية للقوى السياسية المدنية، لذلك تقاعس عن استكمال هياكل الفترة الانتقالية ومطلوبات الانتقال الديمقراطي المنشود، بل سعى عن طريق الشراكة التي اسست على دماء الابرياء والشهداء في مجزرة القيادة العامة بالخرطوم في 3 يونيو 2019م لتوطيد مواقعه وامتيازاته.

ينبغي التأكيد هنا بأن آمال وتطلعات الشعب عندئذ لم تتسق باي حال من الأحوال مع ما ذهبت اليه قوى الحرية والتغيير في التوقيع على الوثيقة الدستورية التي لعب بها العسكر، وتحصلوا بموجبها على صلاحيات مهمة في نصوص مبهمة لا تتحدث عن مواقيت لإعادة هيكلة الجيش بدمج المليشيات العسكرية وجيوش الحركات المسلحة.

لقد سقطت أيضا قوى الحرية والتغيير في فخ تقاسم السلطة واختيار حكومة من قيادات حزبية في تجاوز معلوم لإعلان الحرية والتغيير، وفشلها المستمر في عدم التوافق على هياكل الانتقال كالمجلس التشريعي والمحكمة الدستورية والمفوضيات ذات الصلة بالانتقال المدني الديمقراطي فضلاً عن إهمال استحقاقات السلام الحقيقية. ظهر ذلك في تجاهل الحكومة التنفيذية وحاضنتها السياسية لملف السلام مما أتاح فرصة من ذهب لجنرالات الجيش للتقدم نحو إنجاز اتفاقية سلام السودان في جوبا وعقد تحالف مع حركات الكفاح المسلح، وبالتالي سجلوا نقاطاً على حساب قوى الحرية والتغيير.

ينبغي هنا الإشارة إلى نقطة محورية وهي المحاولة المتكررة من قبل الشق العسكري بالانفراد بقضايا مهمة في المجال السياسي، نصت الوثيقة الدستورية أنها من اختصاصات مجلس السيادة الانتقالي أو مجلس الوزراء، كتعيين رئيس القضاء ومحافظ البنك المركزي وخضوع الموارد العسكرية للأجهزة العسكرية تحت ولاية وزارة المالية، مما أسهم عن تمدد نفوذ وسلطات الشق العسكري لكافة مستويات السلطة.

كما إن الانشطار الأول لقوى الحرية والتغيير بخروج الحزب الشيوعي وانقسام تجمع المهنيين إلى شقين وتجميد عضوية حزب الأمة عضويته فيه، وعدم قدرة شركاء الأمس في الحرية والتغيير على التوافق فيما يتعلق بالتعاطي مع المشهد السياسي، واستبعاد العديد القوى الشبابية والسياسية الوطنية والثورية من ذلك المشهد، أسهم في انبثاق قوى الحرية والتغيير ميثاق التوافق الوطني التي تطابقت اطروحاتهم مع المكون العسكري في مجلس السيادة، في دعاوي توسيع قاعدة المشاركة وتشكيل حكومة من الكفاءات الوطنية، وهي كلمة حق أُريد بها باطل.

إن مفتاح نجاح الانقلاب العسكري تمثل في غياب رؤية حكومية موحدة تجاه أزمات السودان الاقتصادية والسياسية المختلفة، وآخرها أزمة شرق السودان التي أضعفت الحكومة وفاقمت الأوضاع الاقتصادية المتهالكة، بسبب غياب السيطرة الحكومية على موارد السودان الاستراتيجية لاسيما الذهب.

لقد عمل المكون العسكري بشكل منظم ودقيق حتى يوصل الأوضاع إلى مفترق طرق، وقد اسهمت قوى الحرية والتغيير بوعي او بدون وعى في تلك الظروف، مما فتح شهية العسكر لصنع انقلاب عسكري على شركائهم في الحكم، وبتمزيق واضح للوثيقة الدستورية.

في اللحظة الحالية نقول إنه مهما كانت المبررات والظروف والعقبات والتحديات التي تواجه الشارع السوداني، لا ينبغي العودة إلى الوراء وتأييد الانقلاب الجديد وتقديم أي غطاء سياسي مدني له، فالتجارب السودانية ماثلة إمامنا بأن اللذين دعموا العسكر في خطواتهم الانقلابية هم اول من دفع الثمن باهظاً؛ عرف ذلك أعضاء حزب الامة تحت انقلاب عبود والشيوعيون تحت مايو والترابي تحت الإنقاذ.

إن هذا الانقلاب مغامرة غير مدروسة العواقب من طرف الجنرالات، وهو سيفتح الباب أمام اصطفاف شعبي وجماهيري يختار قيادات شبابية جديدة تؤمن بالتحول الديموقراطي الكامل بلا شراكة مع العسكر، بحيث تفضي ببلادنا إلى استكمال حلمنا بإقامة دولة العدالة والحرية والسلام والمواطنة

أكاديمي متخصص في الشؤون الأفريقية
26 أكتوبر 2021

mohamedtorshin@gmail.com

التعليقات مغلقة.