البلاهة التي تُدخلك المتاهة

العسكريون يرون أن القتال هو الذي يحسم المعركة . والقتال موتٌ وجرحٌ وحرق ، والضرر الأكبر يقع على المدنيين والبنيات الأساسية . والمشكلة أن الجيوش تستحلي ما تُطلق عليه ( النصر ) ، فهي تعتبر تحطيم الخصم نصرا ، وتحصي جثث الموتى وعدد الجرحى وتباهي بهم . حتى المسلمين يقولون أن موتانا في الجنة وموتاهم في النار ، وكأنهم يسعون لزيادة حطب النار .
و ( النصر ) يعقبه الاستسلام من الطرف الخاسر ، ثم مفاوضات السلام ، وهي مفاوضات غير عادلة لأنها تأخذ من الضعيف المنهك وتعطي القوي المتغطرس . وكل ذلك يترك أثرا عميقا في نفس ( المهزوم ) ، وربما يبقى هذا الأثر لفترات طويلة ولن يمحوه إلا إذا جاءت دورة جديدة من الحرب ، وقدّر للخاسر السابق أن ينتقم ممن ظلمه . فتتمكّن في البشرية الثارات ، والرغبة في الانتقام ، وإذاقة الظالم طعم الظلم .
والعسكرية لا تفهم في إدارة الحياة ، لأن الحياة ببساطة لا يمكن أن تدار بالحرب . والإنسان لا يمكن كسب رضاه بالتخويف والتلويح بالسلاح والموت . وقد ترى الانضباط داخل الجيوش أو أي قوات نظامية وتظن أنه ناتج عن حسن الإدارة ، لكنه ليس كذلك فهو انضباط قائم على الخوف والتخويف والوعيد والتهديد . هو تنفيذ للتوجيهات والأوامر بلا اقتناع ولا رضا ، ولا هي توجيهات صادرة عن منطق غير منطق الطاعة العمياء . والعسكر يظنون أن الحياة الناس يجب أن تكون بهذا الانضباط ، لكنهم ينسون الطرف الآخر من المعادلة ، وهي الغطرسة العسكرية وإجبار الناس بقبول ما لم يقتنعوا به .
فض الاعتصام مهما أنكروه أو برروه ، فهو لا يخرج من كونه عملا أرعنا ، لم يقم على منطق ولا على رضا . فلا يمكنك أن تقتل ثائرا لمجرد أنه وقف ليطالب بحقه ، وتقول له إما أن تقبل أوامري وإما أن أقتلك ، ثم لا تمهله ولا تنذره ، لكنك تغدر به . وقتل المحتجين في الشارع وأثناء التظاهر لا يمكن أن يقوم على أي حجة إنسانية حتى لو اعتبرنا أن ما يقوم به المتظاهرون هو الشغب واستفزاز السلطة الحاكمة . لكنه يصبح منطقيا في فهم العسكري لأن المتظاهر لم يطع الأوامر والتوجيهات ، أو أن المتظاهر أراد أن يسلب العسكر حقهم ( الأبدي ) في إدارة الحياة .
لذا في المجتمعات المتقدمة ، والتي تهتم بأنسنة الحياة أكثر من غيرها ، تجد العسكر يعرفون تماما أنهم تربوا تربية مختلفة ، وتمت تنشأتهم بشكل مختلف ، وأنهم فقط يتعاملون بمنطق الحرب والقوة والأوامر والنواهي ، وهو منطق لا يصلح أبدا لإدارة حياة الناس خاصة إذا كانت الأسس الإنسانية هي المنشودة . وقد يلاحظ البعض أنه في التاريخ الإنساني تمكن عسكريون من إدارة الشأن العام بنجاح كبير ، وهؤلاء فقط هم الذين فصلوا فصلا تاما بين عملهم كسياسيين وتربيتهم العسكرية .