توظيف أحداث التاريخ لإعادة قراءة الحاضر(1-3)

توظيف أحداث التاريخ لإعادة قراءة الحاضر(1-3)
  • 25 مايو 2023
  • لا توجد تعليقات

هل استباحت  قوات الثورة المهدية مدينة الخرطوم في  يناير 1885 ؟  

محمد المصطفى موسى

لاشك في احتشاد صحائف التاريخ  بالعديد من الوقائع  التي تبعث على الإعتبار و التدبر .  وعطفاً على توخى الدقة في استدراك خباياه ، قد يحسن بنا في الإيغال فيما احتوته مصادر التاريخ المدونة بموضوعية  تنأى بجادتها عن التخبط بين  منعرجات العاطفة و الهوى .و من ذلك أن في هذا الأمر سعياً  محموداً لإستقامة قسطاس التاريخ و حصحصةً لمواضعه الخليقة بالتأمل  البنّاء .

الأطراف  التي دار  بينها الصراع على مدينة الخرطوم في ١٨٨٥ :

اعمالاً لما سبق ، فلنبدأ اذن بتعريف طرفي الصراع في معركة تحرير الخرطوم بصبيحة ٢٦ يناير ١٨٨٥ . هذان الطرفان كانا باجماع جمهرة عريضة من المؤرخين :

١-القوى الشعبية السودانية المنحازة للثورة المهدية بقيادة المهدي

٢- القوى الاستعمارية المتمثلة فى حاكم المدينة الجنرال الانجليزي  تشارلز غردون  و من شايعه . ومن خلفه قوى غازية قوامها ١٤ ألف جندياً بريطانياً دفعت بهم الملكة فيكتوريا نحو السودان سعياً  لانقاذ غردون من حتفه المحدق . و عرُف هذا الجيش بحملة الانقاذ الانجليزية المؤتمرة بأمر الجنرال ولزلي.  و كانت جحافل ولزلي ما زالت مشتبكة  حينها مع قوات  الثورة المهدية في جنوب  منطقة الشبكات بشمالي البلاد دون أن تتمكن من الزحف كما كان مخططاً لها نحو الخرطوم .

بديهيات كتلك ، و بالأخص فيما يلي  أطراف واقعة تحرير الخرطوم لم تكن لتخفى حتى على أعلام معاصرة للثورة المهدية  على نحو  فردريك انجلز  مما دفعه للكتابة عن تلك الوقائع لاحقاً  متحدثاً عن ” المهدي .. الزعيم السوداني الذي جابه الانجليز ظافراً في الخرطوم” .

و في ذات المعنى  كتبت صحيفة ايرلندية مهمة على نحو “ايريش مان ” في  لهجة متعاطفة مع ابناء الأرض السودانيين الذين حرروا عاصمتهم من المحتل   ، و ذلك بعددها الصادر في ١٤ فبراير ١٨٨٥:

” على الرغم من أنهم ليسوا مسيحيين مثلنا ، إلا إننا لا نملك إلا أن نشعر بالتعاطف مع هؤلاء الرجال البواسل الذين يقاتلون محتلاً غازياً لا يعرف الرحمة ” .

طبيعة التركيبة السكانية للخرطوم في ١٨٨٥ :

تلك الافادات المار ذكرها و  التي أدركها العالم بوقتها  قد تفتح منفذاً مهماً لتساؤل مشروع ..هل كانت مدينة الخرطوم في يناير ١٨٨٥ مدينة سودانية حقاً من حيث التركيبة السكانية أم أنها كانت مدينة أجنبية استعمارية بإمتياز  ؟ و قد  أجاب على ذلك المؤرخ الراحل د .ابوسليم من خلال سفره القيم  ” تاريخ  الخرطوم ” حين جزم بأن السودانيون كانوا يشكلون ٢٠٪؜ فقط من سكانها البالغ عددهم ٥٠ ألف نسمة .و جنح المؤرخ البريطاني فيثرستون لتفصيل جنسيات ال٨٠ في المئة المتبقية من أهل المدينة فذكر أن منهم الأغاريق، النمساوين ، الطليان ، اليهود ، الشوام  ، قلة بريطانية مع عدد من الجنسيات الأوربية الأخرى . هذا بطبيعة الحال إلى جانب الباشاوات الترك و المصريين  . وهم ذات الأغلبية الأجنبية التي ذكرها   د.القدال حين قال:   ” شهدت الخرطوم  مجئ أعداد هائلة من الأجانب بلغوا أربعة أخماس سكانها .و كان نفوذهم التجاري و السياسي و الحضاري كبير جدا . و برزت في المدينة فوارق حادة في الثراء  بين الأجانب و السودانيين الذين كان نصيبهم ضئيلاً لتفوق الأجانب عليهم .و أدت تلك الفوارق لزيادة حدة التناقضات مع الحكم الأجنبي و الأجانب عامة ”  . و تحدث المؤرخ البريطاني فيرغس نيكول عن الترف الذي تمثل في قصور باشاوات الخرطوم و أجانبها في مقابل مساكن أقلية السودانيين بالمدينة والتي كانت تنطق بالبؤس و المسغبة .

حسناً،  تلك اذن كانت الخرطوم بأغلبيتها النخبوية الأجنبية .. فأين كانت تقبع الأغلبية السودانية من هذا الصراع لتحرير عاصمة البلاد  في ١٨٨٥ ؟

لابد أن المساحة الواقعة بخارج أسوار المدينة المحاصرة كانت تحمل الإجابة ..لأنه و ابتناءاً على ذلك فقد توافدت اشتات سودانية  لتجتمع تحت راية موحدة  بخارج المدينة منذ ١٨٨٤  ..فمن أهل الخرطوم نفسها خرج الأمير عبدالقادر ود أم مريوم ليحاصر الخرطوم مع قوات المهدية من جهة الكلاكلة و من أهالي  جزيرة توتي جاء الأمير على الأمين الضرير مع قريبه الأمير النور الجريفاوي ليقتحما المدينة مع قوات المهدية لاحقاً . ومن جهة شرق النيل، أعلن العبيد ود بدر انحيازه للمهدية ليحاصر الخرطوم من جهة أم ضواً بان و كذلك تقدم الأمير المضوي عبدالرحمن  في ثلة من  أهله المحس ليخنق مدينة غردون من جهة العيلفون . و من ضواحي الخرطوم الشمالية ، فتح الجموعية ديارهم مرحبين و منضمين للثورة المهدية حين حل المهدي بجيشه في ضاحية ” ابو سعد ”  .وسد  الأمير أحمد المصطفى  ود أم حقين  منافذ النجاة لغردون من جهة الجزيرة سلانج  . وتوافد الفلاتة بخيلهم بقيادة الفكي الداداري  و تقدمت ثلة من الدينكا بقيادة الأمير عبدالرؤوف  أروب بيونق . وتقاطر فرسان الحلاويين من الجزيرة تحت إمرة الامير ود البصير والأمير عبدالرحمن القرشي ود الزين  وثلة من فرسان الشكرية بقيادة الشيخ عبدالله عوض الكريم  أبوسن .. وفرسان العركيين بقيادة الأمير حمدان العركي و  الامير ادريس ود الشيخ مصطفي العركي. و تقدم نحو الخرطوم بمحاذاتهم الشيخ عبدالله بن الشيح حمد النيل و جاء معه البطاحين بقيادة الأمير عثمان النائب ..  وقوات من قبيلة الكواهلة بقيادة الامير جادالله ود بليلو.  جاء الرزيقات بقيادة موسى ود مادبو ، الزغاوة  بقيادة الأمير طاهر إسحاق الزغاوي  وصحبهم أمراء المسيرية بقيادة الأمير علي الجلة ومجموعة من الدناقلة السواراب تحت راية الأمير ميرغني صالح سوار الذهب ..الجعليون العمراب بزعامة الأمير محمد حاج خالد العمرابي و النفيعاب بقيادة الأمير الياس باشا أم برير . و تقدم الأمير العطا ود أصول رأس مجموعة من فرسان الشايقية . كما تنادى فرسان كنانة ودغيم والحسنات والعمارنة ودويح بقيادة الامير بابكر ود عامر و عبدالقادر ود مدرع  و موسى ود  حلو من النيل الابيض .. ثم عُين أمير الأمراء  عبدالرحمن النجومي قائداً عاماً  لحصار الخرطوم .

هذا التمازج القبلي السوداني خارج أسوار المدينة و ما ماثله من مشاهد في بقاع مختلفة بالسودان ،  ألهم مخيلة أديب بريطاني معاصر لتلك الأحداث على نحو أرثر كونان دويل ليكتب عن إحتشاد السودانيين  بسحناتهم المختلفة تحت راية  الثورة المهدية في مواجهاتهم مع الانجليز :

” كانت هناك مجموعتان عرقيتان تقبع بينهما مساحة شاسعة كتلك التي تقبع بين قطبي الكرة الأرضية ..  العربي  بشفتيه الدقيقتين  وشعره  السبيبي  و الزنجي بشفتيه الغليظتين وشعره المجعد  .. ومع ذلك ربط بينهم الإعتقاد الموحد و قربهما لبعضهما بعضاً  بدرجة فاقت روابط الدم  ” .

التعليقات مغلقة.