عبق الكبرياء في زمن الانكسار

عبق الكبرياء في زمن الانكسار
  • 02 يوليو 2025
  • لا توجد تعليقات

مساعد النويري

في قديم الزمان، كانت قبيلةٌ من قبائل البجا قد نُكبت بسقوط نخلةٍ عظيمة في موسم الجدب، فقيل لأحد حكمائهم : ألا تُقيمون النخلة؟ فقال والدمع في عينيه:  ما سقطت النخلة، بل سقط ظلّها، والنخلُ إن سُقيَ دمعًا لا ماء، بقوم . ومضت الأيام حتى صار ذلك القول مثلاً يُضرب كلما انكسر رمزٌ، أو ذوى فرعٌ كان ظلاله مأوىً للعابرين.

وهكذا كان سقوط عثمان دقنة، لا سقوط جسدٍ، بل انكسار ظلٍ كان يُظلّ الشرق كله، ويغطي وطنًا بأكمله. رجلٌ من وهج البحر، ومن سُخام الثورة، أبحر في عمق الوطنية حتى غرق في قيد المستعمر، لا لذنبٍ إلا أنه أحب وطنه حتى آخر النَفَس.

في زمنٍ جفَّ فيه ضرعُ الحرية، وانحنت فيه هاماتُ الرجال إلا مَن عصمه الله، نهض من شرق البلاد رجلٌ لم تُرهبه الزوابع، ولم تُغره السراب، فارسٌ من سواكن، من زرقة البحر ونهضة الجبال، اسمه كالسيف، وفعله كالسيل، هو المجاهد البطل، أمير الشرق، عثمان دقنة، الذي ما لانَ جِنانُه، ولا انثنى له عزم، حتى حمل على ظهره غبار التاريخ البريطاني، وتعثرت في صلابته سنابك الاستعمار.

ولد عثمان دقنة في حاضرة البحر الأحمر، سواكن، وتَشَرَّب منذ نعومة أظفاره ملح الكفاح، ومرارة الغُربة، وترياق التصوف، فشبَّ على يقينٍ لا يتزعزع، أن الوطن ليس قطعة أرض، بل صكُّ كرامة، وأن البحر الذي يُغرق الجبناء، يُعمدُ فيه الأبطال.

حين صدح الإمام المهدي بنداء الثورة، لم يكن دقنة مِن المتأخرين، بل كان طليعةً من طليعة، وبوصلةً للمشرق، عاهد الله والناس أن لا يهدأ له جفنٌ ما دام في السودان مستعمر، فكان كما قال ، فحلٌّ في ميادين النزال، وصقرٌ في سماء القتال، أحكم قبضته على شرق السودان، حتى خشيه الإنجليز، وهابه القادة.

تدفقت عليه قبائل البجا كالسيل العرم ، فانصهر معهم، وذاب في وجدانهم حتى صار ابنهم وسيدهم، وصار الشرق قلعة عصيّة، تتكسر عندها رماح الغزاة. لم تكن معاركه صِداماً فقط، بل فصولاً من ملاحم الشرف، في تِبّن والتمارين، وتوشكي، حيث دوّى صوته بالحق، وجعل من الصحراء وقوداً للبطولة.

يا للأسى! ويا للحزن الذي يتفطّر له الكبد! فذاك الأسد، الذي كان زئيره يرعب الغزاه ، أُسر بأيدي الغدر البريطاني، لا لذنبٍ جناه، بل لكرامةٍ أبت أن تُداس، ولسودانٍ أقسم أن لا يفرط فيه. لقد خانه القريب قبل أن يدنو منه البعيد، إذ تآمرت عليه الألسن الواشية، وسُرّبت أنفاسه إلى آذان المستعمر، فشقّت الوشاية طريقها في الظلام، وأزهقت حُلمًا مضيئًا بالحرية. تم القبض عليه في شرق السودان، وساقوه مُقيدًا إلى وادي حلفا حيث سُجن، وتكسرت في روحه أوتار الأمل، دون أن تنكسر عزيمته.

ولما أبصر الرجل الذي أوشى به، وهو “ود علي”، نظر إليه عثمان دقنة بعيونٍ لم تخمد فيها النيران، وقال بوجع الفارس المكلوم: “أتمنى ألا تكون قد بِعتني بثمنٍ بخس…”. فكان لكلماته أن تظل باقية، تلسع الضمائر، وتعرّي وجوه الخيانة.

ساقوه إلى الأسر كما يُساق الطود الشامخ، فقيّدوا الجسد، وظنوا أنهم قيدوا الفكرة! ولكن أنَّى لهم؟!

كم بكت عليه الرمال، وناحت عليه الجبال، وانزوت سواكن في ركنٍ دامع، تبكي بطلها المصلوب بين سياط الإمبراطورية التي ما كانت تغيب عنها الشمس، إلا في حضرة عثمان.

سُجن في حلفا، وما كان السجن إلا قبراً آخر، في جسدٍ حيٍّ يتلوى. هناك، في زوايا النسيان، بكى النيل مرارة الفقد، وظلَّ دقنة يتأمل الغروب من نافذة الأسر، وكل مساءٍ يقرأ الفاتحة على روح وطنٍ اغتُصب، وحريةٍ أُجهضت.

ومات دقنة، ولكن لم تمت الذكرى، ولا انطفأ الحنين. بقيت سيرته كأغنيةٍ تُغنى في الملاحم، وكلمةٍ تُرددها الجدات في المجالس، وكعَبرةٍ تختنق في حلق التاريخ. بقى رمزًا للمقاومة، وثائرًا بالنيابة عن كل الذين لا صوت لهم.

أُهين المجاهد، وكُبِّل القائد، ولكنه سطّر ملحمةً خالدة، أن لا حياة بلا كرامة، وأن الوطن لا يُؤخذ إلا عنوةً، كما تُؤخذ الأرواح من الأجساد. وما زال صدى زئيره في صحراء الشرق يُسمع لمن به سمع، يُنذر، يُوقظ، يُبشّر: أنَّ السودان، وإن طال ليله، لا بد أن يُشرق من الشرق، كما أشرق ذات فجرٍ، عثمان دقنة.

فيا أهل السودان، لا تجعلوا من أمجادكم صفحات منسية، ولا تدفنوا أبطالكُم في هوامش الكتب. اذكروا أمير الشرق، واذكروا دموع النخيل التي ناحت عليه في صمتٍ شامخ، فهو ليس سيرةً تُروى، بل روحًا تسكن وجدان الوطن، تُذكّر أن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع بدماءٍ لا تعرف المساومة.

Email
tahtadoun@hotmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*