عمر الستين بين الأمس واليوم

في روايته الاجتماعية البديعة (بداية ونهاية) التي كتبها في العام(1943)، وتدور أحداثها في منتصف الثلاثينات يرسم الاستاذ نجيب محفوظ مشهدا لرجلٍ في الستين، كأنما يكتب سيرة الشيخوخة نفسها:
“كان رجلاً في الستين يجمع في جسمه بين ترهل العمر و وقاره، مرتدياً بدلة صوفية على حرارة الجو، ويقبض بيده مذبة عاجية المقبض، ويضع على عينيه نظارة زرقاء، وقد انحسر طربوشه المائل إلى الوراء عن جبهةٍ عريضة لفحت الشمس أسفلها وبدأ أعلاها لامع البياض فيما وراء حز الطربوش. أما سوالفه وما لاح من قذالة شديدة البياض”
في تلك الصورة، كان محفوظ يصف هيئة رجل بمقياس الزمن في عصره. عصر تمضي فيه السنة بحسابات تدبُ فيها عقارب الساعة على مهلٍ كأنها تخشى إيقاظ الشيخوخة، ويتآكل الوقت كما تتراجع اللثة، وتغشى الأبصار غشاوة الماء الأبيض، وتنوء المسامع بثقلٍ يجعل الإصغاء مجرّد محاولة يائسة للفهم.
فالستّون في أربعينيات القرن الماضي كانت مرفأ الشيخوخة و رصيف انتظار القطار التالي.
كان الستيني حينذاك يتأرجح بين عصا يتوكأ عليها، و مسبحة تدور في كفه لصندوق عملٍ يودع فيه آخر مدخراته، وكرسيٍّ قماش (هبابي) يوضع في زاويةٍ البيت يطلّ منه على خريف أيامه. يتأمل ما أنفق من عمره، بينما الأحفاد يستلمون منه الراية في وقارٍ وتؤدة. كانت الستّون إذن محطةً تُعلن تمام مبلغ رحلة الغايات.
اليوم، ولكأن القدر قد كفّ يده عن الطعن في السن. فالستّيني لا يترهّل بل“يتمرّن”، ولا يحمل عصاً بل هاتفاً ذكياً، ولا يراجع دفتر معاشه بل مؤشرات أسهمه في عالم الغد. إذن لقد تغيّر المشهد تماما .. لم يعد الخريف نهاية ذرة التعاقب، وإنما فصلاً من فصول الاستئناف.
لقد صار الستّيني يعيش كما لو أنه في مطلع الأربعين أو لم يغادر الثلاثين بعد، يخطّط، ويسافر، ويتأنّق، ويضحك في الصور (السيلفي) أكثر مما يضحك على وخط السنون على معالم الوجه عند النظر في المرآة.
ربما هذا التحول ليس في الجسد، أو في حساب السنين، وإنما في الوعي والبيئة معاً.
فالستيني في وعيه الخاص لا يرى أنه بلغ الستين حقا؛ وإن فعل فذلك بالسن لا بالإحساس. يشعر أنه لم يأخذ حقه من الحياة بعد، وأن ملذاتها لا تزال تلوح له من بعيد كنهرٍ مضطرم الأمواج لم يخض غمار ملذاته بعد.
أما في عيون الآخرين فالصورة تتعدّد بالادراك والأبعاد:
ففي نظر العابرين لا يظهر العمر إلا في خيوط الشيب على القذال أو في تجاعيد خفيفة يتشارك فيها مع أبناء الثلاثين.
وفي عين الحِسان، فالأمر خاضعٌ لمعادلةٍ أخرى أكثر دقة: الرجل لا يشيخ ما دامت الأرصدة البنكية تنؤ بالودائع. والمسافة قصيرة بين يده و جيبه الخلفي حيث المحفظة بما فيها من نقود. أو كروت (كرديت) ذكية. او أي سندات مبرئة للذمة من قبضة الزمن.
أما في نظر الأقران، فيقتصر المشهد على جملةٍ قصيرةٍ تتردّد بابتسامةٍ مفعمة بالرضا، تعكس ذاتَها لذاتِها
“ما شاء الله… ما زال محافظاً!”
فبرغم أن الزمن لم يتغيّر، لكن فيما يبدو أن إحساسنا به هو الذي إعتراه التغيّر.
فمن كان يبلغ الستين في زمن محفوظ كان يقطع رحلة العمر ببطءٍ ووقار، على ظهور عقارب الساعة التي تحمل الزمن بتلك الطمأنينة. أما اليوم فيتم بلوغها بين غمضة عينٍ وانتباهتها، دون أن يشعر حتى بِتكّات العقارب على مِينا الساعة.
ولربما ثار هنا تساؤل هل يا تُرى لأن الرعاية الطبّية خفّفت وطأة الشيخوخة وأبطأت موكب إطلالتها؟ أم لأن التكنولوجيا خدّرت وعينا بها؟
أم هل تُرى نحن أكثر شباباً حقاً، أم أكثر إنكاراً للزمن؟
لقد تبدّلت معايير العمر ومعها خيارات المعاش.
فالستيني المعاصر يودّع الوظيفة لكنه لا يودّع الرغبة. ويخطط لمشروعٍ جديد بعد التقاعد، ويؤمن أن الحياة تبدأ غداً متى قرر هو، لا متى قرّر التقويم. فالعمر يقاس بما لم يُنجز، لا بما تولى من سنين.
غير أن هذا الوعي الجديد، وإن كان يمنح طاقةً للحياة، يسلبها شيئا من سكينتها القديمة. فالشيخوخة اليوم معركة تصطرع فيها الرغبات المستميتة.
ولعل في الصورة خلاصةً للفرق: فالستيني في تلك الحقبة كانت تتسلمه يد المنون جالساً، تسحقه الأمراض ويأكله الوهن، بينما الستيني اليوم قد تدركه المنية واقفاً في محطة انتظار الترقب بسكتة قلبية، أو صدمة عاطفية، أو خسارة صفقة في منافسة شريفة أو غير شريفة.
ربما يكون الفرق بين ستينيّ محفوظ وستينيّ اليوم أن الأول كان يهرم وهو يعرف لماذا، أما الثاني فيتجدّد وهو لا يعرف حتام أو إلى أين.