نبتنا في حلتنا الوادعة بالشمال القصي بنسق الأسرة الواحدة .. نلهو بكرة الشراب وبالترتار وهو إطار حديدي دائري ندفعه جريا بيد معدنية، فضلا عن صيد العصافير بشراكنا في ” التكل ” واليمام في بطون النخل والحقول وحواف البيادر حيث درس المحاصيل وتذريتها، وبالطبع التسابق بالحمير ” عدلة وقلبة ” وهكذا حتى تقاسمت المدرسة لهونا بجديتها وكان رئيسا جيلنا بمقتضى التراتيبية السنية الحبيبين محمد أحمد بدري الذي التحق بالسكة حديد قبل دراسة الفرع والالتحاق بإدارة أسمنت عطبرة، التي بلغ فيها بجدارته منصب المدير المالي ومحمد سيد خليل الذي عمل في إدارة أنقاض وادي حلفا ثم التحق بشرطة السكة حديد، التي فصل منها لمشاركته في الإضراب الشهير بالوقادة همته.
لاحقا عمل ببورتسودان، التي كانت أولى المدائن التي أزورها حيث عمي فتحي عباس القيادي المعروف في إدارة السكة حديد فسررت بلقاء أخي محمد سيد هناك، الذي تولى برنامج فسحتي وتمديني أنا القروي في بندر بازرعة .. وهنا كان مقعدي. من المواقف الطريفة أننا سبحنا في البحر المختلف بملوحته وخفة كثافته وفي طريق العودة تناولنا وجبة ” كاربة ” في مطعم معتبر وحين مثلنا أمام المحاسب طلب 5 جنيهات بالتمام والكمال وحين أفرغنا كل ما في جيبينا وصل بالكاد 3 جنيهات فوقعنا في حرج شديد ونحن نلتزم بسرعة إحضار جنيهين من البيت فأدرك المسؤول صدقنا وأقسم ألا نعود إليه بالمبلغ، ومازلنا نتذكر هذا المطب ونضحك!
استدعاني من المحاضرة الأستاذ اللامع الطاهر شبيكة عميد معهد التربية شندي فأسرعت إليه في وجل فأبلغني أن ناظر محطة شندي اتصل لأقابل أخي محمد سيد خليل في اكسبريس حلفا المتجه للخرطوم بعد ساعة فكان اللقاء وكان الهناء وأخبار البلد وطرد رطب من والدتي الحبيبة ثم الوداع ولم أبرح مكاني متسمرا حتى غاب القطار عن ناظري!
الطاهر شبيكة من ألمع التربويين وأخرج مسرحية يا طالع الشجرة لتوفيق الحكيم أول مرة بالسودان في مسرح المعهد بطولة ابن دلقو البروف أنور محمد عثمان، وكان له ابنة مليحة يتهامس زملاؤنا أنها من كتب مداعبا لها عمها الشاعر علي شبيكة أغنية سيد خليفة الطروبة ” نا يا نانا “.
خلال وجوده بالبلد في إجازة صادف أخي محمد سيد امتحانات تعيين عمال مشروع القامبيا الخاص بمكافحة البعوض وفاز بالعمل، الذي ربطه بالبلد مجددا.
خلال ذلك كان زواجه الميمون، الذي أتذكر تفاصيله .. بدءا بليلة الحنة في بيت جده الشيخ حاج الأمين بدلقو، حي السوق حيث كان يسكن ونحن نتحلق حوله في بهجة وسط الزغاريد المتتابعة بينما تدشن وضع الحنة خالته اللطيفة بتول علي إدريس وهي تتمنى لنا زواجا قريبا، وكيف مضى موكبنا الهانئ لحلتنا الليلة التالية في سعدنكورتى، حيث غنيت له في سيرة البحر بصوت أدعي عذوبته بدليل ترديد الجمع فقراته في انتشاء. أما خلال جلسات العرس التالية فكانت نجمة الإبداع بنت خاله، بنت عمتي الأستاذة شريفة محمد عثمان بأغنية سايق العظمة سافر خلاني ليه الشعبية العذبة، التي باتت المفضلة في الليالي المخملية، التي قطعها سفري المحتوم بطريق دلقو .. نمرة 6 وأنا حزين، كسيف على فراق البلد وصديق العمر في أبهى أيامه.
تطلعا للأفضل سافر أخي محمد سيد للسعودية مع طلائع مغتربينا وكان نجم جمعية دلقو والمجتمع النوبي العريض بوعيه وروحه الاجتماعية المشهودة، وكنا نترقب عودته للبلد في الإجازات، حيث كان بيته مكان قيلولتنا بين منشغلين ب ” الكشتينة “، ومتكاسلين في الأنس، واعتدنا أن ننزل للبحر يوميا للسباحة والاستحمام، ثم نلتحق بلمة العصرية على مسطبة بيت جدنا وسط الحلة في ونسة رقراقة حتى حلول المساء.
لاحقا جاء دور اغترابي في السعودية وكان أخي محمد سيد رفيق دربي المخلص.
بعدئذ جمعتنا الخرطوم في مسار وداد متجدد في بلاد الحاج يوسف، وكلانا يحمل في قلبه وعقله خدمة البلد غاية سرمدية.
هذه الأيام عدت من الخارج وكان أخي محمد سيد قد سبقني للبلد بظروف الحرب المعروفة وكل منا تصدح دواخله:
ما أحلى الرجوع إليه!