الثلاثاء - 26 جمادي الثاني 1447 هـ , 16 ديسمبر 2025 م

البرهان ومحمد بن سلمان يبحثان سبل تحقيق السلام في السودان

عبدالقادر سالم… حين يغدو الصوت وطنا، ويعانق العالم

عبدالقادر سالم… حين يغدو الصوت وطنا، ويعانق العالم
السمؤل محمد إبراهيم

برحيل الدكتور الموسيقي الفنان المبدع عبدالقادر سالم، لا يفقد السودان صوتا جميلا فحسب، بل يودع وجدانا كاملا كان نابضا في تفاصيله، وحسّا فنيا صادقا تشكل على مهل، حتى صار جزءا أصيلا من الذاكرة الوطنية. لقد كان عبدالقادر سالم أكثر من مطرب؛ كان حالة إنسانية وثقافية، وحضورا فنيا يلامس الروح قبل الأذن، ويستقر في القلب قبل الذاكرة.
لم يكن صوته عابرا في سماء الأغنية السودانية، بل مقاما ثابتا في لحن الهوية، عزف على أوتار الروح بصدق نادر، وعمق لا يستنسخ. غنى للوطن، فصار صوته وطنا يحتمى به، وأنشد للحب، فتحول اللحن إلى ذاكرةٍ جمعية يتقاسمها الناس على اختلاف أعمارهم وأمزجتهم. وفي كل ما قدم، كان الإحساس حاضرا، والصدق قائدا، والجمال مقصدا.
من «أسير غزال» التي صفت رهافة الإحساس حتى غدت أنشودة للوجدان، إلى «حليوة يا بسامة» بما تشعه من دفء إنساني يلامس الروح قبل السمع؛ ومن «ليمون بارا» التي فاحت بعطر الأرض وذاكرة الناس، إلى «مقتول هواك يا كردفان» التي ارتقت بكردفان من جغرافيا إلى معشوقة تسكن قلب الوطن بأسره؛ تتوالى هذه الروائع الخالدة شاهدة على قدرة الفن على تحويل الحب والحنين والمكان إلى وجدان جمعي لا يشيخ، ونبض حيّ يتجدد مع الزمن؛ قدم عبدالقادر سالم فنا نظيفا، غارقا في القيم، متكئا على جذور التراث العريق دون أن يكرره، ومجددا دون أن يفرط في الأصالة. لقد كان مدرسة قائمة بذاتها، ورسالة فنية أخلاقية، وجسرا متينا بين الفن والإنسان، بين الأرض والوجدان.
ولم يتوقف أثر عبدالقادر سالم عند حدود الوطن، بل كان من القلائل الذين أوصلوا الأغنية السودانية إلى آفاق العالمية بوعي واقتدار. ففي أسفاره الفنية، وحين كان يعتلي المسارح في مختلف أنحاء العالم، لم يكن يغني للسودانيين وحدهم، بل كان يخاطب الإنسان أينما كان. كانت الشعوب التي غنى أمامها على اختلاف لغاتها وثقافاتها تتفاعل مع صوته بمحبة وانطراب صادق، وتنجذب إلى ألحانه دون حاجة إلى ترجمة؛ لأن صدق الإحساس كان لغته المشتركة، ولأن الموسيقى التي قدمها تجاوزت الجغرافيا، ولامست إنسانية الفن في أنقى تجلياتها.
تميز الراحل الكبير بثقافة موسيقية رفيعة، ووعي عميق بدور الفن في بناء الوعي الجمعي، فجاءت ألحانه امتدادا للبيئة، وصوته صدى للإنسان السوداني في بساطته وكرامته وشجنه النبيل. لم يغني ليدهش فحسب، بل ليبقي المعنى حيا، وليؤكد أن الفن الحقيقي لا يشيخ، ولا يفقد قدرته على التأثير مهما تعاقبت الأزمنة.
نم قرير العين أيها الفنان الإنسان؛ فقد أودعت فينا ما يكفي لنحيا على نبضه زمنا طويلا. ستظل ألحانك تمشي بيننا كالدعاء، وتغني للوطن كلما ضاق بنا الحنين، وسيبقى اسمك محفورا في سجل الإبداع السوداني شاهدا على زمن جميل وصوت لا يُنسى.

لقد وصل عبدالقادر سالم إلى العالم لا لأنه تنازل عن هويته، بل لأنه تشبث بها بصدق؛ فكانت سودانيته جواز سفره، وكانت جذوره المحلية هي السر الذي جعل فنه مفهوما ومحبوبا في كل مكان. هكذا يكون الفن حين يصدق : محلي الجذور، عالمي الأثر.
إنا لله وإنا إليه راجعون، وأحسن الله عزاء الشعب السوداني كافة.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
دخول سجل اسمك المستعار
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور