فرعُ جريدٍ على مرقد عبد القادر سالم

فرعُ جريدٍ على مرقد عبد القادر سالم
  • 17 ديسمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

د الطيب حاج مكي

في هذا اليوم الموشّى بالسواد، يثقل القلب بما لا يُحتمل، ويخون الكلام معناه. فقد غاب المعلم الرزين، ورحل الفنان المخضرم، وانكسر شيءٌ عميق في الروح. غاب ملك المردوم والجراري، فبدت الساحات خاوية، والإيقاع يتيماً، والبلاد رغم دخان المدافع أقل دفئاً مما كانت عليه بالأمس القريب. فقد انطفأت فجأة “بسامةٌ ” كانت تضيء العتمة، مثل شمعةٍ تُقاوم الريح حتى آخر نفس، ثم تسقط فجأة، تاركةً الدموع بلا عزاء.
اليوم تبكي الرمال عبد القادر ، ويبكيه رماد الوطن، ويبكيه ليل كردفان الطويل على وجه الخصوص. وينوح الصدى في الفضاء، مردداً مناحةً قديمة لا تهدأ:
غاب تومي.
وكأن الأرض نفسها فقدت صوتها، وكأن الإيقاع الذي كان يوقظ الفرح والحزن معاً، قد انكسر إلى صمتٍ موجع.
في هذه اللحظة المثقلة بالفقد، يطل وجه عبد القادر سالم من الذاكرة القريبة. يخرج إلينا من تلك الندوة التي انعقدت في الثاني والعشرين من فبراير 2025م، برعاية مركز العز بن عبد السلام، بعنوان إسهامات القامة الفنية الدكتور عبد القادر سالم في الغناء السوداني. يومها كان عبد القادر حاضراً بين محبيه، تحيط به الكلمات والاعتراف بالفضل، واختتم اللقاء بكلمةٍ تشبهه: وزع علينا الدروع بكلمات هادئة، صادقة، ومضيئة. ثم غنّى. وكأن الغناء كان وصيته الأخيرة، أو كأن صوته كان يودّعنا ونحن نظن أنه باقٍ إلى الأبد.

واليوم، تفرّقت النوارس وابتعدت عن ضفاف الذاكرة، وانطفأ ذلك الضوء الدافئ الذي كان يضيء وجداننا. غابت البسمة الحليوة التي لم تفارق ملامحه ولا فنه. رحل المعلم، الفنان، والباحث الجاد، الذي حمل التراث على كتفيه كما تُحمل الأمانة الثقيلة، ومضى وهو يترك فراغاً لا يملؤه أحد.

الحزن على عبد القادر  ليس عابراً، بل حزنٌ ثقيل، مقيم، يشبه حزن الفقد الأول. نشعر وكأن أغنياته نفسها صارت تبكينا، وكأن كل لحنٍ كان يخبئ بين نغماته وداعاً مؤجلاً. نقف أمام الغياب عاجزين، نعدّ خساراتنا بصمت، ونعرف أن بعض الراحلين لا يُعوّضون.

كان عبد القادر سالم بسيطاً كأغنيات البوادي، أصيلاً كأرض كردفان، متواضعاً رغم قامته الفنية والعلمية السامقة. قلة هم الذين تصدّوا لتوثيق التراث الشعبي بوعيٍ وإبداع، وكان هو أكثرهم حضوراً، وأصدقهم انتماءً، وأعمقهم أثراً. حمل رسالته معلماً يجوب بقاع السودان، وفناناً يُنصت لنبض الناس، ويحوّله إلى لحنٍ باقٍ لا يشيخ، حتى صار صوته ملاذاً للحنين، ومرآةً لوجع الناس وفرحهم.

تشبّع بروح فيافي كردفان الغرّاء، فصارت الوطن الأول في صوته، ومفرداته، وشجنه. واليوم، ونحن نودّعه، تتردّد أغنياته كأنها مراثٍ مبكرة كتبها لنفسه دون أن يعلم:

الليلة غاب تومي
خلّوني يا خلايق
أعدّ نجوم الليل
نار الغرام ضايق

كم هو قاسٍ أن نسمع هذه الكلمات الآن، وهي لم تعد أغنية فحسب، بل حقيقةً موجعة. كأن صوته كان يهيئنا لهذا الغياب، وكأن الفن أحياناً يعرف ما لا نعرفه نحن.

في مطلع سبعينات القرن الماضي، أطل عبد القادر سالم على الساحة الغنائية بأعمال جديدة في سُلّمها الموسيقي، مميزة في إيقاعها، صادقة في إحساسها، جميلة حدّ الوجع. أغنيات تحكي الشوق والرحيل، والحنين الذي لا يندمل جرحه، حتى صار صوته جزءاً من ذاكرة الناس ووجدانهم، وواحداً من الأصوات التي إذا غابت، شعرنا بأن الزمن نفسه قد انكسر.

وشكّل مع الشاعر عبدالله الكاظم ثنائية فنية متفرّدة، قدّما عبرها أعمالاً بقيت شاهدة على زمنٍ جميل، وعلى روحٍ تعرف كيف تُحب الأرض والإنسان. واليوم، يبدو ذلك الزمن بعيداً، كأنه حلمٌ قديم نستعيده بدمعةٍ صامتة.

وُلد عبد القادر سالم بمدينة الدلنج عام 1946م، لأبٍ من قبيلة العمراب، وأمٍ من قبيلة الحوازمة، ونشأ في بيئة ثرية بالتمازج القبلي بين الدلنج والأبيض. هناك، بين رمال كردفان وفضائها المفتوح، تشكّل وجدانه، وتكوّن صوته، وتعلّم أن الفن ليس ترفاً، بل شهادة حياة. بدأ معلماً، وبقي معلماً حتى آخر لحظة، سواء في الصفوف الدراسية أو على خشبات المسرح أو في قاعات الجامعات.

نال درجة الدكتوراه في الفنون عام 2005م من جامعة السودان، وكرّس بحثه للغناء والموسيقى في كردفان، محللاً إيقاعات المردوم والجراري والهسيس، كأنه كان يخشى عليها من النسيان. واليوم، ونحن نودّعه، ندرك أن خوفه كان في محلّه، وأن رحيله يتركنا أمام مسؤولية ثقيلة.

وإذ يغيب عبد القادر سالم فاننا نضع على مرقده فرع جريد اخضر، ونغادر مثقلين بالفقد، ونعرف أن شيئاً في داخلنا لن يعود كما كان. ستظل أغنيات عبد القادر تنادينا من بعيد، وسيظل صوته حاضراً، حتى ونحن نحاول التعايش مع هذا الغياب الذي لا يُحتمل.

الليله غاب تومي خلوني يا خلايق
نعد نجوم الليل نار الغرام ضايق
حليل كلام الريد الفي الضمير شايق
زولي الرحل ياناس غير شوفتَّ ما رايق
صبراً بجيب الخير لي نارو ما طايق
الليله غاب تومي خلوني يا خلايق

رحم الله سفير المفردة الراقية ورائد السلم السباعي ودارس التراث وباعثه من رقاده الطويل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*