الكسب الكوري والدرس الكوري

الكسب الكوري والدرس الكوري
  • 29 أبريل 2018
  • لا توجد تعليقات

الإمام الصادق المهدي

مقدمة:

في أثناء الحرب الباردة (1948-1989م) انقسمت السياسة الدولية في العالم إلى معسكرين، وتأثر كثير من دول العالم بهذا الاستقطاب لا سيما في أوربا وآسيا.

مهما كانت عوامل النزاع الداخلية في شبه الجزيرة الكورية، فإن الشعب الكوري دفع ثمناً باهظاً في غضون الحرب الباردة، وهذا ما أدى إلى حرب أهلية طاحنة كانت نتيجتها الانقسام بين كوريا جنوبية منحازة إلى المعسكر الغربي، وكوريا شمالية منحازة إلى المعسكر الشرقي. وجمدت الأوضاع بين الكوريتين بموجب اتفاق هدنة استمر حتى الآن 65 عاماً.

وفي يوم الجمعة 27 أبريل 2018م اجتمع رئيسا البلدين: مون وكيم، واتخذا قرارات ذات عائد اجتماعي، وإنساني، وتعاوني لصالح شعبيهما. واتخذا قراراً مهماً بإنهاء حالة الحرب بين البلدين، وطبعاً معالجة الملف النووي.

لقد هزني هذا الكسب، كما هز آخرين، فكتبت خطابين الرئيسين مهنئاً ومباركاً.

ويهمني في هذا المقال أن أعدد معالم الكسب في هذه التجربة، والدروس المستفادة منها.

أقول:
أولاً: لقد تجلت مواهب الشعب الكوري في الانضباط بحيث التزم الجميع ببنود الهدنة. ومع أن الحدود بينهما كانت متوترة للغاية فإنها لم تنفجر.

ثانياً: كوريا الجنوبية، وقد كان مستواها التنموي عالم ثالثي، استطاعت أن تحقق إنجازين عظيمين: تنمية اقتصادية رفعتها إلى مستوى دول متقدمة، وممارسة ديمقراطية كفلت الحريات والتداول السلمي للسلطة.

ثالثاً: كوريا الشمالية اتبعت حكماً شيوعياً يقوده حزب واحد حاكم بولاية وراثية. تجربة معرضة للنقد بمقاييس الديمقراطية، وحقوق الإنسان. ولكن ما ضاع من الحريات صحبه إنجاز في شكل انضباط مجتمعي لمواجهة هجمات خارجية قوية، ولكن الإنجاز الأهم هو تكوين آلة عسكرية لا مثيل لها في العالم الثالث كله. العالم الذي فيه في كثير من الحالات غياب الحريات وغياب الإنجاز.

رابعاً: هذه القدرات العسكرية جعلت البلاد تواجه زفرات الوعيد الأميركية. قال الرئيس ترمب مخاطباً قيادة كوريا الشمالية: ويلٌ لكم من حمم النار والغضب، ووصف رئيسهم بالسمين القصير. رد المخاطب: صورايخنا تستطيع أن تصلكم يا مخرف.

خامساً: الرئيس مون رئيس كوريا الجنوبية ميز موقفه؛ بوصفه رجل دولة ممتازاً لم يجار حماسات الرئيس الأميركي، واتبع دبلوماسية الألعاب الأولمبية الشتوية في سيول مرسلاً غصن زيتون مخالفاً للنار والغضب.

سادساً: موقف كوريا الشمالية الواثق، وموقف كوريا الجنوبية الحكيم؛ أثمرا إرادة كورية مستقلة، ووضعا القيادتين في موقع محترم.

سابعاً: لقاء الزعيمين الكوريين ركز في أولويات التطبيع الذي يهم الشعب الكوري في المجالات الاجتماعية، والإنسانية، والتنموية، وبناء السلام والتطلع للوحدة، والهم الأمني.

ثامناً: السلام في شبه الجزيرة الكورية يثير أمراً مهماً للعالم أجمع هو التعامل مع المسألة النووية.

السعي إلى امتلاك السلاح النووي يعتمد على ثلاثة عوامل هي: الإمكانات المالية، والمعرفة التكنولوجية، والدافع. العاملان الأولان متاحان لكثيرين، وبالنسبة إلى كوريا الشمالية، فإنها وجدت نفسها تواجه بلداً تحميه قوة نووية هي الولايات المتحدة، ومع وجود عداء بين البلدين اهتمت كوريا الشمالية بتطوير إمكانات نووية وصاروخية رادعة صرفت عليها دم قلبها من إمكانات شحيحة، وعبر 40 عاماً من الجهد حققت ما حققت حتى تتفادى الابتزاز النووي. هذا معناه أن أية معادلة في هذا الصدد سوف تكون ما بين إمكاناتها النووية والإمكانات المتاحة للطرف الآخر.

المسألة النووية هذه تهم العالم كله. إن معاهدة منع انتشار السلاح النووي قائمة على أسس مختلة، لأن دولاً تملك السلاح النووي تسعى إلى منع الآخرين، وهذا ما يعني احتمال تعرضهم للابتزاز النووي. هذه مشكلة، والمشكلة الثانية أن هنالك بلاداً بينها توتر وعداء، فإذا امتلكت دولة سلاحاً نووياً، فإن الدولة الأخرى سوف تسعى إلى ذلك، كما كان بين الهند وباكستان. ومشكلة ثالثة تتعلق بمناطق كالشرق الأوسط، وفيه تمتلك إسرائيل سلاحاً نووياً، ويراد منع الدول في المنطقة من امتلاك السلاح النووي. هذا معناه أن تكون الدول الأخرى معرضة باستمرار لابتزاز نووي.

والمؤسف أن مجلس الأمن لا يمكن الاعتماد عليه لحماية المعتدى عليهم، لأن حق النقض للخمس الكبار يحول دون اتخاذه القرارات المطلوبة، فالدول الخمس تفعل ما تشاء كما كان في حالة العراق، وتستطيع أن تحمي نفسها وتحمي حلفاءها من قرارات مجلس الأمن الدولي.

كما أن التجارب أثبتت أن دولاً مسلحة نووياً لا تقيم وزناً للسلام الدولي، وأن أية دولة تمتلك السلاح النووي لا تهاجم بل يكون سلاحهاً رادعاً.

السلاح النووي، بل كل أسلحة الدمار الشامل أسلحة غير أخلاقية، واستخدامها يؤدي إلى جريمة حرب، وإلى إبادة جماعية، وإلى تناقض تام مع بروتوكلات جنيفا الأربعة.

المسألة الكورية تلفت النظر إلى قضايا انتشار السلاح النووي المعقدة، ويرجى أن تكون مناسبة لسد هذه العيوب. ليكن موضوع السلاح النووي في شبه جزيرة كوريا مدخلاً لإيجاد حل عادل لمشكلات منع انتشار الأسلحة النووية؛ لأن ما فيها من خلل وتعقيدات سوف يظل مهدداً للأمن والسلم الدوليين.

تاسعاً: تجربة كوريا الجنوبية تجربة تنموية رائدة، ويرجى أن تدرس مع التجارب التنموية الناجحة الأخرى؛ لتصير هذه التجارب قدوة للبلاد التي تعاني التخلف التنموي.

عاشراً: إن الكسب الكوري يحمل لنا في منطقتنا دورساً مهمة:
– أهمية الاعتماد على الذات في الدفاع عن النفس.

– الحرص على التنمية الاقتصادية، والحيلولة دون تغريب الثروة، لأن هنالك خططاً بعنوان تدوير الثروة لنقلها خارجياً.

– ضرورة وقف الحروب الحالية في المنطقة؛ لأن قوى الهيمنة الدولية تعمل على توظيفها وسيلة لتفكيك دول المنطقة. تستخدم لذلك، ويباع لأطرافها السلاح لمزيد من الدمار، ولكن التوازنات الدولية لن تسمح لأطراف النزاع فيها أن تحقق نصراً.

حادي عشر: قطعت الكوريتان شوطاً في مشوار إرادة السلام وعزيمة التطبيع بينهما، ويرجى أن تحرص الدولتان على المواصلة كمشروع كوري لا يسمح لآخرين الاستيلاء عليه.

نعم للدول الكبرى دور، ولكن ينبغي أن يكون هذا الدور لمباركة ما يتفق عليه الكوريون، والمساعدة على إنجاحه. كلما خرج الأمر من يد الكوريين تحول إلى مراشقات الدول الكبرى:

ومَنْ رَعَى غَنَماً في أَرْضِ مَسْبَعَةِ ونامَ عَنْها تَوَلَّى رَعْيَها الأَسَدُ

التعليقات مغلقة.