رحلتي إلى آخر الدنيا (6): الماء والخضرة والوجه الحسن

رحلتي إلى آخر الدنيا (6): الماء والخضرة والوجه الحسن
  • 19 أغسطس 2019
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

في الطريق كان أبوداود من جوالي يغرد بأغنية الصبابة من شواهق بازرعة وأوتار برعي تعانق الإدهاش الذي قال عنه البروف علي المك: “إن عزفه لا يطول سماءه أحد”، وهي الأغنية التي ترنم بها أبوداود في الكويت فاستبد الانتشاء بوزير نفطها الذي صعد إلى المسرح يخلع ساعته الذهبية ويلبسها إياه:

عجبا يقول الناس إنك هاجري
وانا الذي ذوبت فيك مشاعري
سبحت باسمك والنجوم سوامري
حتى بكى قلبي بدمع محاجري

الابن محمد يقف بسيارته في الساحة المعدة؛ متجنباً الوقوف في مواضع سيارات ذوي القدرات الخاصة أي الإعاقة الذين تخصص لهم مواقع في كل المواقف.

سرنا راجلين على طريق معد للمشاة والراكضين بمساري الغادين والرائحين، ومسار ثالث للدراجين المتريضين على صهوات الدراجات وكلها مسفلتة.

الأشجار الخضراء السامقة الكثيفة ترنو إلى السماء على الجانبين تشرئب بينها نباتات وسيطة وأخرى متسلقة ونجيل مخضر يفترش الأرض كلها. وهناك مسارب محددة لمن يرغبون في التوغل في جوف الغاب العذري. والغابات ثروة هائلة فبجانب منتجاتها الخشبية الثمينة تعادل القدرة التلطيفية للشجرة الواحدة طاقة ١٠ مكيفات هواء فما بالكم بما تحدثه غابة كاملة.

وتقلص الغطاء الغابي في السودان إلى ١٠ في المائة فقط بانفصال الجنوب ومحاولات الإحلال بطيئة في الوقت الذي غرست فيه أثيوبيا ٢٢٤ مليون شتلة في يوم واحد خلال نفير قومي متخطية الهند التي زرعت ٦٠ مليونا. ويؤمل أن يمضي مشروع الحزام الأخضر الإفريقي بسلاسة الذي انطلق من العاصمة السنغالية داكار بعرض ١٥ كلم تجاه جيبوتي مخترقا السودان.

وأنتجت حديثا أشجار صناعية أشبه بصناديق كبيرة تضطلع الواحدة منها بوظيفة قرابة ٤٠٠ شجرة تصلح لمحطات النقل ومواقع الازدحام حيث يتعذر الاستزراع.

على اليسار خرير ماء ينساب في التماع على عمق أمتار تقدر بخمسة منحدرا للأودية المنخفضة آتيا من ذوبان الجليد في المرتفعات وتساقط المطر الذي لا يغيب طويلاً ولا يخلف وعداً حتى صيفاً كما هو هذه الأيام. أما في الشتاء فتهطاله قد يتصل يوماً كاملاً، ويزيد في ضراوة. ومن فرط موالاته تخضر حتى أسطح جلاميد الصخور وجل القائل ” وجعلنا من الماء كل شيء حي “.

الهدوء يلف المكان إلا من أغاريد الطيور ورفرفات الفراشات المونقة القوس قزحية.

في كل ربع ميل مقعد أسمنتي مريح يلتقط المتعبون أنفاسهم عليه. نجلس حينا ونتجاوز حينا. وفي اتكاءتنا يمر بنا عابرون بعضهم يلقي التحية وجلهم يلتزم الصمت.

هذه سيدة تدفع بعربة رضيعها وتلك شابة تحصر نفسها في بنطلون جينز ضاغط لا يخفي تضاريسها وشاب يسرع عائدا على دراجته وهو يعقد جماع شعر رأسه من الخلف ب ” توكة ” أسوة ببعض لاعبي المونديال المشاهير، كشأن بعض الشباب، وجمع من البنات يتسامرن ويتضاحكن في ألفة، معظمهن يرتدين أردية فوق الركب كثيراً، فيما تطول الخاصة بالرجال حتى حافة الركبة.

ويمر مسن يغالب عبء السنوات في خطى واثقة وشابة طويلة سمراء تخفي نصف وجهها خلف نظارة سوداء في اعتداد تسحب كلبها المدلل بحبل ملون تشده حينا وترخيه أحايين وهكذا مشهد يتنوع مراراً.

الاهتمام هنا عظيم بتخصيص مضمار للمشي والتريض في كل الحدائق والمتنزهات .. وما أكثرها لمنافع المشي الصحية وللترويح بعد أسبوع عمل شاق فلا مجال للتسيب والتراخي هنا فالانضباط محسوب والعمل محترم والإنتاج مقدس. ومن هنا ينبع تقدمهم.

وينصح الأطباء والمختصون دوما برياضة المشي السريع المقترب من الهرولة نصف ساعة يوميا لاتقاء الأمراض العصية وكبح مضاعفاتها الوخيمة.

ويرى صديقي الدكتور عبد الكريم عثمان كبير استشاريي أمراض الباطنية والقلب أن من لا تسمح ظروفه بالتمشي في الشارع أو الدوران حول الميادين بمقدوره الهرولة حول حوش بيته الداخلي.

في طريق العودة عرجنا على صغرى بحيرات المدينة وهي في حجم ٣ أضعاف ميدان المولد في السجانة بل أكثر اتساعا وخلال سيرنا تجاهها راجلين بعد إيقاف السيارة مع رتل مركبات كانت بعض الأسر والمجموعات تنهمك في الشواء على العراء في شوايات تعدها السلطات في مواقع الترويح فيما أطفالهم ينتثرون في مرح كأزاهير رائعة في صخب محبب.
جلسنا على مقعد شاطئي نتنسم الهواء العليل البليل وعلى مدار البحيرة وحوافها فلل بالغة الروعة وقوارب مخروطية الأشرعة تمخر عبابها متمهلة وأخرى تشق المياه مسرعة بقوة دفع ماكيناتها فيما يخوت عدة راسية.

أمامنا جسر خشبي يمتد مسافة ثم ينحو يسارا بما يومئ بأنه الفاصل بين الضحل من المياه والعميق.

عشرات الشباب يسبحون في لهو وصبايا كاسيات عاريات يتنعمن بنشوة المياه المنعشة غير آبهات بالمشاهدين الذين اعتادوا هذه المناظر وألفوها بل باتوا جزءا منها.

ولفتت نظري بينهن حامل تأبى إلا أن تدلي ساقيها من على الرصيف تضرب بهما المياه تواليا ثم تغوص فيها متخففة من بعض ملابسها.

ها هي الشمس ترنو للاحتماء وراء حجب السحب الداكنة وليس بينها وبين الغوص خلف الأفق كثير وقت.

إذن وجب الرحيل .. ها هي سيارتنا يبتلعها زحام الطريق الطويل المفضي إلى البيت بعد ترويح جميل أخذ منا شطري الظهيرة والأصيل.

ما أروع الترفيه الذي يغسل أدران الرهق والرتابة فالنفوس تصدأ ومع ذلك فنحن لا نحفل به في بلادنا كثيراً.

أنور محمدين
سياتل

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.