رحلتي إلى آخر الدنيا (9): في المسلخ

رحلتي إلى آخر الدنيا (9): في المسلخ
  • 12 سبتمبر 2019
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

يا جوهر صدر المحافـــــــــل *** روحي معـاك اتلطفيلهــــــــــــــا


ما النور الفي حِلّيه رافـــــل *** في حُـق نًهده قلوبنـــا قافــــــــــل

ما الظبي الفي مقيله غافــل *** تــــارة يميــل والتانية جافـــــــــل

وجهه يَنــور والبدر آفـــــــل *** فوق للبدر يزيـــــد نفيلــــــــــــــه

الغريد هاشم ميرغني يصدح بالعود بباقة من عيون الحقيبة مبتدرا بإبداع أبوصلاح صدر المحافل وقد بلغنا نهايات مشوارنا بعد سير وسط أشجار متجاورة وحقول يانعة مدى ٤٠ دقيقة أي حصة مدرسية.
في طريقنا مرت بنا ٣ قطارات أحدها عربات بضاعة مثل التي بالسودان والثاني صهاريج نفط والأخير حاويات كل منها في حجم عربة سكة حديد. اللافت أن كل قطار يسحب نحو ٢٠٠ عربة قد تمتد من فم جسر القوات المسلحة حتى المحطة الوسطى تجرها قاطرتان وتدفعها من الخلف قاطرة. وتحسرت على قطاراتنا التي تئن بحمولة ٥٠ عربة وتستصرخ كأنما تقول دقاتها:
قلبي انقطع .. قلبي انقطع
نحن في إحدى ضواحي المدينة التي يفضلها الأثرياء لينعموا بالهدوء بعيدا عن صخب قلب المدينة ” داون تاون ” عكس مفهومنا فعندما يشاغلوني بأهمية امتلاك بيت في الخرطوم في موقع مميز ظللت أقول:
مهلا
سأكون جار القصر الجمهوري .. حيطة بالحيطة!
الحين نأخذ طريقا فرعيا وبعد محور نصف دائري نتوقف في ساحة بها عدد من السيارات.
بالداخل يستقبلنا خواجة عبر نافذة مكتبه ويشير إلى جهاز نضع فيه البيانات الشخصية ونحدد طلبنا ونوعيته إن كان ذكرا أم أنثى. من الخلف نختار من حظائر عامرة خروفين نوع بربري ما يشير لأصلهما الصومالي’ كما يسمون الضأن السوداني السواكني تبعا لميناء التصدير. والبربري باللغة الآرامية البدوي او القروي. وبربرة ميناء جمهورية أرض الصومال وعاصمتها هرجيسيا وهي غير معترف بها دوليا وتعتمد في صادراتها على الثروة الحيوانية والصمغ العربي واللبان الذي تنافسها فيه سلطنة عمان وشجرته الأغلى. لكن صاحب المسلخ المليونير من أصل أثيوبي له مزرعة واسعة يربي فيها قطعان مسلخه.
ويطلب منا الخواجة الموظف إيداع القيمة في جهاز عبر البطاقة هازئا:

No money No honey
أي ما في قروش .. ما في عسل!

عندما وقفنا عند عتبة صالة الذبح والتجهيز الفسيحة طالعنا تنويها بعدم التحدث للعاملين على المناشير الكهربية’ التي تتوالى فيها عمليات فصل الأضلاع ثم تقطيعها تباعا فور السلخ اليدوي المتسارع . الحين أزف ترتيبنا ال ٢٦ فسألنا عن مسلم بين الحاضرين يحسن النحر الإسلامي فتقدم شاب أفغاني ظريف ملبيا. وعند تجاذبنا الحديث معه ذكر أنه حديث القدوم لأمريكا ويعمل في استقبال فندق يتعلم فيه الإنجليزية من زملائه وزبائنه تدريجيا وهو ما يتسق مع مفهومنا التربوي:
” إننا نجيد من الأشياء ما نمارسها” .
والإنجليزية باللكنة الأمريكية كؤودة حتى على الملمين بها فهم يختزلون بعض حروفها فيختلف النطق’ فضلا عن مفردات خاصة بهم. وتعلق إحداهن بأنهم يتكلمونها بسرعة مثل صخرة مدردقة من رأس جبل!
كر رررر ….
عندما خرجنا نجلس منتظرين بالخارج جاء عراقيان .. أب وابنه يريدان رأسين فقيل لهما لا توجد إلا خراف كاملة فحار بهما الأمر لكن الأحشاء كانت متاحة مجانا حيث توضع في براميل بأغطية رغم أن الكمونية ثبت علميا فائدتها العظمى’ فقلنا:
طلبكما مجاب .. تفضلا بالجلوس فقدرا ذلك وقالا إنهما يتابعان أحداث السودان بإشفاق فسألنا عن العراق فقالا إنه محاصر بجملة من المشكلات منها ذيول تهور صدام مثل دفع تعويضات سنوية باهظة للكويت والتطاحن المذهبي وإنشاء تركيا سدودا على دجلة والفرات لري أعاليها ما يعرض بلاد الرافدين للجفاف صيفا.
تسلمنا كرتونتي ذبيحتين لقاء ٧٠٠ دولار فسلمناهما الرأسين فمضيا بسيارتهما شاكرين للمزارع القريبة حيث يعملان ويسكنان مع الأسرة. أما لماذا جهزنا خروفين لا واحدا فالسر تتبدى حقيقته في مجريات الحلقة التالية.
حكى حاضرون هناك كيف أن وافدا جديدا ذبح شاة وشرع في نظافتها على شط نهر جواره ففوجئ بسيارات الطوارئ تحاصره وتواجهه بمخالفاته تحت طائلة تلويث البيئة وتعذيب حيوان وممارسة مهنة دون تصديق .. إلخ إلخ فنجا بأعجوبة بعد تبين جهله بالنظم .. كله ” بالقانون “.
فور تسلمنا المطلوب خرجنا لموقف سياراتنا وكان عدد يعود مثلنا بالغنيمة منهم نساء كل واحدة تقود سيارتها وأوضحهن الصوماليات بزيهن المحتشم وأهل الصومال هنا يحرصون على لغتهم ويسكنون معا وكان تساندهم إحدى رافعات ابنتهم الهان عمر لتصبح أول عضوة مسلمة في الكونجرس الأمريكي’ ثم زاملتها رشيدة طليب .. فلسطينية الأصل’ وكلتاهما من الحزب الديمقراطي. وهم يفضلون كسرة الانجيرا المعروضة هنا وينتجونها تجاريا’ التي تسود في الصومال وجيبوتي ” شعبها صومالي ” وتعرف بلحوح في أثيوبيا واليمن ومعروفة علائق القرن الإفريقي ببلاد اليمن منذ عهد أبرهة الذي حكمها والحجاز .. وقصة الطير الأبابيل. وفي اعتقادي أن الكسرة السودانية أرهف وأجود وأعلى صحية لكن هل الأمات المعاصرات حريصات على تعليم صغيراتنا مهاراتها كما كان شأن أماتنا؟! والصومال الأعلى امتلاكا للإبل في العالم بما يربو على ٧ ملايين ما جعل حليب النوق يتصدر موائدهم.
في طريق العودة كانت معدات الري المحوري تدور برذاذ الماء اقتصادا رغم وفرة المياه داعما المطر الغيداق في الحقول المترامية فيما نسرع عائدين للبيت حيث المحمر والمجمر.
أحب الطعام ما كثرت عليه الأيدي.
تفضلوا ..

أنور محمدين
سياتل

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.