قراءات في الصراع السياسي على هامش ثورة أكتوبر

قراءات في الصراع السياسي على هامش ثورة أكتوبر
  • 17 أكتوبر 2019
  • لا توجد تعليقات

يوسف السندي

العملية السياسية التي جرت بعد اعلان استقلال السودان في عام ١٩٥٦ شهدت صراعا مبكرا تمخض عنه سحب الثقة عن حكومة الأزهري اول حكومة سودانية منتخبة ، و ذلك بعد أقل من عام من إعلان الاستقلال ، و قد كان لهذا الفعل أثره العميق في تأجيج الصراع السياسي في دولة وليدة غضة الأهاب مازالت تتلمس خطواتها في طريق الاستقلال .

الانتخابات العامة التي أجريت بعد سنة من الاطاحة بحكومة الأزهري افرزت حكومة جديدة منتخبة بقيادة الاميرلاي عبدالله خليل ، و لكن الحكومة الجديدة لم تسلم ايضا من الصراع السياسي ، و هو ما أدى إلى قيام رئيس الوزراء عبدالله خليل بتسليم السلطة لقيادة القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق ابراهيم عبود . كان عبدالله خليل يظن انها أمانة في عنق العسكر ريثما تصفو الساحة و تعود بعدها الديمقراطية لتواصل الإبحار، و لكن هيهات ، فالصراع على السلطة ليس حكرا على المدنيين ، و هكذا دخل العسكر للصراع السياسي في السودان من الباب الواسع ، و واصل عبود الحكم و لم يجد عبدالله خليل نفسه الا مسجونا في أقاصي السودان .

باستلام السلطة بواسطة الفريق ابراهيم عبود دخلت البلاد مرحلة جديدة كلية في تاريخها الحديث ، اتسمت بالحكم العسكري الأحادي، اقدم نظام عبود على حل الأحزاب السياسية و النقابات و منع صدور الصحف سوي صحيفة النظام الرسمية ، و هذه الممارسات مثلت أكبر نكسة في التاريخ السياسي للوطن في تلك الفترة المبكرة من الاستقلال ، حيث مثلت ردة كبيرة عن التعددية و الديمقراطية التي عاشها الوطن في آخر سنين الاستعمار و اول سنين الاستقلال ، كما فتحت تجربة حكم عبود العسكرية الباب واسعا في المستقبل السياسي لتجارب حكم عسكري أكثر تعديا على الحريات و الممارسة السياسية .

لم يكن نظام عبود انقلابا عسكريا منطلقا من داخل القوات المسلحة يستهدف تقويض الحكم الديمقراطي المنتخب ، و إنما كان مولودا شرعيا للصراع السياسي و الخلافات العميقة بين التنظيمات السياسية السودانية ، لذلك ولد نظام عبود العسكري عبر تسليم و تسلم بين قمة النظام الديمقراطي ممثلا في رئيس الوزراء عبدالله خليل و قمة القوات المسلحة ممثلة في الفريق ابراهيم عبود القائد العام لقوات الشعب المسلحة .

هذا المسلك المبكر في العملية السياسية السودانية كان مؤشرا خطيرا لما سيكون عليه حال الوطن و مستقبل العمل السياسي ، اذ بالفعل ، استمر الصراع السياسي الذاتي بين الأحزاب و التنظيمات السياسية السودانية طيلة التاريخ الوطني السياسي معرقلا لكل خطوات توحيد الأمة و استدامة الحكم الديمقراطي و احلال العدالة و السلام .

انتفض الشعب على نظام عبود في ثورة أكتوبر الخالدة عام ١٩٦٤ و كان بذلك أول شعب في المنطقة العربية و الأفريقية يطيح بالحكم العسكري ، كان المأمول ان يغلق الحكم المنبثق عن ثورة اكتوبر إلى الابد باب الانقلابات ، و كان المتوقع أن تتعلم الأحزاب و التنظيمات السياسية الدرس من تجربة الصراع الذي قاد إلى حكم عبود العسكري ، و لكن الأحزاب السياسية استمرت في صراعها العبثي و انصرفت عن حماية الديمقراطية و ترسيخ مبادئها داخل الوعي الشعبي و داخل الكيانات و المنظومات السياسية إلى صراع عبثي يقدم الذاتي على العام ، و الحزبي على الوطني ، فكانت النتيجة انقلابا عسكريا ثانيا بقيادة العقيد جعفر نميري و بدعم قوي من الحزب الشيوعي السوداني الذي تعرض خلال الحكم التعددي الديمقراطي إلى إقصاء مهين بواسطة التنظيمات السياسية الاخرى من الجمعية التأسيسية .

واصل نظام النميري ما بدأه نظام عبود من قهر و تسلط و حاول بشتى السبل القضاء على الأحزاب السياسية و لكنه لم يفلح، رغم أن الأحزاب السياسية معطوبة و سببا في ضياع الديمقراطية الا انها وقفت متحدة في كثير من الاحيان ضد الطغاة و ظلت على الدوام عصية على التذويب بواسطة الات الترهيب و الترغيب التي يستخدمونها ، لهذا جاءت ثورة أبريل فتية و أقتلعت نظام السفاح نميري .

الديمقراطية الثالثة لم تنجو من الصراع السياسي بين الاحزاب ، و كان للاسلامين القدح المعلى في هذا الصراع ، يؤججون النيران و ينفخونها ، حتى اشتعلت اثواب الديمقراطية فوثبوا عليها ذات ليل بهيم ، و ظلوا في غيهم سادرين حتى أتاهم خبر الشعب في ديسمبر ، فاحال نهارهم ليلا و نشوتهم حسرة .

الآن على ذكر الاحتفال بثورة أكتوبر، يلزم جميع الأحزاب السياسية ان تنتبه إلى الوطن ، و أن تتجاوز الانقلابات و الصراعات العبثية اذا أرادت المضي قدما بالوطن نحو بلد يشار إليه بالبنان . العودة مجددا إلى الصراع هذه المرة لن يكون نهايته الا نهاية وطن اسمه السودان .


sondy25@gmail.com

التعليقات مغلقة.