غربا باتجاه الشرق

طه القرشي في الميزان

طه القرشي في الميزان
  • 18 يونيو 2017
  • لا توجد تعليقات

مصطفى عبدالعزيز البطل

(1)
في رواية (حفلة التيس) لماريو بارغاس يوسا يقوم الحضور في الحانة، من المستمعين الى أحاديث الصياد، تلقائيا بخصم عدد من الكيلوجرامات، داخل اذهانهم، من وزن كل سمكة يزعم الرجل انه اصطادها ذلك اليوم. فإذا جاء في روايته 70 كيلو، خصموا 20 فأصبحت وزن السمكة 50 كيلو. ولكن ذلك لم يكن يمنعهم من تجحيظ العيون، وتصنع الدهشة، والمسايرة واظهار الاقتناع بالوزن الرسمي، وهو سبعين كيلو!

كذلك كان الأمر في أسماك الروايات الطاهوية التي توالت وتناسلت مؤخرا في كل البحار والأنهار فملأت الدنيا وشغلت الناس لاسبوعين كاملين. الفرق ان نسبة الخصم هنا تكون اكبر نسبياً، فالسمكة التي تزن 70 كيلو يخصم المتلقى منها 35 كيلو من التزيّدات والتخاليط والخرابيط والاكسسوارات، وربما اكثر احيانا، حتى يصل الى الوزن المقبول!

(2)
ذلك كله مفهوم تماما  وله أسبابه الوجيهة، فعندما يحتجب الاعلام الرسمي فإن (وكالات الانباء الأهلية) جاهزة وعلى أهبة الاستعداد لملء الفراغ وتلبية حاجات قطاعات عريضة يكاد يقتلها ظمأ الفضول والماء في ظهورها غير محمول. وفي غياب من يغذي الشعور العام، المتحرّق الى الخفايا، بالمعلومات السليمة يكون المتاح أمام الناس من مضخّات الاخبار والأسرار هو الفيسبوك والمنابر الالكترونية حيث (مونتي كارو) و(المشتهي السخينة) وأسعد التاي!

والسوادنة في جماع أمرهم يعتاشون على نثير الحواديت والأحاجي، من شاكلة الطاهويات التي حبست الأنفاس، وخففت على الكثيرين وطأة نهارات رمضان، وأبهجت لياليهم بالآكشن الراقي. كيف لا وقد أفلحت الحالة الطاهوية وبامتياز في الحلول محل المسلسلات المصرية لهذا العام ، فلا أظن، على طول متابعتي للمسرح السياسي في السودان، أننا شهدنا وقائع تضاهي او تقارب هذا المحل من الاهتمام والتعلق الهستيري والتدافع، والانفعال بأحداث غامضة افتراضية يكتب البعض من الهواة سيناريوهاتها على الهواء مباشرة!

(3)
لم يحدث أبدا ان وقعت عيني على الحبيب وزير الدولة السابق ومدير مكتب الرئيس، ولكنني تحدثت اليه، قبل عدة أشهر، مرة واحدة عبر الهاتف. كنت في  سبات عميق حوالى الرابعة صباحا بتوقيتي الأمريكي حيث أخذت نغمة الموبايل تعزف وتغني وتقلق منامي، فرفعته وقلت بتثاقل: هالو. جاءني الصوت من عمق افريقيا: “السلام عليكم، أنا طه بكلمك من كيغالي”!

علمت منه أنه بصحبة الرئيس يحضران مؤتمر القمة الافريقي في العاصمة الرواندية. باختزال شديد كان موضوع الاتصال مادة وردت في احدى أعمدتي بصحيفة (السوداني) لا مجال للتفصيل حولها، فللهواتف كما للمجالس أماناتها! ولكن المحادثة كانت لطيفة وودودة للغاية. بمجرد انتهائها اجريت اتصالا مع الحبيب الآخر ضياء الدين بلال ونقلت اليه ملخصا لما دار باعتبار ان ذلك من حقه كرئيس للتحرير مسئول عما ينشر في صحيفته، ومن واجبي ككاتب راتب في الصحيفة. وأنا رجل أعرف الأصول. ما علينا!

(4)
ولكنني، برغم تلك البادرة، فشلت في مجاملة الرجل عقب فترة قصيرة من ذلك التاريخ، إذ لم يعجبني (المهرجان) الدعائي الذي اقامه بعدها بأسابيع قليلة، بتنسيق وعون من حبيبنا الصهر الرئاسي محمد لطيف، بشأن اعلان الولايات المتحدة رفع العقوبات لفترة تجريبية. ومن ذلك الادعاءات المكثفة التي بعثرها عبر صحيفة (اليوم التالي) عن دوره في ذلك الانجاز، ومنها مسعاه الحثيث لتقزيم دور ديوان الخارجية ووزيرها.

كتبت عندها مقالاً عددت فيه الخطوات والاجراءات التراكمية المدهشة التي كانت قد اتخذتها الخارجية، وكنت أتتبعها خطوة بخطوة، حتى بلغ جهد دبلوماسيينا مبلغا نهضت فيه واشنطن الى ذلك القرار الذي تطاول الشوق اليه. ثم وجهت الى الحبيب طه نقداً محسوبا ذكرت فيه ان دور (الإسناد) الذي قام به مرحّب به ومطلوب، ولكنه يظل في دائرة الإسناد. ولم اتجاوز بالطبع ولم أتفلّت، وانما أسلست وتلطفت وركنت الى الكياسة، على اساس أن (العمر مش بعزقة)!

(5)
تأخر سرج صديقي حاتم حسن بخيت، رفيق السنوات الاثني عشر الموّارة المصطخبة، ولكنها مع ذلك الأكثر اخضراراً. أن يأتي حاتم متأخرا بذخيرة خبراته ومحصول قدراته، تنيخ بها راحلته أمام مكتب ابن عمته، خيرٌ من ألا يأتي.

حاتم هو النسخة المضادة للنموذج الطاهوي. إذ هو من ملة الأعمال عندها لله، خالصة مصفّاه، لا ترجو ان يكون للبشر منها نصيب. ولذلك فربما لا يرى الناس اسمه ورسمه في أوراق الاعلام وأثيره من بعد أدائه للقسم، إلا ما ندر، وسيعود بالعرجاء الى مراحها. لا دراما ولا (آكشن) ولا بطيخ!

أما الحبيب طه فهو في رعاية رب اسمه الكريم. بعد ان تبلغ مراسم شيطنته ذراها في عنان السماء، سيعود معاده ليحط على سطح مجتمعنا البسيط الطيب القلب، يأكل الأقاشي مع الآكلين، ويوتسب آناء الليل واطراف النهار مع الموتسبين، ويلاعب أحفاده ويبدي لهم نواجذه.

أنا شخصيا أشعر بالتعاطف معه بصرف النظر عن العوامل التي أدت الى نهايته الحزينة كرجل قيادي في الدولة، وفي عقيدتي ان المسئولية عن تلك النهاية يتحملها معه آخرون. أنظر فقط الى جملة المناصب والألقاب والشارات التي كان يضعها الرجل على كتفه وصدره، خذ عندك، اولا: الفريق (فيلد مارشال)، وهي أعلى رتبة على الاطلاق في القوات النظامية يمكن ان يتطلع اليها أي انسان. ثانيا: السفير، وهي اعلى رتبة في الدبلوماسية على الاطلاق يحلم بتسنمها ملايين الشباب والكهول، واخيرا: الوزير وهو المنصب الذي تقطعت، وتتقطع، دونه رقاب آلاف الناس، بحق وبغير حق.

أيعقل هذا؟ انسان واحد فرد، ابن أمرأة تأكل القديد، يحمل كل هذه الرتب والالقاب، والسوادنة من حوله ينظرون؟ ما الذي يمنع الرجل اذن ان تحدثه نفسه بما حدثته به، فيصعد الى اعلى برج ايفل، بحثا عن امجاد التاريخ، ويقفر منه الى الارض فتدق عنقه؟! أنا شخصيا لو كنت في مكان هذا الرجل الطيب، وفعلوا بي ما فعلوا به، وأوهموني كما اوهموه، لحدثتني نفسي  الأحاديث ايضا. ولصعدت الى اعلى البرج كما صعد!

(6)
لم يكن حبيبنا هذا نسيج وحده. فمثله مثل عشرات غيره من الشخصيات التي لمعت شهبها عبر حقب السودان السياسية  ثم أفلت، وقد جمعت – كما غالب البشر – بين سجايا الملائكة وبلايا الشياطين. ولطالما تكثّر الصيادون وتزيّدوا في أمر أوزانهم وأوزارهم. غير ان الذي لا شك فيه هو ان الأوزان الزائدة يتم خصمها عن هؤلاء بعد حين فيبووءون فقط بالأوزار الحقيقية. والتاريخ يعلمنا ان الزمان هو الميزان!

mustafabatal@msn.com

 

 

التعليقات مغلقة.