مهمة بناء الدولة السودانية العسيرة

مهمة بناء الدولة السودانية العسيرة
  • 31 ديسمبر 2019
  • لا توجد تعليقات

يوسف السندي

انتصار ثورة ديسمبر وضع الجميع أمام مهمة شاقة جدا و هي مهمة بناء الدولة السودانية في أعقاب التشويه الذي تعرضت له صورة و وظيفة الدولة في عهد هيمنة نظام الحركة الإسلامية، و يمكن التدليل على طبيعة هذه الدولة المشوهة بحديث المخلوع الذي سربته قناة العربية حين أقر بأن الدولة الآن هي ( ملك ) للحركة الاسلامية ، و هذا يوضح أن النظرة للدولة السودانية لم تكن باعتبارها دولة جميع السودانيين و إنما دولة تملكها الحركة الإسلامية .

في نفس التسريبات لقناة العربية قدم علي عثمان محمد طه ايجازا عن طبيعة اتخاذ القرارات في دولة الكيزان حين أشار إلى أنهم يضعون القانون ليخترقونه او في أبسط الأحوال لتعطيله . بالطبع يخترقون القانون لجعل مصلحة الحركة الإسلامية فوق مصلحة الأمة السودانية ، هذا التشويه الرهيب لطبيعة الدولة و وظيفتها التمكينية يضاعف العبء على دولة الثورة من أجل بناء دولة تكون ( ملك ) للشعب السوداني جميعا .

استعادة الدولة من التمكين لا يستوجب استبدال في الوظائف فقط بل في العقلية الوظيفية ذاتها ، ففي عهد الانقاذ كانت الدولة تسيطر بصورة شاملة على كل صغيرة و كبيرة ، تتنزل سيطرة الدولة رأسيا من رئيس الجمهورية حتى اللجنة الشعبية للحي او القرية ، و مع ذلك تدعم هذه السيطرة بعلاقات افقية مع مؤسسات مثل جهاز الأمن و الأمن الشعبي و اتحادات الشباب و المرأة و الطلاب و إلخ ، ثم تشرعن هذه السلطات عبر المجلس الوطني و المجالس التشريعية الولائية و المحليات عبر صياغة القوانين المناسبة لاستمرار هذه السيطرة أو اختراقها و تعطيلها اذا دعت مصلحة الحركة الاسلامية . هذه السيطرة الكيزانية هي التي خنقت الشعب و أضعفت قدرته على الإنتاج و الإبداع ، و ذلك لأن الترقي و النجاح في ظل دولة الحركة الاسلامية لم يكن يعتمد على القدرات و لا على الابتكار و إنما على الانتماء و الولاء للحركة الاسلامية ، و هذا ما قاد إلى ضعف التدريب ، إنعدام التنافس و الطموح ، قلة الانتاج ، تقزم المؤسسات ، انكماش سوق العمل ، و هجرة العقول و القدرات السودانية ، و النتيجة الأخيرة كانت كما شاهد الجميع فشلا و انهيارا في كل شيء.

إعادة بناء الدولة بعد ثورة ديسمبر يستوجب عددا من الخطوات ، تفريغ العقول التي تخدم في الخدمة العامة من عقلية الخوف من جهاز الدولة و من وهم سيطرة الذي بيده السلطة ، تحرير الابتكار و الإبداع ، إستقطاب الكفاءات المهاجرة ، زيادة التدريب ، إطلاق روح المنافسة و تشجيع الطموح ، تقليل مدى سيطرة الدولة و زيادة مساحة القطاع الخاص .

في عالم اليوم الدول التي حافظت على اقتصاد قوي هي الدول التي قللت من وظائف الدولة و تنازلت عنها للقطاعات الخاصة المؤهلة ، بينما الدول الفقيرة و المنهارة اقتصاديا هي الدول التي تهيمن فيها الدولة على كل صغيرة و كبيرة ، و تسيطر الدولة فيها بصورة مطلقة على أدوات الانتاج و السوق و الاستثمار و تقديم الخدمات .

هيمنة الدولة تعني هيمنة القطاع العام و هو قطاع بيروقراطي ضعيف الابتكار و التحفيز و لا يشجع على المنافسة و الأنجاز ، بينما زيادة مساحة القطاع الخاص ستزيد العمل التنافسي و ترفد الواقع بالقدرات التنافسية ، قصص مثل نجاح ستيف جوبز صاحب أبل او مارك زوكنبيرغ صاحب الفيس بوك ما كان يمكن أن تظهر لو كانت تهيمن على أمريكا دولة مسيطرة لا تشجع الابتكار و التنافس و النجاح .

دولة الثورة بيدها ان تستبدل دولة الكيزان المشوهة بدولة بيروقراطية نمطية ، و ستكون النتائج متشابهة مع تطور طفيف لصالح دولة الثورة ، بينما بيدها ايضا ان تحدث ثورة حقيقية في مفهوم الدولة و طبيعتها ، بمواكبة المفهوم الجديد للدولة في العالم ، و بالمضي قدما في دروب افساح المجال العام تدريجيا للقدرات الفردية و الجماعية لتأسيس الأعمال و الابتكار ، على أن تتفرغ الدولة لتوفير الأمن و السلام و تنظيم القوانين غير المقيدة و تقديم الخدمات للشرائح الضعيفة .


sondy25@gmail.com

التعليقات مغلقة.