توهان في رمسيس

توهان في رمسيس
  • 10 فبراير 2020
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

انطلقنا من شارع النيل الأبيض المتفرع من ميدان لبنان بالمهندسين وغلالة المساء ترخي سدولها ولا تخطئ العين السودانيين ينتشرون هنا وهناك ومعظمهم جاء بهم البحث عن علاج فاعل من الأمراض الكؤود مثل معضلة الأورام، ومنهم من يحكي عن تشخيص لمرض أرقهم يختلف عما خلصت إليه دوائر الطب عندنا. وفي تقديري أنه عائد لمحدودية التجهيزات المتمثلة في معامل الأشعة والمختبرات وعدم مواكبتها وهي الأساس في تحديد المرض، فمثلا كان زميل عزيز وصديق وذو رحم يعالج من مرض شخص بأنه يتصل بالقلب وشرايينه في الخرطوم فإذا معاناته من ورم في الرأس عجل باستئصاله هنا. وهذا لا يمنع أن الأغلبية تعالج في الداخل بنجاح.


من هنا فإن السودانيين يأتون لمصر بالآلاف ويصرفون هنا مبالغ طائلة درجة أنهم يأتون في مقدمة الشعوب التي ” تكب ” قروشها هنا، أحيانا بعض مراكز التطبيب تشترط تسلم تكاليفها بالدولار .. تصوروا!


ألم يحن الوقت لإنشاء مدينة طبية ضخمة ذات إمكانات حديثة مواكبة فائقة تغنينا عن طرق أبواب القاهرة ودلهي وعمان مرغمين؟


سيارة الأجرة تسير بنا على كورنيش النيل، والبواخر السياحية تتزاحم على صفحة النهر الهادئ .. على اليمين يبدو من على البعد برج القاهرة الباذخ وعلى اليسار مبنى وزارة الخارجية الفخيم يليه برج وزارة الإعلام، التي تضم شبكات الإذاعة والتلفزيون. وعنده سرحت في عديد المرات التي استضافتني فيها إذاعة ركن السودان. وفي إحداها صادفت أستاذنا الفذ الفكي عبد الرحمن التربوي والإذاعي وأب المسرح السوداني المعروف، الذي قال بلطفه المعهود إنه من فرط الانشغال ولهاث الحياة ينسى أحيانا بعض أسماء أولاده، فقلت له مازحا مداعبا:
بس متذكر اسم حيدر تلميذي في عطبرة فقهقه عاليا.
الحركة تعاني الاختناق والقطار الذي سيسافر فيه أخي الحبيب خيري يتقارب موعده.


ونحن في وجل نصل ونسرع تجاه شاشة جدول القطارات المغادرة فنلمح اسم أسوان ونهرول تجاه الرصيف المشار إليه فنفاجأ بأن الأرصفة تلك خاصة بالوجه البحري فأرشدونا لجهة أخرى فنزلنا فيها سلالم وصعدنا أخرى، لكن يتضح أن رصيف قطارات النوم ما جئنا من عنده فأسرعنا مجددا عائدين إليه.


فور صعودنا كانت كشافات القطار الأمامية تقترب فنستفسر عن العربة ١٣ فيقال إنها الأخيرة فنجري عكس مسار القطار الطويل وأخيرا مع تصاعد أنفاسنا وصلنا الهدف فيسمح له المسؤول بالدخول، وهذا الارتباك كله ناجم عن عدم تضمين التذاكر معلومات وافية.


على امتداد الرصيف باعة وبائعات كثر يفترشون سلعهم المختلفة وكأننا في سوق الموسكي.


أخي الحبيب خيري فني العمليات بمستشفى دلقو يودعنا بعد نحو ٤٠ يوما كان خلالها ساعدي اليمنى في تطبيب أختنا ينبوع الطيبة فتنفجر أختانا باكيتين على كتفه فيما أطلت دمعات كثيفة على مآقي حال تماسكي المصطنع دون هزيمتي واندياحها.


بعد دقائق يتضح أن رقم سرير الحبيب خيري محجوز لراكب آخر أيضا فيتعهد المسؤول بالعلاج فيما يصر علينا أن ننصرف وبينما يتمجلس في موقعه الجديد أقفلت أبواب القطار أوتوماتيكيا بعنف فتبادلنا التلويح بالوداع المؤثر عبر الزجاج فانطلق المارد مسرعا تجاه الصعيد. وفي رصيف مقابل كان قطار بدرجات أدنى محشو بالركاب يسرع مغادرا بدوره.


بدأ تشغيل الخط الحديدي المصري ١٨٥٤ ويعد الثاني بعد البريطاني، وتنقل شبكته نحو مليون و٥٠٠ ألف راكب يوميا!
هبطنا نفقا ثم صعدنا للسطح وأخذنا طريقنا لميدان رمسيس الذي كان أول ما نراه فيه في سفرياتنا الأولى تمثال رمسيس الثاني الهائل الذي نقل من الميدان الذي لايزال يحمل اسمه للمتحف القومي صونا له من تأثير صخب القطارات وضوضاء السيارات وأدخنتها وتحديات البيئة وقد كان قبل نصبه يحمل اسم باب الحديد.


هذه المرة وجدت تمثالا جديدا لعملاق الرواية العربية نجيب محفوظ أول مصري حصل على جائزة نوبل في الأدب وأكثر كاتب جسدت أعماله في السينما والتلفزيون في ميدان سفنكس وسط العاصمة المصرية، التي تعاني تلوث البيئة حتى أن تقريرا يشير إلى أن من يعيش فيها لكأنما يدخن ٢٠ سيجارة في اليوم، هذا في الوقت الذي تعلن فيه بريطانيا اعتزامها عدم التصريح بسيارات تعتمد على النفط بدءا من ٢٠٣٥ مفسحة المجال للبدائل صديقة البيئة.
وفي محاولة لتخفيف الضغط عليها ستنقل الوزارات والبرلمان والسفارات للعاصمة الإدارية الجديدة قيد الافتتاح هذا العام على بعد ٦٠ كلم شرقا تجاه البحر الأحمر فيما يتدفق كثيرون إلى الضواحي الحديثة الراقية الرحبة الصحية مثل ٦ أكتوبر والشيخ زايد، الذي موله حكيم العرب الشيخ زايد، الذي لم نفلح في استقطاب دعوماته رغم إحاطته بسودانيين يواقيت مهرة كانوا الأساس في نهضة الإمارات.


وفي كل الأحوال تبقى مصر العزيزة قبلتنا وهوانا وشقيق بلادي.


اتساقا مع روح الدعابة التي يتحلى بها الشعب المصري اللماح ذو القربى أختم بالطرفة التي تنسب لزعيمنا محمد نور الدين أنه كان يهتف محمولا على الأعناق في القاهرة:
مصر والسودان حتة واحدة
والجماهير تردد وراءه
واكتشف نشله فعاد يهتف:
مصر والسودان ٦٠ حتة


صفحة أشواط العمر في فيس
القاهرة

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.