قراءات وخواطر فكرية (6)

قراءات وخواطر فكرية (6)
  • 17 مايو 2020
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالمحمود أبُّو

( الصراع العدمي بين نهجي الانكفاء والاستلاب والحل في الوسط)

بينا فيما سبق من مداخلات ركائز منهجي الانكفاء والاستلاب، وكلاهما يغذي التطرف، كما نرى الآن ما يطرحه د. القراي يعتبر قمة التطرف في رفض أصول الدين بصورة تقوم على التهكم والسخرية وربط مسيرة الإسلام الطويلة من عهد الصحابة إلى يومنا هنا بالجهل وعدم الفهم لصحيح الدين الذي فهمه القراي ومن يلف لفه!!!ومن الجانب الآخر تجد تطرفا يتزعمه نهج الانكفاء برفضه للاجتهاد وإلزام الخلف باجتهادات السلف حتى ولو تصادمت مع الواقع وأهدرت مقاصد الإسلام!!


التطرف هو الوقوف عند طرفي الشيء، والفضيلة تتوسط رذيلتين، فالجبن قبيح، والتهور سيئ، والشجاعة وسط بينهما، والبخل ممقوت، والإسراف مذموم والكرم يتوسطهما، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67].
هنالك تطرفان في المجتمع الإسلامي ضيّعا الحقيقة هما: التطرف المنكفئ، والتطرف المستلب؛ لأنّ كلاّمنهما يقف عند نقطة لا تمكنه من رؤية الأشياء على حقيقتها، وكل واحد منهما يغذي الآخر! فمنهج الانكفاء يُسقط المستجدات من حساباته، ويعلب الأفكار والمفاهيم في مرحلة ماضوية، ويصر على معالجة مشاكل الحاضر بأساليب تجاوزها الزمن! ومنهج الاستلاب منبهر بالحداثة إلى درجة تؤدي إلى كراهية الذات! ويرفض أي علاقة مع تراث الأمة، وعليه فإن بين النهجين حرباً باردة لا يطفئها إلا طريق ثالث؛ يجسر العلاقة بين الماضي والحاضر وفق معايير منضبطة وموضوعية. هذا المنهج هو منهج الوسطية.


ولذلك يمكن أن نقرأ منهج الوسطية من خلال رؤيته للدين في حياة الإنسان؛ ومكانة الإنسان في الإسلام، ومنهجه للتعامل مع المستجدات.
أهمية الدين في حياة الإنسان:
الاعتقاد الديني يلازم الإنسان حيثما وجد، فهو قدر الإنسان، ومطلب من مطالبه الفطرية، فتكوين الإنسان المركب من المادة والروح؛ يجعل النزعات النفسية متعارضة، والرغبات متنوعة، مما يخلق جدلاً داخل الإنسان لا يهدأ إلا بعد أن يجد تفسيراً مقبولاً لهذا التناقض، فالإنسان بحكم تكوينه معرض لنزعات نفسية متعددة ومتعارضة ( الحزن والفرح، الغضب والرضا، الحب والكره، اليأس والأمل …الخ ) هذه الثنائيات تقلق مضجعه، وترهق ذهنه، فالاعتقاد الديني هو الوحيد القادر على تفسير مقنع يطمئن إليه الإنسان , قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ [ الانعام : 82 ] والإنسان لا يمكن أن يعيش إلا في وسط مجتمع يتبادل معه المصالح، ومن الطبيعي أن تتعارض هذه المصالح. فالدين هو القادر على تنظيم هذه العلاقات وحمل الإنسان على عدم التعدي على حقوق الآخرين؛ لأن الدين إذا استقر في نفس الإنسان؛ سوف ينمي فيه عنصر الرقابة الذاتية، وهي إن صدقت فأثرها أكبر من الأجهزة الرقابية؛ قال صلى الله عليه وسلم عن الاحسان: ((أن تعبـد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكـن تراه فإنه يـراك )) . والإنسان دائماً يتطلع إلى المعرفة حيث يسعى لإدراك حقيقة الموجودات التي تعيش معه، ويتساءل عن هذا الكون: بدايته، ووظيفته، ومآله، وعلاقته به، هذه التساؤلات وتلك التطلعات لا يجيب عليها إلا شيء يطمئن إليه الإنسان ويصدقه، والدين هو من يقوم بهذا الدور ” العقائد الدينية أعطت الإنسانية الطمأنينة النفسية،

والرقابة الذاتية ( الضمير ) والتحصين الأخلاقي، والهوية الجماعية ” وعليه فإن الإنسان حيثما وجد؛ ارتبط بعقيدة دينية؛ إما عن طريق خطاب الله له، وإما عن طريق سعيه نحو المثال المطلق. والدين نشأ عن هذين الطريقين؛ فخطاب الله للإنسان ثمرته الأديان السماوية التي ختمت برسالة الإسلام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسعي الإنسان نحو المثل الأعلى؛ ثمرته النِّحل الوضعية، وكل العقائد التي يدين بها الإنسان ويقدسها.
يتضح مما سبق أن الدين له أهمية كبيرة في حياة الإنسان؛ بل هو ضرورة نفسية، وضرورة اجتماعية، وضرورة كونية؛ ولا يوجد مجتمع إنساني يخلو من العقيدة الدينية، وحتى أولئك الذين أنكروا الدين ما لبثوا أن حولوا إنكارهم للدين نفسه عقيدة دينية! قال الشاعر الباكستاني الفيلسوف محمد إقبال:
إذا الإيمان ضاعَ فلا أمان ولا دنيا لِمَن لم يُحْيِي دِينَا
ومَن رَضِيَ الحياة بغير دِينٍ فقد جعل الفناء لها قرينَا
تُسانِدُها الكواكب فاستقرَّتْ ولولا الجاذبيَّة ما بَقِينَا
وفي التوحيد للْهِمَمِ اتحادٌ ولن نصل العلا متفرِّقينَا

التعليقات مغلقة.