غَريبةٌ هِيَ الدُنيا !!!

غَريبةٌ هِيَ الدُنيا !!!
  • 17 أغسطس 2020
  • لا توجد تعليقات

م. فوزي صالح وهبي


لم يخطُر في خيالي ولو لِلَحظَةٍ أن يجَرجرني حَظِّي العاثر إلى أقاصي الدّنيا ماراً بمناطق لم تخطر في بَالي ولو في أضغاثِ الأحلامِ والكوابيس …

كُنتُ سعيداً في طُفولتي في قريَتي عمارة , وأنا ألعبُ في حواريها , متجَولاً ما بينَ كرسين ودِفِّي وشبون وأقِيدن وجَيق .. كانت دُنيَتي تبدأ من هِيارِن , وتنتهي في تَبج عندَ منزل عَمَّتي سعيدة وهبي ( رحمها الله رحمةً واسعة ) , حتَّى عرفتُ الطريق إلى منزل أخي الأصغر طَلعت في قريةقِنس .. والذي أصبح فيما بعد ملاذاً آمناً لي عندما أختلف مع أحدٍ في البيت في عمارة …

كنتُ أقضي أغلب وقتي مطارداً العصافير والقَماري والقَيلدونة بنِبلَتي وشِراكي , ويتبعني إبن عَمِّي سِراج إبراهيم أينما أرُوح, كما الظِلِّ الظَليل .. وأقضي بعضاً من وقتي على جُروفِ النِيلِ في شواطئ أبابسن وكرسين.. خائضاً في مياهها ..وباحثاً عن صيدٍ من السَمك .. وعندما يدركني التَّعَب ألجأ إلى ظِلال النَّخِيل أتمدَّد تحتها أو أتَسَلَّق جزوع النخيل باحثاً عن أجوَدِ الرُطَب …

هكذا كَانتْ دُنيَتي وحُدودها التي لم أحلم في يومٍ أنَّها ستتمَدَد إلى مسافةٍ أبعَد …

لم أحلَم مِثل غيري بالمَدنِ الكبيرة مِثل الخُرطوم وعطبرة وكوستي وبورتسودان .. ناهيك عن دولٍ أُخري مثل مِصر ولبنان والعراق والكويت …

كُنتُ مُقتنعاً بِدُنيَتي الصغيرةِ المحدودة .. سعيداً بِها .. حتَّى تفاجأتُ بأنني سأضطَر ُ بالإنتقال إلى مدينةٍ أُخرى لإكمال دراستي الثانوية ولو أنَّني وجدتُ مدرسةً ثانوية في بُقعَتي الصغيرة لَما تردَّدتُ في إختيارها , راضياً مَرضِياً …

تَمَّ قُبولي في مدرسة كريمة الثانوية العُليا , والتي كانت لي بمثابة إنتقالة لم أتهَيأ لها نفسياً .. أو مادياً .. ولكنني أُضطُررتُ لها إضطِراراً …

وكان لزاماً عليَّ أن أفَصِّل قميصاً أفرنجياً لدى التَرزي سِرِّي عبد الله (سِرِّي سالمة ) في سوق عبري , وان أبحث عن بنطلون ( لأنني لستُ بمستعِدٍ ماديا لتفصيله ) , فكان أن لجأتُ بصديقي هاشم صالح علي بإعارتي بنطلونه الذي إشتراهُ من حلفا الجديدة قبل فَترةٍ .. ولم يخذلَني صديقي هاشم في الإستجابة لِطَلَبي …

وكانَ هذا الخُروج الإضطراري من بُقعَتي المُحبَّبة , هو بدايةُ طريقٍ لخروجٍ طويلٍ في مشوار المنافي البعيدة !!! وبرغم أنَّني غادرتُ كريمة إلى كوستي مُروراً بالخرطوم .. وكانت كوستي محطة هامة في حياتي , وخَفَقَ فيها قَلبي لأول مرَّة , ولِي فيها ذِكريات جميلة في مراحل الشباب الأُولى ..

ولكن برَغمِ ذلك لم أتخيَّل أنَّ دربي سيكونُ طويلاً وعسيراً في منافي لم تخطُر على بالي … لم أحلم بالعراق أو الأُردن أو سوريا أو أوروبا .. ولكنَّني كما خرجتُ من قَريَتي في أول الأمر إلى كريمة مُضطَراً .. خرجتُ إلى تلكَ المنافي مُضطراً كذلك …

لم أكُن أعلم أنَّ في أُوروبا لُغات أُخرى غير الإنجليزية والفرنسية والألمانية … حتَّى وأنا طالبٌ في الجامعة في بغداد كنتُ أعتقد ذلك , برغم أنَّ دكتورة روسية جميلة كانت تدرِّسنا مادة التصميم الهندسي بلغةٍ إنجليزية طليقة جعلتني أشِكُّ في أنَّ لديها لُغةً أخرى إسمها اللُغة الروسية …
وبعدَ أن تخرَّجتُ من الجامعة , وكنتُ أعُدَّ اللَّحظات لكي أعود إلى بُقعتي الجميلة , مَرتع الطُفولة والصِبا. ولكن أجدُ نفسي في مطَبٍ لم أحسب لهُ حساب مِن قبل .. فقد كُلِّفت بدراسة الكُلِّية العسكرية والتخصُّص في هندسة الطيران العسكري قبل العودة إلى السودان …

ومشيناها خُطَى كُتبت علينا , ومَنْ كُتبتْ عليه خُطَى مَشاها …
( ونُواصل)

التعليقات مغلقة.