في أحضان النيل الخالد: مواقف من فيضان 2001م في محافظة وادي حلفا(الحلقة الأولى)

في أحضان النيل الخالد:  مواقف من فيضان 2001م في محافظة وادي حلفا(الحلقة الأولى)
  • 17 سبتمبر 2020
  • لا توجد تعليقات

د. عثمان أبوزيد

أبلغتنا محطة دنقلا لرصد مناسيب النيل في نهار 11 أغسطس 2001م بزيادة منسوب النيل إلى (15:30) خمسة عشر مترًا وثلاثين سنتيمتر. ذلك يعني أننا تجاوزنا الوضع الحرج…

واصل النيل اندفاعه ليبلغ الذروة في يوم الجمعة 24 أغسطس في أعلى منسوب سجّلته دنقلا (15:93) متر.
· ذهبتُ أشارك شباب جزائر موقة ونارنارتي وآرتمري في محلية دلقو كفاحهم المجيد في صد الفيضان. كنت إذَّاك في حكومة الولاية الشمالية (خادمًا للتعليم) ومشرفًا على محافظة وادي حلفا. لما دخلنا جزيرة موقة، وجدت ارتفاع الحاجز الترابي طول رجل، ولما وقفت تحته رأيت النيل فوق رأسي، فتذكرت قول نزار قباني: “إني أتنفس تحت الماء… إني أغرق”.

أدهشتني حقًا حالة سلام وهدوء تدثر الجزيرة، والناس يعيشون حياتهم بلا توتر، وقد ذبحوا عجلاً تحت ظلال النخيل. كان الدخان والقتار الكثيف يخرج من تحت السقف في أحد البيوت. يا لها من رائحة لم أعهدها من وقت بعيد؛ رائحة فطير القمح! سمعت أن أهل الجزر ما يزالون يحتفظون بسلالة القمح التي توارثوها من أجدادهم، فهذا قمح أصلي وليس مهجَّنًا.

الأصالة هي عنوان هذا المكان الجميل، لكن أعظم جماليات هذا المكان هي في إنسانه. رافقت في هذه الجولة أستاذي في المدرسة الوسطى بدلقو يوسف محمد سري (عضو المجلس التشريعي في الولاية)، ذهبت معه لزيارة أحد الأعمام في نارنارتي ممن حضروا فيضان 46 وهو بوعيه. عمنا عوض قاسم نصر أطلق كلمة حكمة عندما قال لنا: “الموية ما عندها عضُم”، والكلمة أبلغ بمحسية فصيحة: “أمَنْ قِسِركا كومُّون”. سأله الأستاذ يوسف: الموية دي أظنها فاتت فيضان 46؟ لم يشأ الرجل أن يجيب إجابة اعتباطية، فرد بسؤال: البحر عندكم وصل وين؟ لو وصل حجر السد في حلتكم فقيرن إكي، دا معناه إنو زي فيضان 46.

في جزيرة آرتمري قابلت الأستاذ الزبير عكاشة واحد من المعلمين القدامى، تقاعد وصار إلى خدمة القرية على رأس لجنتها. أبلغني الزبير أنهم استلموا كمية الخيش المخصصة لهم، لكنهم بحاجة إلى مبلغ نقدي عاجل لترحيل بعض المعينات. على الفور صادقت على مبلغ، فردَّ عليَّ بابتسامته: عاوزين أكثر. وقبل أن أتكلم زادت ابتسامته وقال لي: المبلغ الذي تحملونه هو … وذكر المبلغ. لا شيء يخفى على الناس في الولاية الشمالية.

كنت أدَّخر بعض المال من الميزانية المخصَّصة لهذه الجولة لشراء زيادة خيش (شوَّالات). عرفت أن إمام سيد إمام في تنري يحتفظ بكمية معتبرة لموسم حصاد التمر. سوف أحاول إقناعه ببيعها. لن يبخل علينا بذلك، فهو ابن سيد إمام هارون شيخ القرية صاحب الشهرة في المنطقة، وعمه صلاح إمام المعلم القدير قد يساعد في إتمام هذه الصفقة. أشار عليَّ أحد الموظفين المرافقين: ما كنت تحتاج أن تذهب إليه بنفسك. بوسعك أن ترسل إليه أحد موظفيك، وبإمكانه أن يستخدم سلطات الطوارئ ويصادر الكمية المطلوبة، وقرار لجنة الطوارئ واضح في هذا الشأن. قلت له: هؤلاء أهلي أعرفهم جيدًا. مستعدون لبذل أرواحهم في سبيلك عندما تخاطبهم بالتي هي أحسن، أما بغير ذلك فإنهم ببساطة يستغنون عنك وعن حكومتك.

الخيش… الخيش… الخيش. كل شيء تراءى أمامي بلون الخيش في تلك الأيام. في بنغلاديش لديهم وزارة الخيش! ألم يكن من الأوجب أن نقيم وزارة للخيش في الولاية. وفي واقع الأمر انقلبت حكومة الولاية كلها إلى وزارة للخيش! غرقت مدينة دنقلا وأرقو في فيضان عام 99، لم تكن لحكومة الولاية خبرة كافية ولا استعداد لمواجهة تلك الكارثة التي حلَّت بهم فجأة. حدَّثني الأخ عبد الرحمن الخضر نائب الوالي: وصل رئيس الجمهورية في اليوم التالي للغرق، وكنت برفقته عند مرورنا على المنكوبين فرفع أحدهم صوته مخاطبًا الرئيس: “والله يا السيد الرئيس اتنكبنا النكبة دي زي ما انت شايف… الحمد لله، ولا شفنا والي… ـ ثم نظر لجهة عبد الرحمن وقال ـ ولا نائب والي”!
(الحلقة التالية: عندما غرقت جزيرة أرنتى)

التعليقات مغلقة.