أول ثلاثاء يلي أول اثنين من نوفمبر 1984

أول ثلاثاء يلي أول  اثنين من نوفمبر 1984
  • 04 نوفمبر 2020
  • لا توجد تعليقات

محمد محمود راجي



في مثل هذا اليوم، قبل 26 عامًا بالتمام والكمال. اول يوم ثلاثاء يلي أول يوم اثنين من شهر نوفمبر، والذي صادف في ذاك العام اليوم السادس من الشهر، وليس الثالث مثلما وقع في هذا العام 2020.

6 نوفمبر 1984، اليوم الحاسم في انتخابات الرئاسة الامريكية، والتي جرت بين الرئيس الجمهوري المدافع عن مقعده رونالد ريغان، وخصمه الديمقراطي والتر مانديل.
كنت وفيصل محمد صالح صحفيان في مقتبل العمر، وربيع المهنة، مليئان بالطاقة والحماس والافكار، تجرأنا واقترحنا داخل اجتماع التحرير بأننا سنتابع المنافسة الانتخابية الرئاسية حتى اعلان النتيجة، على ان تصدر الصحيفة صباح الغد وخبرها الرئيس يحمل اسم الرئيس الفائز.

كثيرون استهزأوا بالفكرة وأكدوا استحالة تنفذها وقال احدهم: “لا الاهرام ولا الشرق الاوسط بقادرتين على انجاز ما تقولان على الرغم من امكاناتهما الضخمة، فالنتائج النهاية اول الصباح وفقًا لتوقيت السودان”.

آخرون أيدوا الفكرة وساندوها؛ المرحوم محمود بابكر جعفر رئيس القسم الخارجي، نور الدين مدني سكرتير التحرير، بابكر عراقي رئيس قسم التحقيقات، حسن ابو عرفات رئيس القسم الاقتصادي، عثمان نمر، محمد مصطفى الحسن، زينب ازرق، وبثينة عبد الرحمن التي ايدت المقترح بشدة والتزمت بتقديم المساندة، كما ايدها آخرون.

المرحوم الاستاذ فضل الله محمد رئيس التحرير، حسم الأمر قائلًا: “ما الذي سنخسره، دعوهما ينفذا مفترحهما، قدموا لهم كل العون، ولننتظر النتيجة”.

جلسنا فيصل وأنا، رسمنا خطة العمل؛ صفحتا الوسط تخصصا للتعريف بالانتخابات الامريكية والحزبين المتنافسين، على أن يتصدرها موضوع رئيس عن الفائز بالرئاسة، اضافة الى موضوعات معلوماتية وتفسيرية أخرى.

ولانه من الاستحالة معرفة الرئيس الفائز، قررنا أن نعد نموذجين لصفحتي الوسط، اولهما ينشر في حال فوز ريغان والثاني في حال فوز منافسه ماندل.

حتى مغرب ذلك اليوم، كنا قد انتهينا من اعداد موضوعات صفحتي الوسط وصورهما، وتابعنا جمعهما على آلات المونوتايب (monotype)، ثم جلسنا إلى عبد المنعم الخضر الذي بذل اقصى ابداعه في تصميمهما، وتابعنا تصويرهما، وتحويلهما الى صفائح زنك استعدادا لطبعاعتهما ضمن صحيفة اليوم الثاني.

وبعون من استاذنا الفنان عبد المنعم خضر، رئيس القسم الفني اعدادنا تصميمًا أوليًا للصفحتين. مسؤول ارشيف الصور الصديق جمعة افادنا بأنه قد جهز لنا مجموعة من الصور التاريخية عن الانتخابات الأمريكية.

في ذلك الزمان، ما كانت مصادر المعلومات والاخبار وفيرة كما هي عليه اليوم، لا قنوات فضائية، لا فاكس، لا انترنت، لا وسائط تواصل اجتماعي، لا هواتف نقالة حديثة، لا يوتيوب، لا CNN، لا فيس بوك. مصادرنا الوحيدة لمثل هذا الحدث هي الاذاعات العالمية، ووكالات الانباء العالمية، التي تتدفق لنا اخبارها عبر أجهزة التيكرز، التي كانت تعتبر في ذلك العهد القمة في استقبال الاخبار عبر ( ticker – tape) ولكل وكالة عالمية جهازها الخاص لاستقبال اخبارها. وحتى ذلك الوقت كانت معظم الوكالات تبث أخبارها في الانجليزية.

طوال الليل كانت مهمتنا متابعة الاذاعات ووكالات الانباء، في انتظار النتيجة النهاية التي سنجعلها خبرًا رئيسًا لجريدة الصحافة التي كنا نعمل لها، ولا توجد غيرها والايام في ذلك الوقت من الصحف اليومية بالسودان. وكلاهما حكوميتان.

وتوفيرًا لصور حديثة اتصلنا بالملحق الصحفي للسفارة الأمريكي، وشرحنا مهمتنا، وسألناه تزويدنا بصور حديثة. تقبل أمر بصدر رحب وزودنا بالصور وجعل طوال الليل يمدنا بالاخبار، فحتما أن امكانياتهم اكبر من امكانياتنا، ولهم قنوات اتصال مباشر بوزارة الخارجية في واشنطن. في ذلك الوقت كانت الجريدة على بعد نحو 500 متر من السفارة الامريكية في علي عبد اللطيف.

عند الثالثة فجرا اصاب القلق مدير المطبعة، فاتخذت وفيصل قرارًا لم يسبقنا عليه أحد من قبل. قررنا استفادة من الوقت أن نصدر طبعتين من العدد، نصف الكمية (٦٠ ألف نسخة) يشرع في طباعتها فورا بآخر النتائج، وغامرنا بافتراض فوز ريغان وجعلنا صفحتي الوسط عنه.

اكتملت طباعة نصف الكمية، واتى مسؤولو دار التوزيع لاستلام العدد، واحتجوا على عدم اكمال الكمية. اقترحنا عليهم بأن ترسل الطبعة الاولى للأقاليم، وأن يعودوا لاحقًا لاستلام حصة الخرطوم.

عند الرابعة صباحاً او بعدها بقليل تأكدت النتيجة بفوز ريغان واعادة انتخابه رئيسًا.

وكان الخبر جاهزا، اصدرنا امر الطباعة، ودارت المطبعة، وصدرت الصحيفة تحمل الخبر الذي وعدنا به. وحقيقة كانت جريدة الصحافة هي الصحيفة العربية الوحيدة التي نشرت خبر فوز ريغان في ذلك الصباح.

فيصل محمد صالح عاشق شاي، وهو يمسك بالعدد، قال هذا انجاز في حاجة لكوب شاي ساخن. وقبل أن يكمل عبارته، كانت بثينة عبد الرحمن تدخل حاملةً بيد ثيرموس شاي، وبالأخرى كيكة كاملة الاستدارة طازة ساخنة مع تحويف اسطواني في وسطها.

كانت السادسة صباحا، الجو شتوي بارد.

وكان الكيك طازجا والشاي جميلا، ما زال مزاقه في فمي، رغم مرور السنوات.

كم كانت الصحافة شاقة في ايامنا، الا انها كانت ممتعة.
كرمونا بعشر جنيهات لكلٍ، تعشينا بها في السابع من نوفمبر وسط جملة من الزملاء الاصدقاء على رأسهم محمد مصطفى الحسن والجيلاني عبد الحافظ بالنادي القبطي، الذي كان في جوار دار الصحافة للطباعة والنشر.
ويا لها من ايام مضت

والتحية ل بثينة عبدالرحمن في فينا، فما زال طعم كيكتها بيتية الصنع في فمي.

التعليقات مغلقة.