غربا باتجاه الشرق

شيوعيون وجثامين: سندات الاستثمار في توابيت الموتى

شيوعيون وجثامين:  سندات الاستثمار في توابيت الموتى
  • 20 أغسطس 2017
  • لا توجد تعليقات

مصطفى عبد العزيز البطل

(1)
شكراً للدكتور صدقي كبلو عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني الذي وقف بمفرده، وبصفته الشخصية، في عدد من المنابر التواصلية، وأعلن على الملأ أنه يدين سلوك منسوبي حزبه الذين هتفوا في مواجهة النائب الأول ورئيس الوزراء، ووالي الخرطوم، ومعتمد أمدرمان عند حضورهم لتقديم التعازي في فقيدة الوطن فاطمة أحمد ابراهيم.
وأسفي شديد ان الحزب العريق افتقرت فطنته فتخاذل عن إصدار بيان رسمي يدين ذلك المسلك الدميم الذي يأباه خلق الإنسان السوداني الحر، وتمجه فطرته السليمة، والذي كان الظن أنه يخالف التربية التنظيمية التي قام عليها كيان المراكسة في السودان.

وهكذا لحق الخزي بأعالي الهرم فاخترمه من حيث أردنا له اقتصاراً على أسافل الغوغاء. ولا ريب عندي في أن ذلكم الاستخزاء أمام واجب المجاهرة بالموقف في مواجهة تلك القارعة ستكون له تكاليف باهظة أشك في أن الحزب العجوز سيقوى على الوفاء بفواتيرها وتلبية استحقاقاتها.

(2)
الآن وقد أغلق مزاد تشييع فاطمة أبوابه، وخفّت حركة أقدام المستثمرين أمام تابوت الراحلة التي ثوت الى أديم البكري، وتفرق الدهماء الذين نزعوا عن مراسم تشييع السيدة المغلوب على أمرها جلاله ومهابته، وأحالوه الى سيرك هزلي ومولد للتهريج السياسي، حُق لنا ان نقول ما يجب علينا أن نقوله، إيماناً منا بدور نراه لأنفسنا في مورد التبصير والتنوير، وتأديةً لما فرضه الله علينا من واجب النصيحة:

في زعمنا إنه إذا وافى أحدنا الأجل وحضره ملك الموت، فإن جثمان الميت يصبح من حق أوليائه شرعاً وعرفاً وقانوناً. هل سمع أحدكم قط بحزب سياسي، أو ناد رياضي، او تنظيم ثقافي، أو هيئة اجتماعية احتكرت جثة متوفى، وادعت أنها المالك الحصري لها بدعوى ان صاحبها كان من منسوبيها، ثم فرضت وصايتها على أمكنة التشييع والمأتم، بحيث تقرر هي وحدها من يحضر للعزاء ومن لا يحضر؟!

ولهذا فقد أحسنت أسرة الراحلة الصنيع حين هرع عميدها، بغير إبطاء، الى وسائل الاعلام يذيع بيانه الذي برّأ فيه أسرته من عبث المخابيل قصار الفعال.

(3)
ثم أن عناصر الحزب الشيوعي التي تسفّلت يوم الدفن، وسفّلت حزبها وقزّمته، كانت في واقع الأمر تكذب على الناس وتفتري على صاحبة التابوت محل المزاد. ولو ردّ الله إالى فاطمة روحها فانتفضت من داخل التابوت، ومرقت من ظلمته الى ضياء الدنيا، لخلعت حذاءها وقذفته في وجوههم. ولأنكرت مزايدة المزايدين من تجار الجثث بنعشها، وتهافتهم الأخرق المذموم للمتاجرة باسمها.

وفيم الضجيج والعجيج، والنثار والغبا؟ ألم يشاهد هؤلاء شريط الفيديو الذي يملأ الآفاق ويغطيها، وفيه تظهر فاطمة أحمد ابراهيم وهي تعانق المشير عمر حسن أحمد البشير بكلتا يديها عناقاً حارًا، وعلى وجهها سيماء السعادة والحبور؟ ثم عندما أعاد الاستاذ عمر الجزلي عرض الشريط في برنامجه الشهير (أسماء في حياتنا) بحضور ضيفته فاطمة وسألها عن ذلك المشهد، أجابت، والبشر يعلو وجهها، أنها كانت سعيدة بعناق او (مقالدة) الرئيس وفق نص كلماتها المتاحة والمبذولة أمام الكل في ساحة اليويتوب؟!

فليقل لنا هؤلاء الحمقى: كيف اتفق أنه لا بأس عندهم بعناق فاطمة ومقالدتها رئيس الدولة وهي حية، ومجاهرتها في أشهر البرامج التلفازية بأنها كانت سعيدة بذلك العناق. ثم يكون البأس كله في حضور ممثلين للدولة لتقديم واجب العزاء للأسرة؟!

ألم تكن فاطمة أحمد ابراهيم هي التي شاركت في مؤسسات النظام، وقبلت عضوية برلمانه بقرار تعيين من الرئيس البشير نفسه في عام 2005م، وشاركت في وضع الدستور الانتقالي باتفاق وتنسيق مع قادة الحكومة، ومارست الدور النيابي سنوات تحت ظل نظام الإنقاذ؟ وجلست عهدذاك عشرات المرات إلى الفريق بكري حسن صالح في أثناء توليه عدداً من المواقع الوزارية بحكم دورها في اللجان البرلمانية، والصور الفوتوغرافية وفيديوهات تلفزيون السودان تشخص شاهدة؟!

ثم ألم تكن فاطمة هي من قبلت عطايا الدولة (الإنقاذوية) من مرتبات و(مهايا) وامتيازات، حتى إذا ما جاء أوان توزيع قطع الأراضي للبرلمانيين في الشريط الموازي لمول عفراء، وحي الاندلس وامتداد المنشية، تسلمت صك قطعة الأرض التي تخصها، حتى عايرتها بذلك شخصية قيادية في اللجنة المركزية للحزب؟

كيف إذن أحلّ لها هؤلاء المتاعيس الحياري أن تجالس بكري حسن صالح وتناقشه وتباشر معه اعمال الدولة وسياساتها وتشريعاتها وهي حية، ثم حرّموا على الرجل أن يقرأ الفاتحة على روحها وهي ميتة؟!

(4)
قالت لي الراحلة العظيمة الاستاذة سعاد ابراهيم أحمد، رفيقة فاطمة في رحلة البحث عن المستقبل الشيوعي، في حوار بيننا في عام 1993م إن فاطمة لم تكن أبداً شيوعية ولا علاقة لها بالماركسية. ثم عادت لتقول للحبيب الصحافي عادل سيد أحمد خليفة، بلغتها الواضحة الصريحة ذاتها: (أنا رأيي من زمان أن فاطمة ليست شيوعية. والآن أقول إنها ليست شيوعية). (صحيفة “الوطن” 11 نوفمبر 2006).

هل يا ترى يستشعر ثوار المآتم وتجار التوابيت المستثمرين في نعش فاطمة شيئاً من الإحباط والمرارة وهم يقرؤون كلماتي هذه؟ ربما. ولكن كان على تلك النفوس التائهة في عوالم العماية والزيف أن تعلم أن النضال المجاني الذي ناضلوه أمام التابوت لم يجلب لصاحبته ولأحبابها الحقيقيين، سوى الهم والغم والكآبة وبؤس الكمد.

(5)
كتب أستاذ جامعي ورئيس قسم في واحدة من كبريات الجامعات السودانية: “كنت في موقع الهتاف. أهل الهتاف لم يصلوا عليها، وظلوا يهتفون والصلاة قائمة والدعاء مرفوع، فكنا ندعو ولا نسمع دعاء بعضنا البعض من فرط الهرج!”.

ألا رحم الله هذه الشيخة الفانية، وغفر الله لمن أثقلوا عليها زماناً بكدر الكهولة المرهقة وظلم الشيخوخة المهينة، حتى إذا لاقت ربها استكثروا عليها مهابة الموت وجلاله، وحرموها صلاة المسلمين وصوالح دعواتهم. ومن شأن المسلم إذا مات وأدرجوه في قبره أنه لا تجوز عليه صيحات الأغمار بسقوط بكري حسن صالح، وإنما تلزمه دعوات الأخيار بالرحمة والمغفرة.

التعليقات مغلقة.