حكايات الثورة

حكايات الثورة
  • 20 ديسمبر 2021
  • لا توجد تعليقات

د. عبد الله علي إبراهيم

فتاة في الاعتصام: يا موز الجناين يا حسن
هديل عبد السلام ميرغني
(ليست فينا كتابات كثيرة عن يوميات الثورة لمن عاشوها شارعاً واعتصاماً. أو ربما وجدت ولم أطلع عليها. ولذا وقعت في أسر كلمة بقلم هديل عبد السلام ميرغني عن أيامها في التظاهرات والاعتصام وقد خرجت لهما من خمول سياسي كانت عليه قبلهما. وأعيد نشر الكلمة في قبايل العيد الثالث للثورة. أتمنى أن يجمع محرر شاب أو شابة مثل هذه الكتابات عن الثورة المعروفة بحكاية التجربة الشخصية ونشرها. بل أتمنى على لجنة مقاومة أن تعقد حلقة لمثل هديل ليكتبن (وا) تجاربهم الشخصية بالتضامن مع دوائر تعنى بتعليم الكتابة الإبداعية)
هذه القصة لكل من يهمس سراً أني عاهرة.
أنا هديل عبد السلام ميرغني من مواليد مدينة ام درمان خريجة صيدلة وبرجي قبل الآن كان العذراء …
اتربيت بين أب مناضل له اراءه السياسية الخاصة به.
وأم عرفت معني سياسة مع ابي فأصبحت قيادية تمثل المرأة لنظام يبغضه أبي جدا…
فكان البيت دائما يضج بخلافاتهم السياسية…
وكنت انا دائما بعيدة عنهم لأنني مللت الوطن بأجمعه وكانت احلامي وطموحاتي دائمآ تحلق نحو اوروبا…
لألحق بركب اخي الاكبر.
وفي يوم 2018 /12 /19 بالتحديد سمعت أبي وأمي يتراشقان بالحديث عن اندلاع تظاهرات بمدينة عطبرة لزيادة تعريفة الخبز…
فلم اهتم بالأمر كثيرا كأنهم يتحدثون عن ليبيا او سوريا…
واخذت استمتع بالأغاني الغربية بعيدا عن كل شيء….
وفي أحد الايام وأنا علي احدي المركبات العامة من الصيدلية في طريقي للبيت اخذت الحركة تسير ببطء شديد وصيحات تهز الارض
حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب.. فأحسست بضربات قلبي تتزايد كلما اقترب الموكب وطغي صوت الثوار علي صوت سماعة اذني التي تنساب منها الموسيقي.. فنزلت من الحافلة بسرعة وسرت في وسط الموكب كالأطرش في الزفة وبدأت اركز في افراد الحشد فكانت هناك فتيات اصغر مني يصحن بمسئولية يحسدن عليها … وام تبكي بحرقة ورجل مسن يتوكأ علي عصاة يضرب بها الارض بروح الثائر ضد الظلم… فبدأت اردد معهم حرية سلام وعدالة كشيء من التغير وكسر للروتين. ولكن كان الامر أكبر من ذلك بكثير فبداخلي احاسيس لأول مرة تنتابني وعبارات سمعتها كثيرا من أبي في هذه اللحظة عرفتها او ايقنتها تماما اليوم. فانتقلت الي العدوى بسرعة فائقة وأصبحت واحدة من هذا النسيج الملتهب بحب الوطن ورجعت المنزل بشخصية مختلفة تمام.. ولأول مرة تسكرني عبارات ابي السياسية بعد ان تأكد هو بصدق التحول الذي انتابني… ولكن امي لم تكن سعيدة ابدا بهذا الشي.. فكانت على الدوام تضعف همتي وتسخر من كلينا انا وابي فكان تصرفها هذا هو وقودي لكي اكون فتاة كل المواكب أسعف الجرحى واساعد الاطباء واطبطب على امهات الشهداء خصوصا ان الثورة اخذت ذروتها في الاشتعال ومن وسط البمبان ورائحة حريق الإطارات. تم اعتقالي في وسط الخرطوم بالسوق العربي وانهالوا علي بالهراوات وسلمت الجرة هذه المرة. بسبب شاب راكز أصر وبعناد رجولي دون اقرانه وهم يندهون اليه: تعال يا حسن!
_ يا حسن تعال ديل ما بخافو الله.
فأستطاع ان يلفت انتباه الكجر نحوه فتركوني علي مضض وهو يصرخ في وجهي بقلب شفوق
_ انفدي بجلد .
فضربوه ضرب مبرح واخذوه معهم… ومرت الأيام ولكن صورة ذلك الشاب لم تفارقني واحساس بتأنيب الضمير ممزوج بشي من العاطفة نحوه يؤرق من المنام.وكلما تناسيته سألني منه ابي بعفوية..
_ الشاب الأنقذك داك تاني ما شفتيهو.
وكان 6 ابريل والاعتصام الجمهوري كما يحلو لأبي ان يقول…
وانا وحدي كنت اواجه ثورتين ثورة الوطن الجريح وثورة داخل البيت بين ابي وامي…
امي كانت من منتفعين هذا النظام الفاسد. وبهذه الثورة سحب البساط من تحتها. فأصبحت انفعالية لأبسط الأشياء. ودائماً تصب جام غضبها علي بسبب خروجي للمظاهرات عكس ابي الذي كان يوفر لي كل أشكال الدعم.
خصوصاً بعد الاعتصام ظناً منه ان الشعب في حماية قوات الشعب المسلحة وهي دائماً تسخر منه بعبارة واحدة: (لم لحمك يا راجل)
فأصبحت لا اطيق امي بسبب هذه العبارة. فكان الاعتصام هو منزلي وسلوتي ووطن ممتد بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني عميقة.
سحنات مختلفة.
لهجات متنوعة.
ايقاعات والحان تقحمك عنوه في غيبوبة الحرية المفقود.
واوجاع الذات الجريحة بنصل الساسة الفاسدين.
ورغم كل هذا كان هناك شيء من الفرح الأدمي:
الذي يعني كلنا من أدم وأدم من تراب. فرح يلغي كل الطبقات المصطنعة ويجمع كل الناس بالأخلاق العالية التي هي عماد كل الاديان السماوية.
لا ادعي قدسية المكان فلكل صالح طالح. ولكني تنفست اكسجين الوطن في تلك البقعة.
وما أنا فقط بل كلنا بأمل بغد مشرق.
تتالت الأيام وقد تشظت روحي وسط كم من الأشياء لفترة مبهمة من الزمن.
ولكنها اجتمعت مرة اخري برؤية حسن ذلك الشاب النحيل الذي أنقذني في ذلك اليوم. لمحته من خلال فتحة بخيمة افطار الصائم بالقرب من جامعة الخرطوم والشمس تشارف علي الزوال ونحن نهم بأعداد الافطار للمعتصمين.
ركضت خلفه بتردد لأن السواد كان كاسيه لكن هو نفس قميص مانشستر بلون الاحمر الذي كان يرتديه في ذلك اليوم. وقبل ان يبتعد ندهت اليه بصوت متحشرج من الخجل:
-حسن
توقف فجأة والتفت نحوي واخذ يرمقني بنظرات فاحصة مفادها انه لم يتذكرني.
عرفته بنفسي سريعا لضيق الوقت فضحك واخذ يسألني عن احداث ذلك اليوم بنفس النظرات الشفوقة تلك. دعوته للإفطار معنا. فأعتذر بكل أدب على أن نلتقي بعد الافطار قبالة البحرية. التقينا وعرفت أنه مهندس مدني ومن اهالي مدينة عطبرة. فشكلنا معا فريق عمل تطوعي خدمي باسم الوطن وعرفته علي أبي فكان بينهم انسجام فطري.
وفي 27 من شهر رمضان بدأنا نخطط لفرحة العيد من داخل أرض الاعتصام بالتعاون مع منظمة ثوار أحرار.
وتوزعت المهام. وتم الاتفاق علي توزيع الهدايا المالية والعينية لآسر وأمهات الشهداء والجرحى في صباح 29 رمضان. فلذلك كان علينا جميعاً المبيت علي ارض الاعتصام.
فكانت ليلة 28رمضان من الليالي الفريدة. جمع مهيب وأحلام وآمال تعانق السماء، وكشافات الجوالات كأنها الدر. ولأننا شعب طيب فطرنا على الصدق والتصديق.
غُدرنا في الساعات الاولي من الفجر بسادية المأجورين وسفالة العسكر وقسوة الساسة بدم بارد . افزعتنا صوت الطلقات وصياح الشباب بعد ان غفينا انا وزميلاتي على خيمة المنظمة. وبعد دقائق فقط شبت النار على الخيمة المجاورة لنا فبدأنا نجمع ما خف وزنه. فأتي حسن ومعه شباب وقال لنا باضطراب واضح
_خلو اي حاجة وامرقوا جري.
وعند خروجنا من الخيمة كان هؤلاء السفلة قد احاطوا بنا. واخذو يضربونا بعنف. ويطلقون علينا عبارات بذيئة. حاول حسن حمايتي ولكن ضربه أحدهم بمؤخرة البندقية. حاولت ان أصله. ولكن كان في اثنين قد احكموا وثاقي بأيديهم وانا اصرخ.
وصوت شخير حسن يتعالى بدم يتطاير من رأسه. فضحك أحدهم بسخرية ووجه فوه البندقية علي حسن واصابه بطلق ناري. هنا لم اتمالك نفسي وأغمي علي.
لم ينقذنا صراخنا ولم تحمنا قوات الشعب الذي يحتضر امام حماته.
لن احتقر نفسي
وعذريتي ليست شرفي
بل شرفي هو قوة شخصيتي
لقد تجرعنا المرارات لأجل وطن اهدانا أصدق الاخوة ليتوجوا شهداء
لن يكسرني حزن أبي
ولا سخرية أمي
ولا ظلم مجتمع يعدمنا أحياء
سأغدو كإشراق شمس الصباح
فالشمس شمس أمام الرماح
ومن عاش بضاً أذته الرياح
فصبراً جميلاً بشفق الجراح.
IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.