حول ظاهرة البلابل: لأنَّ التُّراب في الحنجرة

حول ظاهرة البلابل: لأنَّ التُّراب في الحنجرة
  • 09 فبراير 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله علي إبراهيم

(في النصف الثاني من السبعينات ثار نقاش حول علاقة المرحوم بشير عباس بالبلابل. ووجدت الأسئلة التي حاصرت تلك العلاقة الخصيبة عقيمة سيئة الطوية الاجتماعية. وكانت حالة شعواء من القتل الطقوسي للظاهرة. فكتبت هذه الكلمات في جريدة الصحافة)
لابدَّ أن تنزعج للياقتنا في القبول السَّهل لحادثات أساسية في الحقل الغنائي كمثل هجرة المبدعين، واضطراب ظاهرة (البلابل)وغيرها. هاجر الكابلي وكتب سليمان عبد الجليل كلمة صحيحة ضمَّنها حزنه للبرود الذي أحاط بنبأ الهجرة وبالهجرة ذاتها. وختم كلمته بقوله:( إنه شيء محزن ومخجل ومعه ألف حق في أن يهاجر ويسافر سفر الجفاء). وهكذا حوَّل سليمان غضبه المشروع الى يأس تشتم منه، ولو بطريق آخر، ذلك البرود ذاته.
ومن أخصّ مظاهر ذلك البرود قبولنا لمنطق تبريرات الكابلي لهجرته. حيث قال إنه يهاجر ليتفرّغ لأمانٍ فنيةٍ قديمة. والواضح أننا قد اقتنعنا بتلك التَّبريرات لأننا لم نصدِّقها. وكان من حقنا أن نسأل: ما هي تلك الأماني أولاً، ثم كيف لها أن تتحقق في غير أرضها وبين غير جمهورها، وأن نتحمَّل كوطن كلّ ما يترتب على هذا السؤال الصعب.
وهاجر أيضاً الحلنقي. الحلنقي الإضافة الكاملة للكلمة الغنائية على غرار خليل فرح والعبادي وأبو العلا وإسماعيل حسن.
الحلنقي الذي لم يعد خطونا على الأرض بعد غنائه مثله قبله. وبدأ الخبر الوحيد عن هجرته موجزاً. بصورة كالنعي. وهاجر محمد كرم الله. ووقع تفكك ظاهرة البلابل وانفصال الموسيقار بشير عباس عن بنات طلسم. وتنفسنا الصعداء كأن منكراً قد زال. لشد ما تهيأنا لهذا الانفصال حتى استبطأناه.
ويحتاج منا هذا الى وقفة خاصة بإزاء الطَّريقة الخاصة التي اغتلنا بها ظاهرة (البلابل). ويتحمّل مخبرو الصفحات الفنية ومنظمو المقابلات الاذاعية القسط الأكبر في ذلك الوزر. فقد تولوا نيابة عنا تطويق ظاهرة البلابل بعدد من الأسئلة المغلوطة والاستنتاجات السخيفة، وبفضلها تحولت ظاهرة البلابل الى الدفاع، وكان لا بد أن تُمنى بالخسران لأنها مما يكسب بالهجوم.
نوجز تلك الأسئلة والاستنتاجات في ما يلي:

  1. بشير عباس يحصر البلابل في إطار ضيِّق.
    أشيع في هذا المقام أن المغني سينتهي إلى التِّكرار إذا استقر على ملحِّن واحد. وهذا زعم باطل في بلد ظل أميز مغنّيه يلحِّن لنفسه لعقود من الزَّمان، ولم يتكلَّف مروجو هذا الزم البرهنة عليه من واقع نتاج البلابل.
    ولو فعلوا ذلك لقدَّموا للبلابل كظاهرة مدخلاً لفحص مساهمتين وإعادة ترتيب أوضاع الظّاهرة، بما قد يأذن بملحن جديد أو غيره. وهذا أفضل من التطوُّع بالألحان كيفما اتفق. والحال هذه فمن حقنا أن نستمع لريبة البلابل البنات في هذا التّطوع، حيث قلن: (إذا لحّن أي فنان أغنيةً وكان اللحن جميلاً فقطعاً لا يمكن أن يعطيه للبلابل).
    بلغ السؤال عن احتكار بشير عباس للبلابل حدَّاً دفع بشير نفسه ليقول فيما يشبه الندم إنه قد حصر نفسه في البلابل.
    ومن أسف، أن تعتقد بلبلة أن انفصالهن عن بشير هو وجه من وجوه انتصار العلم والتقدُّم والغناء بالطريقة المهرمنة الصحيحة، لنتأمَّل كيف أفسدنا عليهن كل شيء. ومع ذلك فهذا غير صحيح، لا بمقياس علم الغناء (رأي غير خبير) ولا بمقياس الإنصاف.
  2. ..ما الذي يبقى من الأخوات البلابل أمام سلطان القلب والزواج؟
    يسأل هذا السؤال في الإذاعة خاصة بخجل لئيم وسوء ظن غريب بما يكشف عن سيكولوجيا ليس هنا مكان تقويمها. ونكتفي هنا بأنَّ السُّؤال دليل على أننا لم نتعامل مع البلابل كظاهرة جاءت لتبقى، أو حتى لتعيش أيامها المعدودات حتى آخرها. آهٍ، هذا نعيب اليوم في سؤال.
  3. البلابل هن طليعة بنات الأسر في الغناء السوداني.
    وهذا تفسير ارتاحت له البلابل البنات لفترة، ثم ارتدت سهام رداءته الى نحورهن. فلما نظرن من موقعهن كطليعة، لمن يأتي لمؤازرتهن من بنات الأسر، ولم تأتِ واحدة حتى الآن امتلأن بالمرارة. وقلن انهن لم يستطعن تغيير رأي المجتمع في أن تدخل الفتاة مجال الفن: (لم نر بعدنا عدداً من الفنانات يؤكدن أننا استطعنا أن تغيِّر رأي المجتمع).
    وكانت هذه نتيجة منطقية لرداءة تحديدنا لموقع البلابل في خريطتنا الفنية. فحين سمّينا مرحلة البلابل مرحل بنات الأسر، دمغنا ما قبل البلابل بما يستحق الاستحياء منه. وقد صدر منا ذلك – ويا للأسف- بحياة الرائدة رفيعة الشأن: عائشة الفلاتية.
    والصحيح أن مساهمة البلابل البنات جزء لا يتجزأ من مسار الصوت الغنائي النسائي.
    وإضافته لذلك المسار لا تأتي من صدوره من بنات أسرة، بل لأنه صادر من مطالب جديدة – قديمة للمرأة من الرَّجل، وفي الرجل من الحياة وفي الحياة. فهو ليس الصوت المنزجر الذي لا يرتفع إلا حين يمجِّد انجازات الرِّجال (الحكامة) ويتحوّل بعواطفه الأخرى الى غناء شبه سري آسر في تعليم العروس وغيره.
    صوت البلابل – البنات هو نقيع الجرأة الراهنة في الفتاة التي جلبتها تطوُّرات شتى تكيِّف حياة العائلة حالياً على الديمقراطية.
    وتلك الديمقراطية احترقت – وتحترق من أجلها لا تزال فتياتٌ كثيراتٌ لم يردن الغشَّ في عواطفهن. فتيات كانت ولا تزال (الليلة ديك) خارجة على تقويم أحلامهن. وهي جرأة وتَّرت حبال البلابل الصوتية وجعلت من صوتهن شيئاً لا مناص منه. وفي تلك الجرأة مشابه بفريق الجراري من بنات البادية اللائي لم يأتِ بعد ذلك الرجل الذي يخجلهن من حبه.
    منّينا البلابل البنات بوصفه بنات الأسر، وحين خرجن تعرَّضن من جماعات من الشباب لما لا يليق مع فنانات. ولا بدَّ من كلمة مناسبة لمثل هذا الشباب الخليع. البلابل هن من شرعن بصوتهن هذه الحساسية الجديدة التي فرضت على الخرطوم الراهنة أزواج المحبين، بدلاً عن جماعات العزابة المأزومة السكرانة، أو التي في طريقها للسٌكر، مما كان مشاهداً في الخمسينات والستينيات.
    لقد أخرجت البلابل البنات من معطف صوتهن كلَّ هؤلاء الفتيات المعتنقات للحب، فلماذا تبدون خالي الوفاض مع بذاءة؟
    مشاغلتكم غير المرغوب فيها للبلابل البنات هي تسميم للنبع، لأنكم لم تحسنوا السِّباحة في مياهه الوثيرة. إنكم بلا أدب… بكلِّ المقاييس.
    هذا بإيجاز هو الجو الذي فرضناه على ظاهرة البلابل، وهو الجو الذي يبدو أن الحركة الذاتية للبلابل (العلاقات المالية، مسائل التطور الفني، العلاقات الانسانية والعائلية والمجاملات…الخ)، قد رزحت وتوترت تحت ثقله الكئيب. فقد تحرّينا نهاية الظاهرة وهي وليدة بعد، لم يبدُ أي تعبير مفصح (على خلاف تعبير المعجبين التلقائي بالطبع) يحيط بالظاهرة ويوطِّنها في قلب وعقل الجمهور.
    لو تم هذا لما أصبح ميسوراً هذا التفكك البارد السَّهل. ربما استقر عند بشير والبلابل البنات أن كلَّ الناس تنتظر نهاية ما بينهما، فلماذا التَّطويل؟ ولماذا لا ينتهزا أي سبب أو آخر مثل أن البلابل لا يحترمن بشير، أو أن ليس من عادة البلابل الغناء في المناسبات ليختما هذا الفصل الغنائي كما ينتظر جمهور الصالة، الذي يعبِّر عنه المحرّرون والنَّقَدة. لو كنا – ايجابياً، وبحب وشراسة – مع البلابل لما وقع هذا التَّفكك بهذه السهولة. بهذا البرود. بهذا التّواطؤ.
    ولهذا لا يتفاءل المرء بما يصدر عن أن بشير بصدد إطلاق عصفورتين جديدتين، لأن التُّراب في الحنجرة. ولا يتفاءل أيضاً بما تقوله البلابل عن انطلاقة جديدة بلا بشير. ذات التُّراب ذات الحنجرة.
    وليس معنى هذا أن بنات طلسم وبشير قدر. لا، انهما امكانية لم تستفد مخزون تعبيرها. لقد اضطررناها للنفاد، لأن كل شيء فانٍ. لقد اضطررناها للدِّفاع، حيث جاءت أصلاً للهجوم.
    IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.