معركة “ذات مخالف سيادتك”: الخلق الوعر

معركة “ذات مخالف سيادتك”: الخلق الوعر
  • 13 أبريل 2022
  • لا توجد تعليقات

د.عبد الله علي إبراهيم

(برافو قناة سودان بكرة لعرضها وثائقية صميمة عن صغار الضباط الذين حموا الثوار من الدعم السريع وكتائب الظل في يوم ٧ أبريل ٢٠١٩. وهي واقعة أسرتنا ثم غادرناها سريعاً إلى غيرها. فشباب ضباط ٧ إبريل هم من اعتصم الشباب المدني لأخذهم لصف الثورة. وخرجوا بتلقائية لم تثمر. يقول لنا الفلول لقد اعتصمت بالقيادة تريدون نصرة الجيش وها خرج لكم ببرهانه وحميدتيه. فلم الضجة؟ وعندي خروج البرهان هو خروج سوار الدهب بالنية المبيتة لتجميد الثورة ثم ضربها في وقت لاحق. وهذا خلاف خروج شباب الضباط مثل الباقر ونميري في أكتوبر ١٩٦٤ الذين طوقوا القصر الجمهوري، وفرضوا على عبود الاستقالة بخطاب محرر في جيوبهم. ثم تركوا الأمر للمدنيين كليا. ليس الجيش كيانا جامعاً مانعاً في منعطفات السياسة. أردنا بالاعتصام مثل نميري والباقر فخرج لنا سوار الدهب الذي حملناها أكثر مما استحق في ثورة ١٩٨٥).
أحاول منذ مدة أن أعرف المزيد عن معركة لم نطلق عليها اسماً على خطرها بينما سمينا من لا يدانيها وسامة مثل معركة قرطبة وذات الكراسي. وسميتها أنا تطوعاً معركة “ذات مخالف سيادتك”. وكان بطلها هو النقيب حامد عثمان حامد. ودارت المعركة أمام القيادة العامة فجر 7 إبريل. وابْتُلينا بالتعظيم المشاهد لدور المجلس العسكري في حماية الاعتصام لمجرد أننا فُتنا هذه المعركة حوفا. وبلغ من هذا التعظيم أن قال الطيب مصطفى إن الحراك لو صباها لمائة عام أو تزيد لما تسلم الحكم من البشير.
وكان النقيب حامد في معركة “مخالف سيادتك” تطبيقاً حرفياً لعبارة أذاعها فينا صلاح أحمد إبراهيم: رجل واحد يشكل أغلبية. فقد قرر وحده أن يحمى الثوار من الكتائب التي هاجمتهم فجر ذلك اليوم. فقد هرش ضابط الأمن من تحرك من الجنود والضباط لرد المعتدين. فتراجعوا إلا حامد الذي أصلى المعتدين من فوق تاتشره بالدوشكا ناراً. فجاءه ضابط عظيم ليأمره بوقف ضرب النار. الناس بقتلو في أخواني والله ما أخليه
دي أوامر
مخالف سعادتك. ودي استمارتي والبورية حقي. انا الليلة مواطن.
ورفض حامد الأمر بإدخال التاتشر حوش القيادة وواصل الضرب. ورجعت كتيبة إليه بعد ما روضها بثباته. وتلك لحظة مفصلية في الثورة ثبّتت وتد الاعتصام عند القيادة إلى يومنا. ولو لم تنهر دوشكا النقيب حامد الكجر في مطلع ذلك اليوم لقتلوا ما شاء الله لهم، ولربما تفرق الاعتصام
أمس الأول وأنا أتابع المحاولة الدموية لفض الاعتصام تساءلت: من أين جاء النقيب حامد وهؤلاء الشباب:
جايين لمنو
جايين للموت
الموت وينو
الموت قدام
وكان حاديهم لا يطلب منهم، في وجه الموت، أن يتراجعوا كما ينبغي، بل أن يتقدموا. ولم يخطر لأحد منهم أن يتقهقر. لقد احتكر سؤال “من أين جاء هؤلاء؟” ولم نكدح فكراً لنسأل من أين يخرج علينا هؤلاء الذين ربما عنى الواحد منهم أبو تمام بقوله:
وكان فوت الموت سهلاً فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
لقد حولت صفوتنا دراسة الشخصية السودانية إلى مطاعن نجلاء فيها. وانتهت قبيل ثورة ديسمبر إلى يأس بليغ فينا. فقد تطاول قهر الإنقاذ حتى ظنوه نظاماً في الكون لا عارضاً. وأضيع ما ضاع منا هو علم الفروسية السودانية. والفروسية هي الخلو من رهبة الموت. فقالت بت مازن الجرارية تنعي موسى ود جلي فارس بني جرار:
الخوف قسمو عيل (إلا) موسى ما حرسه
فسجل موسى غياباً يوم توزع الناس مادة الخوف. فكان لكل منا نصيب إلا هو. وسمعت في مثل هذا الخلو من الخوف من وصف فارساً قائلاً إنه لم يكن ليفزع حتى في صغره من طرقاع الرعد. وكل ملم بالتنشئة السودانية في سومارات الطهور والعرس، التي هي صناعة نسائية خالصة، سيجدها دعوة صريحة للانتحار. فالفتي مدعو لإتلاف المال والروح. فهو مدعو ليذبح الشائلة مما هو سكة للإملاق كما أنه مدعو لسوم الروح..
والسوابق التاريخية لإتلاف الروح الذي خاضه شباب الاعتصام ليلة أمس الأول بينة. فما كففت من العودة مرة بعد أخرى إلى سيرة القائد المهدوي الشاب محمد ود بشارة، حاكم دنقلا، الذي واجه الجيش الغازي في 1896. فقد اسْتَعر من رأي القادة من تحته للانسحاب من وجه الغازي. فلما تقدم ليقود جنده للمواجهة طوق القادة حصانه، وأوثقوه وحملوه منسحبين بعيداً من المعركة. وتوقفت كذلك عند استشهاد ابن الثامنة عشرة محمد ابن الإمام المهدي في كرري. فلما رأى حصاد الغزاة الغزير في أنصار المهدي عصى أمر الأمير يعقوب صائحاً في وجهه: “يا الضايقين حلوها مرها ضوقو”. واندفع صوب العدو وصرعه وابل من الرصاص.
وتجلى هذ الحفاظ المر والخلق الوعر في تاريخ ما بعد المهدية وفي موضع قريب جداً من الموضع الذي ابتلى الله شباب الاعتصام بشارع النيل فصبروا وصابروا. فقد أصلى عبد الفضيل الماظ الإنجليز ناراً من مدفعه بمستشفى النهر في 1924 حتى هدوا عليه المبنى. وكذلك فعل محمد أحمد الريح في يوليو 1971 الذي قاتل متحصناً بمكتب في القيادة العامة حتى مصرعه.
بدا لي أننا ربما كنا أسوأ دارسين لأنفسنا. فلم ننم نهجاً للعلم بأنفسنا سوى الشكوى منها. وأكثر هذا راجع لصفوة تواثقت على أننا قوم بور، وأن الغرب اصطفانا ليأخذ بيدنا إلى مرافئ الحداثة، أو ما سميته ب”تجريعنا” الحداثة. فلسنا شيئاً في الماضي. وسنكونه متى ما ملصنا جلدنا القديم ولبسنا حلة الحضارة.
غير خاف أن اعتصام القيادة حدث استثنائي. وربما لم نحسن فهمه وتذوقه لو توقفنا عند مفرداته هو أخذك الشيء منك. وساغ لي أن نحلل الاعتصام بمفهوم “الروع” (sublime) في علم لنقف على جماله. فالروع في اللغة درجة من التسامي والإحسان فيها. وهو صفة في العظمة المتناهية في عالم المادة، أو القيم، أو الفكر، أو ما وراء الطبيعة، أو الروح، أو الجمال، أو الفنون. ويشير المفهوم بشكل خاص إلى العظمة التي تستعصي على القياس، أو التقليد، أو الإحصاء. ولربما ساقنا المفهوم إلى علم وطيد بالاعتصام الذي هو علم بنا ضللنا عنه طويلا.
IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.