خمسة وثلاثون لقطة بانورامية لشخصية أسامة في مراحل الصبا والشباب والبرزخ

خمسة وثلاثون لقطة بانورامية لشخصية أسامة في مراحل الصبا والشباب والبرزخ
  • 05 مايو 2022
  • لا توجد تعليقات

د.فاروق محمد إبراهيم

هذا التوليف الرفيع للفردية الطليقة مع الالتزام الاجتماعي العميق.. من أين جاء؟

عرفت أسامة من يوم مولده لحين لحظة الفراق الأخير. ولكل من عرف أسامة فإن الفردية غير المقيدة سوى بمبدأ الإنسانية والإلتزام بتحقيق العدالة الإجتماعية تقفز للذهن بوصفها أهم ملامحه الذاتية. إنه يقترب كثيرا من نموذج الفرد البشري الحر الذي قال الأستاذ محمود محمد طه عنه في عبارة رشيقة أنه يفكر كما يريد، ويقول كما يفكرويعمل كما يقول، ثم لا تكون نتيجة قوله أو فعله إلا الخير والبر بالأحياء والأشياء. والسياق الذي اورد فيه الأستاذ محمود هذه العبارة هو رؤيته للقرآن والإسلام والدين كله لا كغاية في ذاتها، وإنما كوسيلة للتوفيق بين حاجة الإنسان الفرد للحرية الفردية المطلقة وحاجة المجتمع للعدالة الإجتماعية الشاملة. وغاية مشروع الأستاذ محمود كما كتب في وثيقته أسس دستور السودان التي أصدرها في العام 1951، هو إنجاب الفرد الحرالذي، بنمثله لهذه الخصال في ذاته، يكون أهلا لغرسها في الآخرين. أود فقط أن أدخل تحديدا لهذه العبارة لم يفت أصلا على من صاغها، وهو أن الإنسان الحر يفكر كما يريد، لكن طبعا لحل القضايا التي يفرضها عليه الواقع الذي يجد نفسه فيه والذي ليس من صنعه. وهو يقول كما يفكر ويعمل كما يقول، ولكن طبعا وفق الضوابط التي يفرضها شعاره الرشيق، “الحرية لنا ولسوانا”. وأقدم فيما يلي 35 لقطة بانورامية تيرز هذه السمات في شخصية أسامة، 6 منها لأسامة الصبي المتمرد الجموح، و20 منها لأسامة الشاب الناضج، والثمانية الأخيرة لمسلكه في حالة البرزخ، وهي الفترة من الثاني والعشرين من أبريل 2007 حينما أيلغه الأطباء أن التدخل الطبي الوحيد المتوفر لديهم تسكين الألم خلال شهرين قدروهما لحياته، إلى الثاني عشر من مايو 2007 حينما توفاه الله.
6 لقطات لشخصية أسامة الصبي المتمرد الجموح
ولد أسامة بأمدرمان في التاسع من يناير 1942، وقضى جانبا من طفولته في رشاد بجبال النوبة حينما كان والده قاضيا شرعيا لها. التحق مولانا (1908- 1984) مجددا بكلية الحقوق لدراسة القانون المدتي في الفترة 1946-1948 بكلية غردون ليعمل عند التخرج قاضيا جزئيا لمدينة كوستي في مطلع العام 1949، ولينتقل منها لمدينة وادمدني في العام 1952. وقد أكمل اسامة دراسته الأولية ثم الوسطى بمدينتي كوستي ومدني.
اللقطات الثلاث الأولى في مدينة واد مدني في العامين 1955/56. كنت حينها خريجا جديدا أعمل بهيئة البحوث الزراعية، أقيم في “شقق العزابة” الفارهة الملحقة بنادي الجزيرة في الحي البريطاني، جوار منزل مولانا عبدالرحمن النور، بينما كان أسامة، تلميذ الإبتدائي البالغ حوالي أربعة عشر عاما، يقيم مع والده قاضي مديرية النيل الأزرق في ذات الحي الأخضر الجميل. من رصفائه في ذلك الحي عاصم إبراهيم مغربي، إبن كبير الجراحين بالمستشفى، ومأمون مكي مدني، إبن وكيل وزارة الري.
اللقطة الأولى لأسامة كانت حينما سطا مع صديقه عاصم مغربي على عربة مولانا الصالون الشفروليه الجديد لينقلب بهما في ترعة بركات قرب مارنجان، بعد تفادي الإصطدام بقطار بأعجوبة. وفي اللقطة مولانا عبدالرحمن النور الذي غادر المحكمة مذعورا ومعه صديقه أحمد خير المحامي، بالباروكة والروب، ليصدر الحكم بجلد أسامة جلدا مبرحا ويقوم بتنفيذ الحكم في الموقع بنفسه. لكن الجلد كان بردا وسلاما على أسامة.
اللقطة الثانية كانت لأسامة وهو يقفز فوق سور منزل الأسرة بأمدرمان قبيل الفجر لتصيح جدته والدة مولانا مذعورة: الحرامي…الحرامي. كانت تلك خاتمة رحلة على الأقدام إستغرقت ثلاثة أيام قام بها وحده من مدني لأمدرمان دون أن يعلم أحد شيئا عنها. وقد إستقبل مولانا نبأ ظهور أسامة الدرامي بأمدرمان بمزيج من السخط والإرتياح.
اللقطة الثالثة كانت لمولانا مع فريق الإنقاذ على قيف النيل أمام منزله بمدني حينما بلغه أن أسامة يوشك على الغرق. كان أسامة يسبح عائدا بعد العبور إلى حنتوب، لافا قميصه على رأسه، مصرا على إكمال سبحة العودة غير مكترث لقارب النجاة. مولانا الذي لم يعجز عن كبح جموح عتاة المجرمين أمثال عباس بنك (باركليز)، كان عاجزا تماما أمام أسامة. وسرعان ما تحول تمرد أسامة تلميذ الإبتدائي ضد سلطة مولانا إلى تمرد تلميذ الثانوي ضد السلطة السياسية، ففصل من مدرسة خورطقت أولا، ثم من الأهلية الثانوية التي لجأ إليها في أمدرمان ثانيا. أما في الأحفاد، ملاذه الأخير، فقد خرج الأمر من سلطة الأب والمدرسة ليقع تحت طائلة المحكمة العسكرية التي قضت بسجنه ثلاث سنوات لقيادة مظاهرة إحتجاج ضد زيارة الرئيس عبدالناصر للسودان . واستقال مولانا عبدالرحمن النور إثر تلك المحاكمة من منصبه كرئيس لإدارة المحاكم، محتجا بدوره على محاكمة “القصَر” أمام المحاكم العسكرية. آثر العمل مديرا لأعمال صديقه صالح عثمان صالح بكوستي على المنصب القضائي الرفيع الذي إمتهنه العسكر. محاكمة “نفي النفي إثبات” هذه كانت إنقاذا لأسامة من مصير أسوأ، إذ توعده صول البوليس السري الشهير “ود الكتيابي” مرارا بتلفيق تهمة حيازة البنقو، عوضا عن تشريفه بالإعتقال السياسي. لقد إستفزت الصول “حقة” تمباك أسامة الوقحة وإنتشاره بين بروليتاريا سوق الموية الرثة وجمهور ناديه الرياضى المفضل، الموردة، فقرر تأديبه.
اللقطات الثلاث التاليات كانت في بريطانيا:
اللقطة الرابعة كانت في حانة نايتسبردج الواقعة جوار بيت السودان في حي رتلاند قيت الأنيق بلندن. توسط صديقا مولانا، أحمد خير وزير الخارجية وأبورنات رئيس القضاء لدى الرئيس عبود، فأفرج عن أسامة في الشهر التاسع من السجن، بعدما أكتمل نضج الجنين الثوري في أعماقه، مشترطا أن يغادر السودان فور الإفراج عنه. إصطحبت أسامة من مطار هيثرو إلى بيت السودان ومنه إلى حانة نايتسبردج حيث لقي إستقبالا حافلا من روادها المبعوثين السودانيين، وجلهم من كبار الموظفين. كنت أعرفه بهم فردا فردا، وكانوا يصغون بإستمتاع لرواياته العفوية عن السجن وشخصياته وعن شائعات وفضائح رموزالنظام ومخططات المعارضة. سألني أسامة عن شخص أبدى إهتماما خاصا به، لم أعرفه به لسبب بديهي. قلت تفرس وجهه مليا، ألا تذكر من هو؟ قال ربما التقيته في مناسبة لم أعد أذكرها. كان ذلك الشخص العميد شداد، رئيس المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بثلاث سنوات سجنا.
اللقطة الخامسة كانت صباح اليوم التالي في محطة القطار بإحدى ضواحي أكسفورد، حيث المدرسة التي قرر مولانا إلحاقه بها لتهيئته للجامعة، تيمنا بتجربة مماثلة للسيدين أحمد والصادق المهدي. حينما سأل المستر رومانز، مدير المدرسة، الذي استقبلنا بالمحطة بلهجة الخبير في الشأن السوداني، Are you Ansari or Khatmi، صعقه أسامة بالرد: I belong to the Communist Party of Sudan, Sir. في الطريق إلى أكسفورد قلت لأسامة الذي سحرته خضرة المروج البريطانية وروعتها – جادا – أننا نحتاج لحوالي عشرين سنة بعد ولوج السلطة لنجعل الريف السوداني في خضرة ورونق الريف الإنجليزي. تأثر أسامة كثيرا بهذه الملاحظة، وإن سخر منها ومني لاحقا. وكما كتب الشاعر صلاح مجاريا الهايكو الياباني، النيل وخيرات الأرض هنالك، ومع ذلك، ومع ذلك..
اللقطة السادسة كانت في منزل صديقي بريان سايمون، الشيوعي الأرستقراطي البارز وأستاذ علم النفس بجامعة لستر التي منها تخرجت. أبوه اللورد سايمون كان وزير الخزانة في أول حكومة عمالية. لم يبق أسامة مع المستر رومانز إلا بضعة أسابيع في العام 1962، تأكد له خلالها أنه محتال، وطلب إيقاف التحويل ومقاضاته لإسترداد مبلغ 200 جنيه إسترليني كانت بحوزته، ثم رحل إلى مدينة لستر لأمتحان ال O-level. تأكدت لنا صحة موقف أسامة حينما طالعنا لاحقا عنوانا عن مستر رومانز في صحيفة مسائية: ” مدير مدرسة يدان بسرقة مصروفات نجل أمير يمني”. إصطحبت من لندن إلى لستر الصديقين الراحلين أحمد محمد سعد وأبراهيم مجذوب مالك. مضيفتنا السيدة جون سايمون ملأت الجو مرحا. كانت تدير حوارا عن نمط الإنتاج الأسيوي في مجلة MarxismToday، صار محوريا في فكر أسامة اللاحق. فاجأنا أسامة في تلك الجلسة الرفاقية الودودة بتذكرة سفر ومنحة للإلتحاق بجامعة ليننقراد… قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. أسامة الذي بلغ سن الواحد وعشرين لم يعد للسودان إلا لفترة أسبوع في العام 1967 لحضور مأتم والدته. وداعا سلطة مولانا الأبوية. وداعا قيد التمويل الحريري.
عشرون لقطة لنضج الشاب أسامة
عاد أسامة في مطلع العام 1969 وبحوزته ماجستير علم الآثار بمرتبة الشرف الأولى من جامعة ليننقراد ليلتحق بمصلحة الآثار بالخرطوم، غرامه الجديد. ثابرنا على السباحة ولعب السكواش فجر كل يوم – عدا الجمعة – بمسبح جامعة الخرطوم. كان رياضيا ماهرا، عكسي تماما. لم نتوقف عن تلك الممارسة إلا صبيحة الخامس والعشرين من مايو حينما فاجأنا الإنقلاب الذي قلب حياتنا رأسا على عقب.
اللقطة السابعة كانت في خضم الصراعات التي فجرها الإنقلاب. الحزب الشيوعي الذي احتل موقعا مرموقا في السلطة بدد الوقت بالجدل الفقهي، ما قاد إلى الإنقسام والحركة التصحيحية والألوية الحمراء في ساحة القصر. وداعا سلطة الحزب والرفيق راشد التي حلت محل سلطة مولانا. وداعا سلطة الأيديولوجيا التي حلت محل الدين. أسامة صار أخيرا سيد قراره، يفكر كما يريد ويقول كما يفكر …
اللقطة الثامنة في باحة سجن كوبر، حينما “نصبوا للشمس أعواد المشانق”. نميري يتوسط الباحة التي التف حولها وعلى الجدران من فوقها الجنود المدججون بالرشاشات، متوعدا، “الشيوعي إطلع بره”. أسامة كان أول الطالعين. وطوال العام الذي قضاه بالسجن كان أشد المعتقلين شراسة – لدرجة الهوج – خصوصا في الأيام الأولى، حينما كانت الظنون تذهب لأن إنتزاع أي معتقل فجرا قد يكون لأقتياده للدروة. أسامة كان في نفس الوقت من أكثر المعتقلين بشاشة وحيوية. وسأعود لمسألة “الهوج” هذه لاحقا.
اللقطة التاسعة. الغائب الحاضر، يرويها صديقه الحميم الدكتور أحمد عثمان بابكر (العربي)
اللقطة العاشرة، عاد أسامة للإتحاد السوفيتي في العام 1972 للتحضيرللدكتوراة في علم الآثار مع أستاذه الكبير بتروفسكي مديرمتحف الأرميتاج الشهير. صار صديقا للأسرة كلها. أظن أن الذي روى لي قصة هذه اللقطة الدكتور حافظ عباس. خلاصة القصة أن أسامة اشتبك في ساعة متأخرة من الليل مع شرطي في المحطة الأخيرة لحافلة، بسبب سلوك الشرطي العنصري. أطلق الشرطي رصاصة في الفضاء خلال الإشتباك، فصفع أسامة الشرطي في وجهه. أطلق الشرطي رصاصة أخرى فأتبعها أسامة بصفعة أخرى، بعدها الكلابيش والسجن والمحاكمة. سألت أسامة عن هذه الواقعة وهو في فراش الموت، فقال لي أن سيدة وقور كانت بالحافلة ولم يكن يعرفها هي التي أنقذته. شهدت لصالح أسامة في المحكمة، قالت أنها سكرتيرة الحزب الشيوعي في المنطقة، أنها كانت في الحافلة طوال الرحلة وأنها شهدت الواقعة، ورواية أسامة كانت الأصدق. بريء أسامة وأدين الشرطي.
اللقطة الحادية عشر، أسامة ال workaholic زارني في عطلة في عدن، فطلبت منه ترجمة 25 مقالا كتبها صديقنا الأمريكي Richard Lobban في صحيفة The Daily Worker النيويوركية عن زيارته ومشاهداته قي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. أدهشني أسامة بترجمته الرفيعة وخطه الجميل النظيف الخالي من الكشط. كان يتجول بالنهار- أحيانا – ويسهر طوال الأسبوع حتى الصباح، يستمع للموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز، يدندن مع النغم ويعمل ويعمل ويعمل، بإستمتاع وبإتقان وبلا هوادة.
اللقطة الثانية عشر، أسامة اللبيس. التحق أسامة بعد الدكتوراة بجامعة عدن في العام 1976 محاضرا في التاريخ القديم والآثار. لأسامة قدرة عجيبة على ولوج قلب المجتمع وكسب صداقات حقيقية وعميقة. بعد ست سنوات من عمل مثمر حاز التقديرفاجأني بقراره الإلتحاق بجامعة طرابلس بليبيا. سئمت فصلي المناخ الحار/ حارجدا الذي لا يتفوق على السودان إلا بالرطوبة العالية، هكذا قال لي. أحن للشتاء الروسي القارص ولبس بدل الصوف القيافة وملحقاتها.
اللقطة الثالثة عشر، مدريد العام 1983. أسامة في مقود سيارته في طريقه لعطلة رائعة قضاها في بريطانيا وبلدان أوربية أخرى مع مولانا وحرمه السيدة الفضلى تحية إسحق، على حسابه،هديتة لزواجهما. أعجبته مدريد فأفرغ ما تبقي من دولارات من إستحقاق 6 سنوات في عدن وسنة في ليبيا إيجارا لشقة جميلة بحي أنيق ليكون مقرا لسكنه مع أسرته ومكتبا لشركة أورينتال إنترناشيونال للطباعة والنشر التي ولدت فكرتها لتوها، محتفظا بما يكفي لمصروفات بضعة أشهر، ثم منتظرا ما في الغيب. كانت المغامرة ناجحة تماما. طبع كنموذج تجريبي كتابه “المجتمعات الإشتراكية الطبيعية” وديوان شعر أنيق لصديقه الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي يحوي “أنشودة المطر” للسياب وقصائد أخرى ترجمها البياتي للإنجليزية. حصل بعد ذلك على عطاء لطباعة كتب مدرسية لوزارة التربية والتعليم في عدن، كان كافيا لإنطلاق أورينتال إنترناشيونال.
اللقطة الرابعة عشر في مدريد أيضا، حيث توالت النكبات الشخصية. مولانا الذي إستقبلته كوبر فور عودته من العطلة الرائعة اطلق سراحه ليتوفاه الله بمنزله في السادس من أبريل 1984، بعد أقل من اسبوعين من إطلاق السراح، وقبل عام بالضبط من الإنتفاضة. الدكتورة آمال التي إصطحبت طفليها تهارقا والنجومي (مواليد عدن) للعزاء بأمدرمان، توفي والدها النور حامد قبل تمام أربعين مولانا. إصطحبت معي من عدن الحاجة حرم عبدالرحمن النور لمدريد لتسرية الأحزان عنه، فكان هو الذي سرى عنا. نفس الصداقات والعلاقات والتغلغل في باطن المجتمع، كما في عدن. كل يوم في زيارة لضاحية تاريخية او حديقة عامة أو متحف أو مقابلة لأمر ما….ثم غرامه الجديد، مصارعة الثيران. قررت إيفاد بنتي نجوى للدراسة الجامعية في مدريد، واتفقنا على أن تسكن سكنا داخليا جامعيا لتستفيد من ناحية من وجود أسامة وآمال وليكون لها من ناحية ثانية إستقلالها الذاتي. رفع أسامة سماعة التلفون، ثم زارنا يعد قليل شاب عرفني بأنه مسئول التعليم في الحزب الإشتراكي الإسباني (الحزب الذي صار حاكما فيما بعد، وحتى الآن). قال المسئول أن الداخلية التي وقع عليها إختياري جيدة، لكن عيبها إدارتها الكاثولوكية المتزمتة، خصوصا فيما يتعلق بالتشدد في الفصل بين الأولاد والبنات، فهي من مخلفات فرانكو. قلت هذا بالضبط الذي نبغ. إندهش القائد الإشتراكي لهذا الصنف الشيوعي الرجعي. مسك الختام كان خمسة أيام لا تنسى بالأندلس. قرناطة وقصر الحمراء وإشبلية والمسجد الأموي بقرطبة والأطعمة ذات النكهة العربية، والنوم بالعراء في صحراء الأندلس.
اللقطة الخامسة عشر، برايتون، إنجلترا، أغسطس 1987، مع إيراهيم النور وأسرته، حيث كان يقوم بالتحضير للدكتوراة. أسامة الأكاديمي/ رجل الأعمال الأنيق الواثق من نفسه، الممتلىء قوة وحيوية وشبابا، قادم مع أسرته الرشيقة لتوه من الجزائر التي كان يعمل بجامعتها، إلى جانب تسيير أورينتال إنترناشيونال عبر زيارات متقطعة لمدريد. كتب كثيرة يؤلفها ويعدها للطباعة بنفسه، وأكثر منها لزملائه الأكاديميين الجزائريين والليبيين والييمنيين، في ال pipeline للنشر في أورينتال إنترناشيونال. وربما لو ابتسم الحظ الكتاب الأخضر الذي قال أنه سيغنيه “لى جنا الجنا”. البرنامج المتفق عليه مع آمال كان قضاء العطلة الجامعية بالسودان الذي كان آخر عهده به سجن كوبر سنة 1972، وبعد العطلة العودة للجزائر/ مدريد. بعد مناقشة قصيرة معي قرر أسامة العودة لوظيفته السابقة يالآثار بالخرطوم. إحتجت آمال بأن ذلك لم يكن في الحسبان أبدا، وأنه يقلب خططها ومستقبلها ومستقبل أولادها رأسا على عقب، لكن ما باليد حيلة. وداعا ليبيا والجزائر ومدريد. وداعا أورينتال إنترناشيونال وأحلام الكتاب الأخضر. وداعا – مؤقتا – للإغتراب. ولا أظن أن آمال غفرت لي ذلك حتى الآن.
اللقطة السادسة عشر، وزير الثقافة والإعلام عبدالله محمد أحمد يأمر عند أول زيارة للمتحف الوطني بستر عورة “الأصنام” بالمتحف. أسامة الذي صار مديرا للهيئة القومية للآثار تصدى بشراسة للوزير. يشهد بذلك الملف الخاص بالموضوع في الهيئة. الصحف تتناول القضية، وينهزم الوزير الذي كان يرى في تاريخ السودان السابق للإسلام “عورة”.
اللقطة السابعة عشر، أسامة حاملا، على نفقته الخاصة طبغا، الزاد الضروري لرحلة يومين مع وزير الثقافة وفريق الآثار الفرنسي لمنطقة البجراوية، زيارة عمل رسمية جعل منها أسامة متعة . مدير متحف نيويورك في عشاء تلقائي بسيط في منزل أسامة بأمدرمان. البعثة البولندية أو الروسية أو الهولندية في إفطار أو غداء بمنزل مولانا حينما كان أسامة في أول عهده بمصلحة الآثار. عالم الآثار الفرنسي جاك وزوجته أولا وإبنيهما صارا جزءا من الأسرة يحضرون لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بدعوة أو بدونها. أسامة يتعامل بتلقائية وكرم وعزة نفس أصيلة مع الناس من كل الثقافات والأعراق، فيكسب مودتهم وإحترامهم.
اللقطة الثامنة عشر، أسامة تصحبه أسرته في عطلة يومين مع فريق من علماء الآثار وأسرهم في النيل الأبيض جنوبي خزان جبل الأولياء. القوارب السريعة والتزحلق المائي خلفها، وصيد الأسماك والباربكيو. هؤلاء الناس المتحضرون يحبون الحياة والبهجة ويعرفون كيف يصنعونها، ويجدونها في مواقع بيننا لكنها تغيب عنا تماما. وأسامة متحضر مثلهم، يحب البهجة والحياة ويعرف كيف يصنعها، لكنه مستعد لأن يتخلى عنها كلها في لحظة دعوة الحق، في رمشة عين. إنه نموذج للوحة الرجولة التي أبدعها الشاعر الفكتوري روديارد كبلنج في قصيدته الشهيرة IF التي كنا نحفظها عن ظهر قلب أيام الدراسة الثانوية: If you can dream, but not make dreams your master الخ الخ.
اللقطة التاسعة عشر، أسامة مع أسرته في البيت، يعلم أطفاله كيف يتعلمون في وقت باكر جدا من حياتهم، فيوكل إليهم مهام في سنهم. نظافة أنفسهم، نظافة المائدة ووضعها، غسيل الصحون، التعامل مع الضيوف الخ. أسامة يعين آمال في غسيل الصحون ونظافة البيت والتحضير للماجستير ثم الدكتوراة برغم مشاغل الحياة. وأحيانا أسامة شديد معهم لحد الشراسة. لكن أختنا الكبرى والدة أمال، كريمة الشيخ يوسف ابراهيم النور، كانت تغفر له هذه الشدة: “أسامة قلبه أبيض”، كانت دائما تقول لآمال وللجميع. والتعلم لم يكن في إتجاه واحد. فاروق هو الذي ظل يعلم أسامة خفايا الكمبيوتر والشبكة العنكبوتية حتى أجادها. وفاروق كان، ولا يزال، العقل المنظم لأركماني.
اللقطة العشرون، القاهرة 1982. الحاجة حرم إشتكت من أعراض إنزلاق غضروفي فذهبت بها لعيادة الدكتوربخيت محمد عمر، جراح مشهور من أهلنا المريوماب. وقف على رجليه حينما قدمت له الحاجة حرم، وقبل أن يستمع لشكواها سأل: ألا يزال والدك في السجن؟ أجابت، يخرج ليعود مرة أخرى. قال: أبوك دفعتي. كان أشجعنا. يتقدمنا في كل شيء. شجاع “لامن أهوج”.
اللقطة الحادية والعشرون، آمال وتهارقا والنجومي وفاروق. أسرة متماسكة مستقيمة. لكل منهم شخصيته الحرة المتفردة. والكل يهتم بالشأن العام وبقضايا المجتمع والإنسان. آمال تخصصت في علم النفس. تهارقا فنان، يعمل في المختبرات الطبية ويحضر للدكتوراة على حسابه بجنوب إفريقيا. النجومي طبيب واعد، بدأ التحضير للدراسات العليا. فاروق طالب جامعي في العام قبل الأخير، جيولوجيا جامعة النيلين. التربية معضلة كل أب وأم في كل جيل في كل الثقافات. لكن أظن أن أسامة عرف السر. الأب المالك زمام أمره، الحر، المنطلق من ذاتيته الحرة، الذي يكون مركز الأسرة، الذي يتعامل بمحبة حقيقية ولكن بمبدئية وبحزم، يضع النموذج الذي تتشكل الشخصية الحرة للأم والأبناء والبنات وفقه.
اللقطة الثانية والعشرون، حراسة نيابة أسوان، مطلع نوفمبر 1991. أسامة وحسن بندي مكلبشان بعضهما لبعض بعد الحكم عليهما بالسجن شهرا والغرامة ألف جنيه مصري لكل منهما والترحيل إلى السودان، والتهمة التسلل للحدود المصرية. نقل لي الخبر الأستاذ فاروق أبوعيسى الذي كلف نقيب محامي أسوان بالدفاع عنهما. فاروق حثني على الإٌسراع قبل الترحيل لأن محجوب عثمان الذي دخل الحدود المصرية بنفس الطريقة رحل ولم تشفع له وساطته ولا وساطة محمد الحسن عبدالله يس، رئيس التجمع، فغادرت توا جوا إلى أسوان. التهمة لا أساس لها، فهما عبرا الحدود، كمحجوب، لتسليم نفسيهما لأول نقطة حرس حدود طلبا للجوء بعد تجربة الإعتقال وبيوت الأشباح والفصل التعسفي في السودان. إستنجد أسامة بمديرالآثار المصرية الذي لم يعر الأمر، أو لم يكن بوسعه أن يعره إهتماما. سهل ذكر إسم فاروق مقابلاتي للمسئولين. وكيل النيابة من دراو، قال لي بفخر أن فاروق أبوعيسى “من عندنا”. بعد قرابة خمسة أيام تخللهما التحقيق في جهاز الأمن أقتيد السجينان مكلبشين أحدهما للآخر إلى جوازات الشلال حيث ختم على جوازيهما بالوصول وإذن الإقامة، ثم أطلاق السراح، ربما إعتبارا لجواز أسامة الخاص بصفته المدير السابق للهيئة السودانية العامة للآثار، ولمكانة فاروق أبوعيسى. أما بالنسبة لغرامة الألفي جنيه، “فاللي يدخل الخزينة طبعا ما يطلعش”.
اللقطة الثالثة والعشرون، حي عابدين بالقاهرة. أطلعت أسامة وحسن بندي في رحلة قطار أسوان على مسودة ورقة كتبتها، كانت العدد الأول والأخير من نشرة بعنوان نصر، إسم الحي الذي كنت أقيم فيه بالقاهرة، نشرها أيضا الدكتور حيدر إبراهيم ضمن مقالات في كتيب بعنوان ما البديل؟ الورقة التي تم التداول حولها على نطاق واسع كانت تقييما لحالة المعارضة السودانية بعد أن إنضمت الحركة الشعبية للتجمع الوطني الديمقراطي، إذ لم يعد تجاوز العمل العسكري في الشمال ممكنا. طرحت، كنقاط للحوار، أن يكون العمل العسكري تحت قيادة سياسية مدنية في الداخل، أن تكون الغاية منه توفير المناخ المؤاتي للإنتفاضة، وأن يتيح الوصول لحكم ديمقراطي تعددي. القيادة الشرعية التي عرضت عليها الورقة قالت بوضوح أن الجيش السوداني قاعدة إنطلاقها، وأنها لن تقوم بعمل عسكري ضده. العميد عبدالعزيز حالد، الذي كان حتى ذلك الوقت جزءا من القيادة الشرعية، بدأ يطرح مستقلا مشروعه للعمل العسكري. أسامة تبنى ورقة نصر وبدأ بتجنيد المفصولين الآثاريين، وفي طليعتهم صديقه حسن بندي. إستضافنا في أحد تلك الأيام موظف دولي كبير، طرح عليه أسامة المشروع فتبرع فورا بخمسمائة دولار، وتبرع آخرون لاحقا بسخاء. توصل أسامة إلى تفاهم مع العميد عبدالعزيز خالد، وقام بتأجير شقتين في حي عابدين أسكن فيهما مجنديه، وشرع في برنامج تدريب للعمل العسكري. جيش أسامة، كما كان يسميه الأستاذ التجاني الطيب. كان واضحا منذ البداية أن للعميد عبدالعزيزخالد مشروعه الخاص والقوه المدنية التي تسانده، وأنه الأكثر تأهيلا. وسرعان ما انسحب أسامة وحسن من المشروع، أسامة التحق بجامعة طرابلس بليبيا، وحسن بالقيادة الشرعية التي أوفدته ليقيم بأسمرا. أما جيش أسامة، فكان النواة التي بنى فوقها العميد عبدالعزيز خالد قوته العسكرية.
اللقطة الرابعة والعشرون، العميد الهادي بشرى الذي كان يقيم بشقة القيادة الشرعية المجاورة لي في مدينة نصر بادر بمقابلتي ليبلغني أن “القيادة” زارت الولايات المتحدة مؤخرا، وأن الأمريكان طلبوا منهم نعيين سفير مقيم لهم في واشنطون، وأن إختيارهم وقع على أسامة، وأنهم قادرون على مقابلة النفقات، وأنه يطلب مني إبلاغ أسامة للتأهب للمهمة. أبلغت أسامة تلفوتيا، فرفض العرض فورا، بصورة قاطعة، وبلا نقاش. قال أنه يجد نفسه تماما في العمل الأكاديمي ولا يود تغييره.
اللقطة الخامسة والعشرون، أسامة يصل الخرطوم في الرابع من أغسطس 2005 إبان الأحداث التي أعقبت حادث طائرة قرنق المشئوم، والموقف يتفجر. أسامة شعلة من النشاط. العديد من المقالات والمحاضرات واللقاءات، ختمها برحلة إلى البجراوية مع طلاب الآثار بجامعة الخرطوم‘ عاد بعدها لليبيا بتاريخ 20 سبتمبر 2005.
اللقطة السادسة والعشرون، تقرأها (أو قرأتها) الدكتورة إنتصار صغيرون، رئيس قسم الآثار عميد كلية الآداب بجامعة الخرطوم. الدكتورة إنتصار التي كانت أول من إستجاب لمشروع الإحتفاء بذكرى أسامة قالت أنها لم تتعرف عليه إلا من خلال موقعه أركماني الذي صار مرجعا أساسيا لطالبات وطلاب الآثار والتاريخ القديم.
ثمانية لقطات برزخية لأسامة
اللقطة السابعة والعشرون، أسامة يبلغني تلفونيا بعد ثلاثة أشهر فقط من مغادرته للخرطوم بالورم الخبيث في اللثة ( 26 ديسمبر 2005) وبنصيحة الأطباء بليبيا بالإستئصال. أخطرت صديق الأسرة نقيب الأطباء السودانيين في لندن الدكتور أحمد عباس الذي لا يضن أبدا بوضع خبرته وعلاقاته لمصلحة الجميع، وأبلغت أسامة الذي أصر على إجراء العملية بالقاهرة. بالفعل تم إستئصال الورم في مستشفى السلام بالمعادي بتاريخ 8 ينابر 2006. تفاؤل أسامة وإنشراحه بلا حدود.
اللقطة الثامنة والعشرون، الورم يرتجع. يقوم نفس الحراح بإستئصال نصف اللسان مع جزء من عظام الفك السفلي بتاريخ 3 سبتمبر 2006 في عملية استغرقت 5 ساعات بنفس المستشفي. نفس التفاؤل والإنشراح. لم أر أسامة في حياتي مهموما بالمستقبل ويعمل لأجله مثلما صار يعمل وشبح الموت يخيم أمامه. زاره بعد العملية صديقه محمود صالح ومعه الأستاذ الياس فتح الرحمن ليبلغه قراره بطباعة ونشر كل كتبه السابقة واللاحقة على نفقته، عبر مركز عبدالكريم ميرغني. هذان الشبلان من ذينك الأسدين. ال lap-top تنبعث منه أنغام الجاز والموسيقى الكلاسيكية الهادئة طوال اليوم، في سرير المستشفى، في الشقة معي أو مع ابراهيم النور بالقاهرة، أو مع أسرته بليبيا. ينظم قطع المتحف الإلكتروني المفتوح، يحرر كوش الجديدة التي حلت محل المجلة الرسمية التي توقفت عن الصدور، يترجم تقارير البعثات الآثارية، يقدم عروض لها وللكتب، يدير الحوارات، يعمل ويعمل ويعمل بلا إنقطاع وبلا هوادة، ويراجع برضى وإعتداد أرقام فتح موقع أركماني في الشبكة العنكبوتية التي بلغت مئات الآلاف. أسامة حقيقة هيئة قومية متحركة للآثار.
اللقطة التاسعة والعشرون، الورم ينتشر، ولم يعد هنالك ما يرجى أن يقدمه مستشفى السلام بالقاهرة. الدكتور أحمد عباس الذي حولت له أخر التحليلات والصور يوصي بحضور أسامة للندن فورا، وأسامة يتلكأ بسبب إلتزاماته الأكاديمية وتكلفة العلاج وأشياء أخرى. إبنه النجومي، طالب نهائي الطب وقتها، قال له حينما أعياه التلكؤ: أقول لك يا أبي، بصراحة، أنت جاهل علميا. أخيرا أعطى أسامة الذي استنفد آخر مدخرات عمله الأكاديمي الضوء الأخضر لبيع قطعة أرض سكنية وأخرى زراعية في الجريف ورثهما عن أبيه، فتجمع له ما يكفي لمواصلة العلاج وزيادة. حضر للقاهرة فانشغل بالتأثيث الفني الجميل لشقة فاخرة إشتراها في الطابق الثاني عشر لعمارة بالمعادي، ترى الأهرامات وأبو الهول وسقارة والنيل من جميع شبابيكها وشرفاتها. وصلت القاهرة مع حرم في مساء الثلاثاء السادس عشر من أبريل، فاستقبلنا أسامة مع أبراهيم النور. توفي عبدالرحمن شقيق أمال الأكبر في أمدرمان بينما كنا في طريقنا إلى مطار الخرطوم، فلحقت رجاء زوجة أبراهيم النور بآمال للعزاء بنفس الطائرة التي جئنا بها. أسامة الذي تمكن منه الداء يصر على قيادة السيارة بنفسه في زحام القاهرة، متوقفا في مواقع صعبة لإستلام بعض لوازم الشقة. كانت شقة أنيقة أثثها تأثيثا فنيا رائعا. ومع أنغام الجاز الدافئة المنبعثة من الlap-top يصر أسامة على إطلاعي قبل النوم على آخر مقتننيات المتحف الإلكتروني في موقعه أركماني. كانت تلك الليلة التي إستضافنا فيها أسامة ليلته الأولى في الشقة. واصل أسامة في اليوم التالي بعض الأعمال، لكن رهق اليوم السابق تبدى فيه. وافق على الإنتقال إلى مستشفى السلام لتعاطي مخففات الألم تحت إشراف طبي، وقضيت معه الليله. تركته فجر اليوم التالي – الخميس – لقضاء عمل ما، ووجدته حينما عدت خارجا من مكتب مدير المستشفى في حالة هياج شديد، والمدير يتبعه معتذرا. فقد إنقضت ساعات على الموعد المحدد للمسكن، وأسامة المتصبر على الألم يدوس الجرس المخصص لذلك بإستمرار، ولا أحد يستجيب. في تلك اللحطة فقط أعطى أسامة الضوء الأخضرلترتيب السفر إلى لندن. أبراهيم النور إتصل بالقنصلية البريطانية التي وافقت مشكورة، بعد فوات الموعد الرسمي، على النظر في طلبنا، ووافقت عليه بعد المقابلة. تحركنا تحركا محموما فيما تبقى من يوم الخميس لإكمال الإجراءات مع الجوازات والبنوك ركات الطيران، للمغادرة صباح الجمعة 19 أبريل. وتلك كانت ليله أسامة الأخيرة بشقة المعادي.
اللقطة الثلاثون، إستقبلنا في المطار الدكتور خليل الضرير الذي كان يقضي عطلته في لندن، وإبني عادل الذي جاء من دندي بأسكتلندا، وإبن أختي محمد الباقر الذي جاء من أكسفورد. إنتقلنا من المطار إلى Princess Grace Hospital الذي حدده لنا الدكتور أحمد عباس. حضر أحمد في نفس المساء وبصحبته الجراح، وأجريت الفحوصات اللازمة، كما تمت دراسة القرص الإلكتروني للعملبة التي أجريت في القاهرة. كان رأي الجراح أن فرص نجاح العملية لايتعدى 10%، فقال أسامة أنه يقبل هذه المغامرة إن لم يكن هنالك خطر عاهة مستديمة، لكن الجراح أكد أن إحتمال الشلل المستديم هو الأكبر، فصرف أسامة النظر عن هذا الخيار بلا تردد. وقال الطبيب الكيماوي أن علاجه ليس سوى مخفف للألم، وأنه يمنحه حوالي شهرين من العمربألم مخفف. كان ذلك صباح الإثنين 22 مايو. شهران فقط تبقيا من عمر أسامة، بألم مخفف. palliative treatment كما قال الطبيب الكيماوي. ذلك كان تاريخ دخول أسامة في البرزخ، مرحلة ما بين الموت والنشور، إلى أن توفاه الله،. إصطحبنا الدكتور عمر النجيب لمنزله في ضاحية من ضواحي لندن ريثما يتم تأجير مسكن لنا قرب المستشفى. رحلنا لذلك المسكن، ومعنا أسامة الذي كان منتظرا خلو موقع للعلاج الكيماوي ب Harley Street Clinic، وكذلك آمال التي لحقت بنا من السودان.
اللقطة واحد وثلاثون، أسامة وخطة نابليون بونابارت: الحرب من أجل النصر المؤزر رغم توقع الهزيمة الساحقة في أي لحظة ومنعرج. عنها وعن المشاعر المتأججة التي انثالت من كل فج عميق، وعن تفاعل أسامة، إقرأ رسالة عبدالسلام نورالدين بالعنوان أعلاه، لعبدالوهاب همت وبشرى الفاضل والآخرين، في سودانيز أون لاين، وقد أعيد نشرها في كتاب ملكوت الضمير الذي أصدرته دار مدارك لهذه المناسبة.
اللقطة إثنان وثلاثون، أسامة كشف عنه غطاؤه فصاربصره حديدا. موسيقى الجاز الدافئة والموسيقى الكلاسيكية تنبعث من ال lap-topوهو يعمل لأجل مستقبله الذي هو آخرته، مكملا مقترح تمويل أركماني، مناقشا د.محمد سليمان وراشد سيدأحمد وصلاح حسن وآخرين، مجترا ذكريات موسكو مع د. أحمد الطيب، مدردشا مع الطيب أبوجديري والدكتور محمد أحمد محمود، معبرا عن إٌمتنانه لكوكبة الأطباء الذين خفوا مع أحمد عباس لنجدته والإستفسار عن صحته: علي زايد وأبوقصيصة وحاتم وأمير علي حسن وصلاح محمد عمر وصالح خلف والآخرين، مطمئنا تهارقا والنجومي وفاروق وبقية الأهل والأصدقاء الذين كانوا يهاتفونه، حاثا آمال بصرامة وحسم على الرضى بالمكتوب، مستقبلا ومودعا الوداع الأخير. وبنفس البشاشة والألق يقرأ “النعي” الذي كتبه عبدالسلام نور الدين و”النعي” الذي كتبه الآخرون. والأصدقاء يتقاطرون.
اللقطة ثلاثة وثلاثون، الحادي عشر من مايو. توفر المكان أخيرا للعلاج الكيماوي، لكن إنخفاضا حادا في البوتاسيوم والصوديوم إستدعى المعالجة. أسامة الذي دخل ال clinic ماشيا على قدميه، صار جسده حين بدئ التطبيب “أمية” تلتقي عندها تحويلات خطوط الأنابيب الطبية، كما كتب عبدالسلام نور الدين. إنصرف الدكاترة مصطفى خوجلي وعمر النجيب وخليل الضرير ومجدي سليمان عباس، إبن عمة آمال، وانصرفت مع محمدالباقر بعد منتصف الليل لنترك آمال وحدها مع أسامة. صورت في صباح اليوم التالي مع محمد الباقر في مقهى الإنترنت ببيكر ستريت النداء الصادرفي سودانيز اونلاين، والذي جاء فيه إلتزام أطراف عدة بدعم وضمان إستمرارية أركماني، كونها وصية أسامة، فكان ذلك آخرنعي يطلع عليه أسامة. المشهد كان رهيبا حينما ولجنا الغرفة. أسامة يهب في لحظة يقاتل شبح الموت بشراسة، غير مكترث “للأمية” المشدود إليها، في معركة حقيقية، بكلتا يديه وكل جسمه، وطاقم المستشفى يحاول الإمساك به. أخيرا خارت قواه فتمدد مجهدا في السرير. قال الطاقم الطبي أن النزع الأخير يكون هكذا أحيانا. عرضت النداء على أسامة فتمعن فيه جيدا، وأومأ مؤكدا على الوصية، ثم تناول القلم من تحت الوسادة وكتب بيد ثابتة أن “البرنامج الأزلي أجلس على هذا المقعد المفضل”، ورنا ببصره إلى آمال، “من يعتقد أنه أقرب الناس إلى قلبي، والذين أود أن يكونوا بقربي عند مفارقة الحياة”. ثم تمتم بكلمات، الإبتسامة تعلو شفتيه والطمأنينة والإسترخاء يسري في جسده كله. غادرت مع محمد الباقر لنترك أسامة مع آمال وحدهما، لنلحق بخليل الضرير ومجدي سليمان ومصطفى خوجلي الذين كانوا بالغرفة المجاورة. لكن ما أن خرجنا حتى صرخت آمال “أسامة مات”، فعدنا بينما كان الممرضون ينزعون أنابيب “الأمية” وخطوطها عن جسده الطاهر. لحق بنا بعد قليل الدكتور عمر النجيب وعادل فاروق الذي غادرنا في اليوم قبل الأخير إلى دندي. تولى المواطن الشهم “عثمان سفارة” الإجراءات المعهودة. خرجت آمال مع مجدي لمنزله حيث أقامت الأسر السودانية مأتما، وتلقينا نحن ومعنا من اقارب أسامة ابراهيم حسن العمدة والدكتور أحمد زاكي الدين وآخرين العزاء بالشقة التي كنا نقيم فيها. ثم أقيم عزاء بمنزل المهنس أحمد عبدالله بحي نوتنج هل تقاطر له السودانيون من جميع أنحاء المملكة المتحدة. في مسجد لندن أقيمت الصلاة على الجثمان عصر اليوم التالي، أمها السفير وأسرة السفارة وحشد كبير من الأسر السودانية.
اللقطة أربعة وثلاثون، غادرنا مع الجثمان إلى الخرطوم مساء 15 مايو. الإستقبال الحزين والصلاة ثم الدفن في مقابر المحس بالخرطوم بحري وختم العزاء. سليمان عبدالحميد الذي أهال آخر كومة تراب على قبر أسامة أعلن بصوت جهوري، بينما كنت أقول كلمة الوداع الأخير: “هنا يرقد آخر ملوك النوبة، دعوه يرحل في سلام”.
اللقطة الخامسة والثلاثون، العلامة محمد إقبال في ختام الفصل الرابع من كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، عن “النفس الإنسانية – حريتها وخلودها”، ص145 – 146، دار الهداية، القاهرة،2000م، ترجمة عباس محمود، مراجعة عبدالعزيز المراغي ومهدي علام:
“ونحن إذا تناولنا الأمر (أمر النشأة الأخرى)، لا نقدر على أن نقول أكثر من أن ماضي تاريخ الإنسان بجعل من المستبعد أن تنتهي سيرته بفناء بدنه. على أن القرآن يرى أن البعث يكسب الإنسان حدة في البصر، يرى بها مصيره الذي كسبه معلقا بعنقه. أما الجنة والنار فهما حالتان لا مكانان. ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني، أي لصفة أو حال. فالنار في تعبير القرآن هي “نار الله الموقدة*التي تضطلع على الأفئدة”. هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنسانا. أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الإنحلال”.
لقد كدح أسامة طوال حياته، بخير العمل، إلى ربه كدحا ليلاقيه. ألا رحمه الله، وجعل الجنة مثواه.

في ذكرى د. أسامة عبدالرحمن النور (1942-2007) بالمتحف القومي، 2- 10- 2010

التعليقات مغلقة.