وَهْمُ التَّسْويَة!

وَهْمُ التَّسْويَة!
  • 07 مايو 2022
  • لا توجد تعليقات

كمال الجزولي

روزنامة الأسبوع
الإثنين
عن مبادرة الجَّبهة الثَّوريَّة افترض تجمُّع المهنيِّين السُّودانيِّين، جدلاً، صحَّة ذهابها إلى أن العسكريِّين يمكن أن يكونوا شركاء للمدنيِّين خلال الفترة الانتقاليَّة. لكنه وجَّه انتقاداً حادَّاً للمبادرة، كونها لم توضِّح مَن هم العسكريُّون المعنيُّون بهذه الشَّراكة، أهُم الذين انقلبوا، مع البرهان، على التَّحوُّل الدِّيموقراطي في 25 أكتوبر، أم غيرهم؟! بعبارة أخرى طَرَق تجمُّع المهنيِّين مسمار القضيَّة على أمِّ رأسه، مِمَّا لم تنتبه إليه مبادرة الجَّبهة الثَّوريَّة، أو تغافلت عنه، وذلك بتمييزه بين كبار العسكريِّين الذين يمثِّلون الشَّريحة الطَّبقيَّة العليا من قادة الجَّيش، مِمَّن يشاركون في حلب ضروع الاقتصاد الوطني، فهم جزء لا يتجزَّأ من الطبقات المسيطرة، وبين صغار الضُّباط، وسواد الجُّنود مِمَّن لا يصيبون سوى الفتات من الدَّخل القومي، فتتطابق مصالحهم مع مصالح الطَّبقات الشَّعبيَّة المسحوقة، ويمثِّلون، إلى ذلك، حطب النَّار الذي يحترق، صباح مساء، في طاعة أوامر تلك الشَّريحة، وتنفيذ تعليماتها!
الثُّلاثاء
أورد الصَّديق سيف الدِّين أبَّارو، على قائمة عابدين Abdinlist، المقال التَّالي الذي ردَِّ به المرحوم النَّاظر إبراهيم منعم منصور، في 3 أبريل 2020م، على مقالين لدكتور الشَّفيع خضر دعا فيهما للمصالحة مع الاسلاميِّين، وفي ما يلي مقال النَّاظر بتصرُّف:
الحروب مصيرها إلى سلام. وفي السُّودان انتهت، بالمصالحة، كثير من الخلافات مع حركات مسلحة كان سببها الشُّعور «بانعدام العدالة» في مجالي الثَّروة والسُّلطة. وفي عهد الإنقاذ اتَّخذ «الظلم» أشكالاً متعدِّدة تصبُّ في جحد حقوقنا «كمواطنين»؛ ومن هذه الأشكال:
1- «التَّمكين»: كدرجة من الظلم أقسى من «الموت» عبَّر عنها صدَّام حسين، بقوله «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق»! كان ظلم الإنقاذ بالآلاف، فعمَّ البلاء كلَّ السُّودان.
2- الاعتقال: ليس لأسابيع أو شهور، وإنَّما لسنوات طوال!
3- التَّعذيب: لإذلال البشر، وقد تدرَّب ممارسوه في معاهد لإهانة الإنسان الذي كرمه الله: بالضَّرب، والصَّعق، والتَّجويع، وعدم العلاج المفضي إلى الموت البطيء .. ولكن إرادة الله غالبة!
4- إنتهاك حرمات البيوت والأسر: كأنهم ليست لديهم أمهات وأخوات وزوجات!
5- اغتصاب النِّساء، بل و .. والرِّجال: ولا أفيض فيه تقزُّزاً!
6- التَّدمير بالحرق والقتل والنَّهب: في دارفور، وتهجير النَّاس، وحراستهم في زرائب كالسَّوام لسنين عددا، لا يخرجون حتَّى وهم بحراسة دوليَّة تحميهم من حكومة بلادهم وجنودها النِّظاميِّين، وغير النظاميِّين، وبالمثل فيما أطلق عليه «المنطقتين: جنوب كردفان والنِّيل الأزرق»، لا لسبب باعتراف رأس الدَّولة نفسه، وباعترافه، أيضاً، بارتكاب «الجَّريمة الأخرى» التي فاخر بها تفاخراً دنيئاً، ولا نتعرَّض لها إكراماً للحرائر!
7- تدمير الشَّباب باستيراد حاويات المخدِّرات: وما كان لذلك أن يحدث دون حماية السُّلطة، بل دون قيام السُّلطة به؛ فهي، للآن، لم تصل إلى من جلب هذه الحاويات للشَّباب!
8- تدمير الحركة النقابيَّة والاتحادات الفئويَّة: بتاريخها الناصع في تحقيق الاستقلال، وتفتيت الأحزاب بالمناصب والرَّشاوي، وتقسيم الأقاليم إلى كيانات صغيرة!
9- تدمير الوطن: بإعادة القبليَّة، والإثنيَّة، والجِّهويَّة البغيضة.
أخي الشَّفيع، ما أوردت بعض من كثير، فلم أذكر لك، وأنت الطبيب، الأدوية، والمحاليل المضروبة، ولا البنزين ذا الرَّائحة التي فضحت مستورديه! ولم أتعرض للجُّرم الأكبر في تاريخ السُّودان، إن لم يكن في تاريخ الإنسانيَّة: «فضِّ الاعتصام» قتلاً، وحرقاً، واغتصاباً، وإغراقاً في النِّيل، وإخفاءً قسريَّاً للآدميين: جرائم لم يتمَّ حصرها، ولا حصر مرتكبيها، بل و«جنازات» لم تدفن، أو «يُرفع فراشها»، بعد!
الحديث عن المصالحة في هذه الظروف يُنسى مشاعر مَنْ دمُه ما يزال ينزفُ، ولا يجد العلاج، ومَنْ لا يُعرف له مكان، حيَّاً أم ميِّتاً، بينما لا يزال المتآمرون يهدِّدون، ويسخرون، ولا يشبه ما يقومون به غير الوفود تأتي في «سبوع» الوفاة، فيظنُّهم أهل الوجعة جاءوا للتَّعزية، لكن سرعان ما يتَّكشَّف أنهم حضروا ليخطبوا الأرملة! وهل تعلم، أخي الشَّفيع، أسباب تحطيم ما بناه «الكتابيُّون والمسلمون» لتوفير العيش الكريم لأهل السُّودان؟! طبعاً أصبح الحديث مملاً، لكنه حيٌ في القلوب «مشروع الجزيرة – السِّكَّة حديد – النَّقل النَّهري – النَّقل الجَّوِّي – الخدمة المدنيَّة – المدارس القوميَّة – بخت الرِّضا – الحكم الاتِّحادي – النقابات والاتِّحادات – القوَّات النِّظاميَّة – القضاء»، و .. ما تعرفه أكثر منِّي!
إذا ضُمِّدت الجِّراح، و«رُفع الفراش»، وسُوِّيت الظلامات، وهدأت النُّفوس، ونزع الله «الثأر» من القلوب، فإن الروابط الأسريَّة، والجِّهويَّة، والنَّوازع الدِّينيَّة «بألا يهجر المسلم أخاه ، أو لا يدخل الجَّنَّة قاطع رحم» ستساعدنا على قبول بعضنا البعض؛ وعندئذٍ، وفي التَّوقيت الإنساني المناسب، سنستقبل الوفود!
أمَّا من دمَّروا السُّودان بالفساد والإفساد، فكريَّاً وأيدولوجيَّاً، بإصرار وعمد، وأسلوب مُتَدرَّب عليه، فسيصعب، إن لم يكن يستحيل، ان يتقبَّلهم الذين يعملون، الآن، على إعادة البناء. فالجرثومة التَّدميريَّة في دواخلهم لا تموت، بل تنمو دواماً، وتعمل بنفس الرُّوح، كلَّ يوم، وكلَّ ساعة، على خلق الأزمات، بمعاول الهدم، في تحدٍّ يتَّخذ من مناخ «الحريَّة» و«العدالة البطيئة» تربة للتَّخريب!
لا أفهم كيف يمكن أن يعود ذوو الفكر التَّدميري للمشاركة في إعادة بناء ما هدموا! إذ أن الفكر الذي أحدث هذا الخراب يعشعش في عقولهم وقلوبهم، فيعتبرون ما قاموا به جزءاً من العقيدة، وجهاداً يُثابون عليه، وهذا ما يدعوني للتَّشكُّك في موضوع الارتباط، بل والخضوع لأجندة خارجية، إقليميَّة أو عالميَّة.
لقد كتب العقَّاد، في ثلاثينات القرن الماضي، مقالاً عن ارتباط حسن البنَّا بالماسونيَّة العالميَّة، وعمَّن أرسلوه وأسرته من المغرب العربي إلى مصر، وعن القنصليَّة البريطانيَّة التي دفعت له، في مدينة الإسماعيليَّة، 500 جنيهاً، تساوي اليوم مليارات، مساهمة في تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين»! ولم ينف أحد تلك المعلومة أو يعلِّق عليها. كما لم ينف أحد أو يعلق على الاتِّهام الذي وجِّه، في سنوات الإنقاذ الأخيرة، لارتباط أحد أعمدتها بالماسونيَّة العالميَّة، وتعميده في إثيوبيا على يد أحد كبار رجال الطَّائفة، وقد كان أستاذاً له في إحدى المراحل التَّعليميَّة.
وإذن، فليس من الحكمة أو المصلحة أن يشمل التَّسامح «الوطني/القومي» مَن لهم ارتباطات «بتنظيمات عالميَّة» ماسونيَّة، أو دينيَّة أو غيرها. فالذين ليست لديهم ولاءات (وطنيَّة/قوميَّة) لا يُعتمد عليهم في بناء الوطن، وسيظلون خارجه مهما كانت الظروف، إذ أنه عندما يجدُّ الجِّد سينحازون «للتنظيم الدَّولي» الفلاني أو العلَّاني.
عليه، ما لم يتم الوصول إلى نتائج ترتضيها النُّفوس والقلوب حول المصائب التي خلفها الإنقاذيُّون، لن يجد «التَّسامح» طريقه إلى العلاقات الوطنيَّة. لقد اختاروا، أصلاً، طريق الدَّمار، منذ البداية، فليسيروا فيه!
الأربعاء
لاحظ الكاتب الصَّحفي اللمَّاح محمَّد عبد الماجد أن حميدتي يكاد يسيطر على أغلب الملفَّات، داخل وخارج البلاد، بينما لا يجد أبو القاسم برطم، عضو مجلس السَّيادة الانقلابي، ما يفعل سوى تنظيم إفطار جماعي لأبناء الإقليم الشَّمالي، دون أن يحظى بقبول المكوِّن العسكري (!) كما لا يجد د. عبد الباقي عبد القادر، عضو المجلس الآخر، ما يفعل غير تشكيل لجنة لدفن الجُّثث المتراكمة بثلاجات المشارح، دون أن يحفل بمن دُفنوا أحياء!
الخميس
في 21 فبراير 2022م، كتبت د. أماني الطويل، مستشارة «مركز الأهرام للدِّراسات السِّياسيَّة والاستراتيجيَّة»، والمقرَّبة من الحكومة والمخابرات المصريَّة، حول الملامح المستقبليَّة للأزمة السُّودانية الرَّاهنة، والمصير السِّياسي لقائد الجَّيش، ورئيس مجلس السَّيادة الانقلابي، الفريق أوَّل عبد الفتَّاح البرهان، ونائبه قائد قوَّات «الدَّعم السَّريع» محمَّد حمدان دقلو «حميدتي»، تقول إن المتغيِّرات الثَّلاثة المتمثِّلة في انقلاب 25 أكتوبر، واستقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وإصرار الشَّارع على المطالبة بحكم مدني لا شراكة فيه مع العسكريِّين، فرضت واقعاً جديداً يتَّسم بالمواجهة المفتوحة بين المكوِّن العسكري في المجلس، وبين القوى السِّياسيَّة والشَّبابيَّة في الشَّارع. وأوَّل هذه الملامح أن مستقبل البرهان أصبح على المحك، بعد أن أضحى، شخصيَّاً، الهدف الأوَّل للثُّوَّار، تحت شعار «البرهان ضدَّ السُّودان»، في وسائل التَّواصل الاجتماعي، كما وفي الشَّوارع التي عادت إلى سيرة غليانها الأوَّل في ديسمبر 2018م والنصف الأول من 2019م، وسط تلازم اتِّهامه بخيانة الشَّريك المدني، وإجهاض العمليَّة الانتقاليَّة، مع تصاعد احتمال اختفائه، تماماً، من المشهد. وفي السِّياق يتفاقم التَّباعد بينه وبين قوى إقليميَّة ودوليَّة ما تنفكُّ تحمِّله كامل المسؤوليَّة عن الإدارة الخاطئة للأزمة، والتَّعجُل في إجراءات الانقلاب، ومن ثمَّ تعقيد المشهد السِّياسي، بدلاً من احتوائه.
أمَّا بالنِّسبة لنائبه «حميدتي» فإن المستشارة الاستراتيجيَّة ترى أن عليه التَّحلِّى بكثير من الحنكة لمواجهة تحدِّيات جدِّيَّة ستكون بانتظاره حال الرَّحيل المتوقَّع للبرهان. ففضلاً عن مغبَّة تغيير ولائه لنظام البشير، ودعمه لثورة ديسمبر 2018م، ثمَّ خسارته لهذه الثَّورة بانقلابه عليها، وتحالفه مع البرهان في انقلاب 25 أكتوبر 2021م، فإن استمرار ولاء قواته ذاتها له صار مشكوكا فيه، بالنظر إلى ثلاثة عوامل:
(1) أن تغيير مواقفه جعل قواته هذه غير مطمئنَّة لمستقبلها معه، في ظلِّ استهدافها من جانب بعض القوى السِّياسيَّة، لا سيَّما وأن من يحاربون منها في اليمن قطاع صغير بالمقارنة مع قوامها الكلي الذي يربو على 100 ألف مقاتل تتحمَّل موازنة البلاد العامَّة رواتبهم!
(2) أن عمه موسى هلال الذي سبق لحميدتي أن انقلب عليه لصالح البشير، بات يملك نفوذا أخلاقيَّا وعاطفيا علي جزء كبير من هذه القوَّات وسط قبيلتهم «المحاميد»، وهو قادر على تفعيل هذا العامل في غير صالح حميدتي في هذه المرحلة الحرجة.
(3) أن على حميدتي أن يتحسَّب للحفاظ على ثروته الطائلة، حيث لا يبدو ممكناً الحفاظ عليها وعلى السُّلطة معاً في حال رحيل البرهان، مع التَّحفُّظات الكبيرة من الجَّيش الرَّسمي للبلاد على حميدتي نفسه، بينما يمكن لهذا الجَّيش استيعاب قوَّات الرَّجل تماماً في صفوفه، خصوصاً أن ذلك مرحَّب به في إطار سلام جوبا، وترتيباته الأمنيَّة!
وهكذا، إذا حدث واختار حميدتي اللعب بالنَّار، في مواجهة الجَّيش الرَّسمي الذي تضرَّرت بعض مستوياته العليا الموالية للجَّبهة الإسلاميَّة بانقلاب حميدتي علي البشير، فهذا إنَّما يرشِّح للانفجار حرباً أهليَّة متعدِّدة الأطراف، حيث يُتوقَّع أن تنخرط الحركات الدَّارفوريَّة المسلحة في دعم الجَّيش الرَّسمي حفاظا على مصالحها من ناحية، ولاعتبارات عرقيَّة من ناحية أخرى. ومع هذه الفوضى لن يستطيع حلفاء حميدتي الإقليميِّين إنقاذه على أي نحو! وفي السِّياق، فإن التَّمترس في المواقف قابل للاستمرار، خوفاً من عقاب منتظر من المدنيين، وفاءً لشهداء الثَّورة في مراحلها المختلفة. كما أن خيانة العهود، بانقلاب أكتوبر الذي أفضى لعدم تسليم رئاسة المجلس السَّيادي للمكوِّن المدني، كما كان ينبغي طبقا للوثيقة الدُّستوريَّة، ساهمت في أن تكون ثمَّة مصداقيَّة للأطروحات القائلة بألا أمان للمكوِّن العسكري. وهي الأطروحات التي تخوِّن قبول قوى الحريَّة والتَّغيير، في أغسطس 2019م، الشَّراكة مع هذا المكوِّن العسكري في السُّلطة الانتقاليَّة. من ثمَّ، تضاعفت في السَّاحة، برأي د. الطَّويل، المواقف المتَّسقة مع الأطروحات المذكورة، ترميماً للشَّرف السٍّياسي، خصوصاً بإزاء شباب المقاومة الذين يقدِّمون، يوماً بعد يوم، أرتالاً من الشُّهداء، وهو ما يجعل من احتمال القبول بوهم التَّسوية السِّياسيَّة المطروحة محض وهم!
الجُّمعة
خلال تسلمه، بقاعة الصَّداقة بالخرطوم، ما يُسمَّى بـ «الوثيقة التَّوافقيَّة لإدارة المرحلة الانتقاليَّة»، سدَّد مالك عقار، رئيس «الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان»، ورئيس «لجنة الحوار والتَّواصل مع القوى السِّياسيَّة» بمجلس السَّيادة الانقلابي، نقداً غريباً ومريراً لقوى المعارضة، متَّهماً إيَّاها بـ «الاصطفاف أمام السَّفارات لتقديم الشَّكاوى ضدَّ البلاد، مطالبين بالتَّدخُّل الخارجي فيها، وتوقيع العقوبات عليها، لحلِّ الأزمات التي تعاني منها»! مصدر الغرابة والمرارة، هنا، أن مالكاً يبدو كمن كان يُضمر «اعجاباً خفيَّاً» بنفس وصف البشير لنفس المعارضة، شاملة حركته نفسها، بـ «معارضة الفنادق»، لكنه ظلَّ يكتم إعجابه ذاك حتَّى صار عضواً بمجلس السَّيادة الانقلابي! ترى ما رأي ياسر عرمان!
السَّبت
رغم وثيقة عبد الخالق عالية القيمة، والموسومة بـ «إصلاح الخطأ في العمل بين الجَّماهير»، ما يزال الحزب الشِّيوعي السُّوداني يجابه، كسائر التَّيَّارات الماركسيَّة في المنطقة والعالم، مشكلات جمَّة، من أبرزها أن معظم جهوده، برغم فداحة تضحياته تحت سنابك قمع الأنظمة الشُّموليَّة، ما تنفكُّ تتركَّز على شكل الخطابات المطوَّلة، إمَّا في شكل بيانات وخطب مؤسَّسيَّة، أو في شكل دراسات ومقالات ينشرها الكتَّاب من قادته وكوادره الفكريَّة. هذه البيانات، والخطب، والدِّراسات، والمقالات، مضطرَّة، بطبيعتها، لأن تتأسَّس على اللغة الفصحى، ومثقلة، من ثمَّ، بمصطلحات الأطروحات النَّظريَّة، والنَّتاجات الابداعيَّة، في شتَّى حقول المعارف الفلسفيَّة، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، وحتَّى الجُّغرافيَّة والتَّاريخيَّة، مِمَّا يصعب، في الغالب، تفاديه. لكنها، مع ذلك، عادة ما تكون عسيرة الهضم، على سواد الجَّماهير التي تستشري في أوساطها الأمِّيَّة الأبجديَّة والفكريَّة بنسب مهولة. تُستثنى من ذلك، على نحو ملحوظ، ولأسباب معلومة، نتاجات الفنون الشِّعريَّة التي تعتمد، عادة، على الإيقاعات الشَّعبيَّة، ولغة الشَّارع الدَّارجة، والتي رتَّبت لصعود أسماء ورموز مبهرة في أفق حراكات النِّضال الجَّماهيري، كمحجوب والقدَّال وحميد وأزهري وغيرهم. بل وقد يُلاحَظ، بشكل لا تخطئه العين، لجوء بعض أبرز وأهمِّ شعراء الفصحى إلى نفس دارجة الشَّارع هذه، ينتجون بها مساهماتهم الشِّعريَّة الثَّوريَّة، كصلاح احمد ابراهيم، وود المكِّي، وعلي عبد القيوم، على سبيل المثال.
وإذن، فلغة الخطاب الثَّوري، باستثناء الابداعي، نثراً أو شعراً، يُفترض أن تشكِّل أحد أخطر الهموم التي تجابه الحزب ومفكِّروه، بحيث ينبغي تلبية احتياجه إلى لغة أقرب إلى لغة الشَّارع، إذ أن هذا مِمَّا سيتحدَّد به مستقبله، خصوصـاً في المدَيَيْن المتوسِّـط والقـريب.
وإلى ذلك أيضاً وجوب إدراك شرط «الشِّعار» الصَّحيح، وهو حُسن استيعاب الجَّماهير لكونه يعبِّر عن «البرنامج/الموقف»، وإلا أضحى محض ترديد ميكانيكي لألفاظ بلا معنى محدَّد! لذا فالاستعاضة عن «البرنامج/الموقف» بـ «الشِّعار» مشكلة اخرى! ففي سبيل تبسيط هذا «البرنامج/الموقف»، يحتاج إعلام الحزب، وادواته الدَّعويَّة، أكثر الأحيان، إلى «الشِّعارات» يختزل بها «البرنامج/الموقف»، لا لتحلَّ محلَّه، أو تقوم مقامه، وإنَّما لتجعله في متناول فهوم البسطاء. لكن أخشى ما يُخشى، على هذا الصَّعيد، أن تجئ النَّتيجة بخلاف ذلك. فالذي يحلُّ، مع مرور الزَّمن، محلَّ «مضمون» هذا «البرنامج/الموقف»، ويقوم مقامه، قد يكون هو، للأسف، «رنين الشِّعار» أكثر من «الشِّعار» نفسه، حتَّى ليطغى «إيقاعه» الخارجي على أيِّ مضمون له! لا يحدث ذلك، دائماً، وبالضَّرورة، مع كوادر حزبيَّة، فحسب، وإنَّما تنتقل عدواه، بتأثير هؤلاء، في الغالب، إلى ديموقراطيِّين، خصوصاً من زملاء الحقل المعرفي، أو حتَّى من زملاء العمل أو جيران السَّكن. وقد سمعت، بأذني، أحد سائقي بنك باركليز، مطالع ستِّينات القرن المنصرم، ولست متأكِّداً مِمَّا إن كان عضواً في الحزب أم ديموقراطيَّاً، وقد حمله زملاؤه على أكتافهم، ذات مظاهرة خرجت بالمحطَّة الوسطى بأم درمان ضدَّ جريمة اغتيال باتريس لوموممبا، يهتف بحماس، والعرق يتصبَّب من سائر أنحاء جسده: «موقف محرج يا لومومبا»! وإلى ذلك، أيضاً، الطُّرفة الرَّائجة التي لا أستبعد واقعيَّتها، بأن أحدهم ردَّد، إبان ثورة أكتوبر 1964م هتاف: «تكتل طالب نكتل أمَّك!»، يقصد «مقتل طالب مقتل أمَّة» .. وقد سمعه خطأ!
الأحد
قال محمد بن أحمد أبي الفتح الأشبيهي، في كتابه «المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف»، إن أحدهم استفتى فقيهاً بقوله: «أفطرتُ في نهار رمضان»، فقال الفقيه: «أقض يوما مكانه». فقال الرَّجل: «قضيت، لكنِّي أتيت أهلي، وقد عملوا مأمونية، فسبقتني يدي إليها، فأكلت منها»، فقال له الفقيه: «أقض يوماً آخر مكانه». قال الرَّجل: «قضيت، لكنِّي أتيت أهلي، وقد عملوا هريسة، فسبقتني يدي إليها، فأكلت منها»، فقال له الفقيه: «أرى ألا تصوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك»!


kgizouli@gmail.com

التعليقات مغلقة.