الحركة الشعبية جبال النوبة: أربحات العلمانية

الحركة الشعبية جبال النوبة: أربحات العلمانية
  • 17 يونيو 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عبد الله علي إبراهيم

هذا هو الجزء الأخير من كلمة نظرت في مآل الحركة الشعبية (الحلو) التي تحتل قطاعاً حصيناً من جبل النوبة، كاودا، من مركز الحكم في الخرطوم على ضوء مقال في “الفورن بوليسي” قال إن الجيل الحاضر من حركات الهامش المسلحة في النزاعات الأفريقية لم يعد تهتم بغزو المركز. صار قصارى جهدها أن تحتفظ لنفسها بما هي عليه من أرض من البلد، أو تنفصل بها عنه.
وبدا لي أن حركة الحلو في طريقها أن تكون من هذا الجيل من حركات النزاع المسلح في أفريقيا. ونوهت بمؤشرين دالين على هذا. فجعلت الحركة بينها وبين الدولة حائطاً طبيعياً هي كاودا التي استعصت على نظام الإنقاذ فكادت “الصلاة في كاودا” تعادل قولنا في استحالة العنقاء والخل الوفي. كما استعصم بالثقافة حين جعل مطلبه العلمانية، بهذه القحاحة، أو “خوة فرتق”.
ونواصل

أما استعصام الحركة الأكبر دون التعاطي مع السياسة القومية فقد تمثل في مطلبها بدستور علماني أو الانفصال. وبدا المطلب بالعلمانية، مصطلحاً، تعجيزياً. فالعلمانية مفهوم متروك في خطاب الدستور السوداني من فرط شيوع الثقافة الثيولجية المضادة لها التي حقنت بها الحركة الإسلامية ودولتها عروق الثقافة لنحو ستة عقود. واتفق لليسار وغير اليسار أن يدعوا للدولة المدنية بدلا عن ذلك هرباً من مصطلح مفخخ فكرياً.
واستغربت من جهة أخرى لخروج الحركة الشعبية بالدعوة للعلمانية لفظاً بعد الثورة. وكان آخر ما تعاقدت به حول الدولة والدين مع حلفائها من الأحزاب والحركات المسلحة المعارضة لنظام البشير في ميثاق باريس (٢٠١٤) هو فتح باب النقاش مشرعاً في المسألة. فقال الميثاق:
ناقش الطرفان بعمق علاقة الدين والدولة كواحدة من القضايا الجوهرية واتفقا على مواصلة الحوار للوصول إلى صيغة مرضية لكل الأطراف.
ولم ينعقد هذا الحوار بين الأطراف بعد. وليس السؤال هنا عن كيف وصلت الحركة لصيغتها في العلمانية كفاحاً بل لماذا تبدو غير مكترثة بمتاعب رفاق الطريق الذين ربما لم يستقروا على رأي من الأمر بعد. وبدا أنها تنازلت عن تسمية مطلبها بفصل الدين عن الدولة ب”العلمانية” في حديث للحلو في ندوة للشباب بمدينة أم درمان. وهو تنازل بمثابة المجاملة لا العقيدة.
إذا كان مطلب الحركة الشعبية الآن هو فصل الدين عن الدولة بعد أن أضربت صفحاً عن العلمانية فقد جاءها على طبق. فتعاقد عليه معها حمدوك في سبتمبر 2020 ثم الحزب الشيوعي في نفس المدة في وثائق صدرت بعد لقاءات معها متعاقبة في أديس أبابا. وجاء فيها اتفاق الأطراف حول فصل الدين عن الدولة.
ولا جديد مع ذلك في هذا. فمن حيث المبدأ صار فصل الدين عن الدولة منذ الثورة عقيدة حكومية ناجزة. فلا أعرف نصاً قضى بفصل الدين عن الدولة بغير مواربة وبإسراف مثل وثيقة سلام جوبا (أغسطس 2020) التي اعتزلها الحلو. فجاء القول فيه صريحاً بالفصل بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة. علاوة على الاتفاق على وقوف الدولة على مسافة متساوية بين الأديان والثقافات دون أي انحياز إثني أو ديني أو ثقافي يؤدي إلى الانتقاص من هذا الحق. وغيرها. بل والتقى الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، بالحلو في جوبا في مارس 2021 ووقعا اتفاق مبادئ نص على فصل الدين عن الدولة مرة أخرى. كما عقدت الحكومة مع منظمات دولية ورشة خبراء في أكتوبر 2020 بعلم الحركة دعت إلى فصل الدين عن الدولة بصيغ مختلفة.
ولم تُجد هذه الزمالة الحكومية والسياسية الكثيفة مع الحركة حول فصل الدين عن الدولة فتيلا. فانهارت المفاوضات بينها والحكومة الانتقالية في 16 يونيو 2021 حول جملة مسائل كانت منها علاقة الدين والدولة. واعتزلت الحركة من يومها مجريات السياسة في الخرطوم التي تزاحمت الشدائد فيها على الحكومة الانتقالية حتى صرعتها في أكتوبر 2021. وهذا ما أوحى إلىّ أن الحركة ربما تحولت إلى حالة النزاع التي طرأت على أفريقيا مما نوهت بها الفورن بولسي. وهي الحالة التي صارت بها الحركات المسلحة في النزاعات في القارة أسلوب حياة. فلم تعد تطلب الاستيلاء على كرسي الحكم في البلد ولا الانفصال صراحة وبقوة.
من الجهة الأخرى صَعّبت الحركة مطلب العلمانية بجعله منتجاً تستحصله من الخرطوم “قبض إيد”، كما نقول، لا عملية (process) سياسية خلافية كبري هي طرف عظيم الأهمية فيها. والكسب فيها بالأصالة لا بالوكالة. فالحركة مثلاً لا تتوقف عند إعلان مبدأ العلمانية في الحكم وحسب (وهو أمر يصطرع حوله الناس)، بل تصر أيضاً على أن تتحقق معه، وفي نفس الوقت، توابعه مثل إلغاء قانون الزكاة وتغيير يوم العطلة إلى الأربعاء بدلاً عن الجمعة والسبت.  وصار المطلب الأخير نادرة تتفكه بها المجالس. وبدا أنها لا تريد أن تنتظر بهذه التوابع مسار التشريع في نظام برلماني عاقب. ولتأمين الفصل بين الدين والدولة دعت أن يكون هذا الفصل، من بين حقوق سياسية أخرى، بنداً فوق دستوري لا يخضع شرعه لتبديل. وكأن يد داعية الدولة الدينية ستنشل دون بند دستوري يقف بينه وبين مشروعه.
أخذ رفاق الحزب الشيوعي السابقون في جماعة الحرية والتغيير عليه أنه أراد بمواثيقه مع حركة الحلو وعبد الواحد خلق مركز معارض ثان لحكومة الانقلاب. وسبق كما رأينا أن كان للشيوعي ميثاقاً مع الحركة الشعبية. وله آخر سبق أيضاً مع حركة عبد الواحد (سبتمبر 2020) حول كسر مركز الدولة القديم لسودان جديد. ولم نر من الحركتين مع ذلك سوى التباعد عن سياسات هذا المركز شيئاً فشئيا. وصح السؤال، والحال على ما نرى، عن حظ مواثيق الشيوعي الجديدة في أخذ الحركتين من الزهادة في المركز إلى الانشغال به.

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.