حكايات الديم الغميسة والاستثمار الجمالي لطاقة الحنين

حكايات الديم الغميسة والاستثمار الجمالي لطاقة الحنين
  • 27 يونيو 2022
  • لا توجد تعليقات

يحيى فضل الله

حكايات الديم الغميسة والاستثمار الجمالي لطاقة الحنين

منمنمات

——————————
(( ملعون ابوه الحنين محل ما قاعد ))
جملة تحمل معها خبرة في تذوق الفخ او المصيدة، مصيدة الحنين يا عماد عبدالله
كلنا في معية هذا الفخ الآخطبوطي
كلنا نجادل تلك المصيدة
كلنا متهمون بالحنين
حنين المخاليق إلى لامكنة
ومن منا من لم يناوشه الحنين وانكسرت حناياه في مرايا من غبار؟
و(سينما غرب والبلونايل همبريبهم احسن من همبريب كلوزيوم والخرطوم جنوب)
ويناوش الحنين ذاكرة الازمنة الضائعة من ليل الخرطوم، ازمنة الخيارات المتعددة لتعرف (أين تسهر هذا المساء)
عماد عبدالله في( الحكايات الغميسة) يشف به الحنين، وبإستثمار جمالي يطوع هذا الحنين الي كتابة سردية مغامرة، باسلوب يمازج بإلفة حميمة بين اللغة المحكية واللغة المكتوبة؛ ويتعمد عماد عبدالله أن يكتب اللغة المحكية تماما كتصويتها، مثلا الإسم (عثمان) يكتبه عماد (عصمان)، وهذا مرتبط إرتباط وثيق بالشخصية التي تنطق الاسم.
يستدعي الكاتب في مكافحته الجمالية ضد الحنين، يستدعي أمكنة حميمة تخص ذاكرته بمقدار ومعيار ( يتمدد المساء علي الديم، قرية مدنية مُسلمة أمرها للمجهول، تعج فيه التفاصيل بالناس والحكايا )، وبعين ذاكرة الكاتب يرى القارئ سوق الديم، نقطة الشرطة، كشك التلج جهة مقابر فاروق، سوق السجانة، ديم القنا، روضة ست زكية، ديسكو الهابيلاند، حلة الحلب، جنوب محطة السكة حديد، طاحونة عمك جلال، فندق الشرق، سماء الديم، شجرة ناس معني، محطة الدومات، ركن اولاد عبد الرازق، ليل الخرطوم، ليل توتي، كلية الفنون، معهد الموسيقي والمسرح، كشك عم سيد، وادي النمل، سينما غرب، حديقة القرشي، صينية سانت جيمس، سينما النيل الازرق، داخلية هباني في المقرن، بصات ابو رجيلة، شارع الغابة، الكشافة البحرية، بازار السسترإسكول، الجي ام إتش، كوبا كوبانا، النادي القبطي، جزيرة التمساح، فريق الفلاته، العشش، حلويات سلا في شارع الجمهورية، بيت ناس عبدالرحمن اللمين، ودالعقلي، سوق الكلاكلة، داخلية البنات، إمتداد الدرجة التالتة، القضيب القديم للسكة حديد، ميدان المولد، نفق شارع الجمهورية، مصطبة سوق الخضار المركزي، حي اليرموك، جنوب الخرطوم، حي مانديلا، حي الحكومة دقست، السلمه.
(سوق الديم مدفوس بالغنا)
المتأمل لهذه الجملة أو العبارة القصصية، يحس بالطاقة التعبيرية العالية في كلمة (مدفوس)، وأن المتحدث اليك ليس غريبا عنك.حكايات عماد عبدالله أُختير لها نوع هذا الرواي الذي تحس به.. يتونس معك بدون حواجز، وبلغة حميمة. (وتربة ابوي، أفرم ميتين ابو حنان صفارة ام حلتك زاتو). راوية حكايات عماد عبدالله هذا تصادفه في تفاصيل الحياة اليومية، ويجادلها بعقلية مثقف ضاعت عوالمه، راوي بسيط، ولكنه معقد او غميس كما وصف الكاتب حكاياته، راوية عبارته القصصية مأخوذة من غالب كلام الناس، وبلهجات متعددة:
(الاسميدا موجود عندكم في البلد؟)، أو (وأنا عمرئذ ناركوك صغيروني)، و(الناركوك) تعني الطفل الصغير بإحدي لغات جنوب السودان،
أو (الجومار؟ واط دا اهيل إز زات) What the hell is that?
المخزون التعبيري والجمالي للكاتب (يهدّ) في الراوية، خاصة من خلال الوصف الذي تحتشد به العبارة القصصية: (المدن النفسها مقطوع بالغم والازمات) / (إستحالت سبابته الابهام ولمي شفتيه الغلاظ الي دكانة في اللون من اثر تشتشات الحرباشه) / (البياع ابو قميص بنفسجي اطعني حقنه) / (طلعت من توبا وهي بتعبرنا حاجه كده عدمتنا النفس) / (ليل توتي الهجين بين القرية والمدينة) / (ليل خرطومي ماسكو الهيم).
تأمل كيف يطل عماد عبدالله التشكيلي الرسام والملون في هذا المشهد:
(زمانٌ راح. ثم كان أن رأيتها متقرفصة من خلف طشت الغسيل أبو كفرين تحته.. وبنبر نسيجه أحمر؛ هذه صورتها التي تزال. عن يمينها جردل المونيا، وفي اليسار جردل البلاستيك الكحلي، يستقر بينهما الطشت مرفوع على كفرين باليات.. وعلى كفر ثالث كانت صينية طلس ضخمة، بألوان لورود ونبت فاقع، وبطرقعات نزعت عنها اللون هنا وهناك).
«حنين المخاليق إلى الأمكنة» يجادل حتما أزمنة تلك الامكنة؛ الحنين هو ذاكرة الامكنة و لازمنة المفقودة والضائعة، ليس هنالك حنين للمستقبل، الحنين يشتعل ويتجوهر في الماضي. الماضي هو لعبة الحنين المفضلة، هو لعبة الذاكرة التي تجادل الزمكان كعنصر حيوي وفعال في بناء مختلف ضروب السرديات، من حكاية وقصة ورواية. الزمكان في حكايات عماد عبدالله الغميسه هو الخرطوم في فترة السبعينات والثمانيات من القرن المنصرم، مع الخروج قليلا الي ازمنة قد تمتد الي بدايات التسعينات. ويلتقي القارئ في هذه الحكايات بعمك الخواجه جوزيف صاحب فندق الشرق، وعمك صالح عثمان ابو فاتن، والزلال بت ود حامد، فيصل ساولين، قديس، الود مختار، مصطفي عفانتي، عمك عوض سعيد، الود عصام شاكيرا، صفيه بت نعمه، آمنه بت العمده، كامل شامي، سميعة بت الخواجه، إدوارد الترزي، نون النعيم، حامد المكوجي ، اسماعين ود العاتي، عمك جلال، سائق الحكومة قدوره، عبدو الحداد، اسماعين البوليس، عوض كيته، بت الجبل، ادريس صاعوط، علي كسكته، آدم نور الدين، بت اللمين، الفكي السنوسي، زهره بت البلك، عوض الدَّقّاق، رسام الكاركتير الراحل صلاح حمادة، المذيع عاطف عبد العزيز والمذيعة نجوي ابو النجا، سيدني كروفورد، ساميه سخانه، سيزيف، ابراهيم كوجان، نمر ومحمود الكذاب، علي كوباني، عم سيد، مامون التبيعه، حبوبه بت مرين، الفاتح ود سعيد، نادر ود اليماني، نعيمه ام سوط، يونس طمبل، شريفه الداية، يوسف القبطي، خديجه خشم شكو، السماني ود بابكر، الحاج حامد ود الكرسني، المغنية الرضية، البصيرة آمنه بت الرجال، جادو الحلاق، صلاح حريقه، كمال حسبو، عبدالله قرني، البصير ود خوجلي، منعم الجاك، الشحات عبدالله النقادي، المكوجي ميدوب الفلاتي، منصور ابو لكيلك سيد الدكان، محود ود ناس باشاب، عصام كاجو كاجي، عبداللطيف الدنقلاوي، مصطفي شاويش، حسنه بت الضكير، دكتور لويز عبدو، الريس محي الدين، صلاح عبدالله، الموسيقار مصطفي كامل، الفنان عثمان حسين، صلاح الشمباتي، ميمونه بت منصور، عثمان التوم، كتال الكلاب علي ازيرق، ليلي بت العوض، الفنان احمد المصطفي، الفنان ابراهيم ود المقرن، الشاعر محمد المهدي المجذوب، الفنان عبد الكريم الكابلي، عباس، سليمان، صلاح بعشوم، الخالة هديه، حسن التوم، حبوبه بخيته، بابكر حسين، استاذ خالد، طه مكي، عيسي ود هجره، حجه رقيه، ناس عبدالرحيم اللمين، نجوي بت الدناقله، الطاهر غفير داخلية البنات، حاج زكريا، عبد المنعم انسان سنجه، غفير مقابر فاروق، ياسر العزوزاب، ميرغني برجوبه، علي كرن، طه هارون المحامي، يحي الطاهر، جورج القبطي، الشاعر ود الرضي، محمد عبدالله الريح، مادوت مكليلي، شداد التشكيلي، استاذ طه، المرأة السمينة مسؤولة النفايات في الحي، عبدو ود الحور، حبوبه خديجه، الخال ابو القاسم معني، العم دوكه، العم حلاوة شوته الحبشي، سيد البتيخ، محي الدين صابر، الاستاذ الحضري، نادر ابو زلومه، اب حوا، السلطان ادم غومبا.
كل هذه الزحم من الشخصيات والاماكن نجدها تتجمل وتتبرج في حكايات الديم الغميسه، بدافع من ذلك الحنين الكثيف الذي احسن الكاتب الفنان إستثماره، ليمنحنا شحنة من عذوبة في الحكي والمواقف والشخصيات. تأملوا معي هذه الدفقة من الحنين في هذا المقطع السردي:
راديو ( محمد سيد الدكان)- كأنما هذا اسم لوالده!!، وما كان كذلك. لسنوات طوال.. وعشرة، وملح وملاح، ما عرفه ناس الحلة سوى: محمد سيد الدكان!!.. هذه بلدة عجيبة. المهم. راديو محمد سيد الدكان كان متخصصا في الغنا. أقسم بجلال الله ما حصل دخلتك يا دكان محمد سيد الدكان، إلا وكان راديك الهالك المعفن داك طالعة منه غنوة أحلى.
: أدينا رطل سكر. يديك، رطل سكر في قرطاس من ورق لجريدة.. عجيب هذا.. وحلو حلو. في غبشة الصباح.. شارعنا أجمل من أن يوصف.. على جنبيه بيوت الناس. وحميم كل هذا، لذيذ. رطل السكر لأمي.. إترسل والشمس لسه في خدرها. غباشة تشبه اللقطات السينمائية؛ غباشة هي، لكنها بزرقة حلوة، مندلقة على كل العالم، وهمربيب يانع بكر. ادخل من باب الشارع وسراير الصباح لسع في الحوش.. مجدعين فيها وحيد وصلاح ووليد، وملاياتهم مكرفسة تحتهم، وغطاهم نصو في الأرض. حوض ماسورة وبلاعة، شباشب، باب الديوان المتاكة، وريحة صباحية لا تشبهها ريحة إلا في جنة ربنا بعدين -أظن بذلك حد اليقين ما أزال- هذا في الكتب يسمى «شمل» يُمه. ده شملك في الحوش البراني (بتاع الأولاد)، ده شملك البيغنيهو ود المقرن. حوشكم الجواني إنتي والبنات بدخلو من باب البرندة، شايل رطل السكر في قرطاس الجريدة.. وبرضو راديينا شغال ود المقرن)
شكرا، الكاتب الفنان عماد عبدالله علي هذه الدفقة من العذوبة التي تنضح بها حكاياتك الغميسه، وشكرا علي هذا الإستثمار الجمالي الناجح لطاقة الحنين.
واشهد أنني قد مسني طرب شفيف كثيف.
——————————

  • نشرت هذي (المنمنمات) كمقدمة لكتاب الفنان التشكيلي, الكاتب عماد عبدالله, (حكايات الديم الغميسة)
    نقلا عن صفحة الاستاذ يحي فضل الله على الفيس بوك

التعليقات مغلقة.