وقفات مع محاضرة البروفيسور محمد غالب في مجمع اللغة بالخرطوم

وقفات مع محاضرة البروفيسور محمد غالب في مجمع اللغة بالخرطوم
  • 27 يوليو 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عثمان أبوزيد

قدَّم البروفيسور محمّد غالب عبدالرّحمن ورّاق عميد كلية اللغة العربية السابق بجامعة أم درمان الإسلامية محاضرة في مجمع اللغة العربية السوداني بالخرطوم. وذلك في يوم الأربعاء الثامن من الشهر الماضي يونيو 2022م، وعنوان المحاضرة: العربيَّة بين النظام اللّغوي والأداء الإعلامي.
في السطور التالية أبرز ما تضمنته هذه المحاضرة القيمة:
ـ اللغة هي الأداة التي يتم بها نقل الرِّسالة الإعلاميّة. وبقدر ما تحمله هذه اللغة من معانٍ ودلالات يكون تمام التوصيل بين المُرسل والمستقبل، فإذا أدَّت تلك الوساطة دورها المنشود نجح الموقف الاتِّصالي. فالمستقبل يفهم الرِّسالة الإعلاميَّة وفقًا لمخزونه من اللغة وخبرته بقواعدها وأساليبها. وعلى ذلك فقيمة اللغة ليست فيما تنقله وسائل الإعلام المختلفة وإنّما قيمتها في امتلاك الإعلاميّ (المرسل) لناصيتها.
ـ تساءل المحاضر في مستهل محاضرته: هل هناك فرق بين لغة الإعلام المسموعة والمكتوبة؟ ويجيب بقوله:
“تبدو الإجابة العجلى أن لا فارق بين اللغتين، لكن النظر الفاحص والتأمّل العميق يؤكّد على وجود فارق بين اللغتين. ففي اللغة المكتوبة (لغة الصحافة) ترتيب منطقي للجمل والعبارات تمليه قواعد اللغة والكاتب يجد فسحة لهذا التّرتيب، أمَّا اللّغة المنطوقة؛ لغة وسائل الإعلام المسموعة مثل الراديو والتلفزيون فهي تفتقر إلى التّرتيب؛ لأنّها تخضع لمنطق انفعالي ذاتي يمليه على المتحدِّث الموقف الذي يعمل على نقله للمتلقي.
وأيًّا كان الفارق بين اللغتين، فإن كل لغة تسعى جاهدة لاستخدام اللغة الأكثر ملاءمة والأكثر مصداقية لجمهورها. وذلك لأنها تستهدف التَّأثير في الجمهور المتلقي، وذلك لقناعتها بأنَّ اللُّغة تعمل على تشكيل الرَّأي العام، ومن ثمّ صياغة رؤيته التي يفسر بها واقعه”.
ـ كان لظهور الصَّحافة في القرن التّاسع عشر الميلادي أثر لا ينكر في نمو اللُّغة العربيَّة واتِّساع معجمها.
وقد أسهم الصَّحفيون والكُتَّاب ومحرِّرو الصُّحف في استحداث الكثير من الألفاظ والأساليب والعبارات؛ إذ حاولوا اصطناع أسلوب وسيط يقترب من أفهام عامَّة المثقفين والقرَّاء دون إسفاف وركاكة أو إِغراب وتعمية. ساعد على انتشار هذا الأسلوب انتشار التعليم واستخدام المطابع وذيوع الصُّحف.
وقد كان للصّحافة دور لا ينكر في ذيوع هذه الفُصحى المعاصرة؛ لأنَّ الصُّحف كانت تتّجه إلى جميع الطّبقات في الأُمَّة بخلاف الكتب التي كانت وقفًا على المثقفين.
ـ يُلاحظ على الفصحى المعاصرة التي تصطنعها وسائل الإعلام أمران:

  1. استخدام طائفة من الكلمات العاميَّة التي يُظن لأوّل الأمر أنَّها غير فصيحة بينما هي عربية فصيحة وإن لاكتها العامَّة.
  2. نشوء صيغ وعبارات يُظن لأوّل وهلة أنّها غير فصيحة حتّى إذا عرضها علماء اللغة على قواعدها وتصاريفها وجدوا لها وجوهًا من التّخريج تجعلها عربيَّة فصيحة.
    لمّا كان الإعلاميون مطالبين بإنتاج يومي يملأ أعمدة الصُّحف وأنهرها على اختلاف صفحاتها فإنَّهم اضطروا إلى استحداث الكثير من الألفاظ والعبارات، مثل: الأصوليَّة، الموازنة، تيار كهربائي، إقطاعي، تواجد النَّاس، فاشية، ديمقراطيَّة، أنسنة، تسليع، اختصاصي، تِقني، تِقانة…إلخ
    وهذا عمل رائع يعكس مراحل تطور اللّغة، ومن ثمّ مراحل تطوّر المجتمع لأنّ اللّغة مرآة لحركة الحياة السّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة.
    ـ إنّ ما تقوم به وسائل الإعلام من رفد اللّغة العربيَّة بالجديد والمفيد في ألفاظها وتراكيبها وصيغها عمل له قيمته الكبيرة وخطره. بيد أنّ هذا العمل الجليل لم يتح له الوقت الكافي للتّروي والتَّقصي والبحث؛ لذا فقد وقعت فيه أخطاء كثيرة متنوعة؛ في الأصوات، والبنية، والتراكيب والدّلالة، ولا زالت هذه الأخطاء تمثل مشكلة لأهل اللُّغة وللإعلاميين.
    ـ ثم تحدث البروفيسور غالب عن تجربته مع أخطاء لغة الإعلام، فقال:
    ـ شاركت في مناقشة عدد من الأطروحات الجامعيَّة، تناولت لغة الإعلام صياغة وأسلوبًا وأخطاءً.
    ـ اطلعت على بعض المحاولات الجادَّة لرصد أخطاء لغة الإعلام في بعض البلدان العربيَّة وفي بلادنا، من تلك المحاولات كتيّب صغير أعدَّه زميلنا وصديقنا البروفسير عثمان أبوزيد بعنوان: (الوجيز في لغة الإعلام) وكتاب (أخطاء اللّغة العربيَّة المعاصرة عند الكتّاب والإذاعيين) للمرحوم أحمد مختار عمر، (وأخطاء لغة الجرايد لليازجي)، ومحاولات أخرى تشمل أخطاء الإعلام وغيرها مثل أزاهير الفصحى لأبي السعود، ومعجم الأخطاء الشّائعة للعدناني وغير ذلك من المقالات والبحوث.
    ـ متابعتي لبعض وسائل الإعلام محليّة وغير محليّة، مقروءة ومسموعة ومع الأسف لا تكاد تخلو وسيلة من الأخطاء، خاصة المسموعة كالتّلفزيون والإذاعة.
    ـ وعرض المحاضر بعض الأمثلة من النّماذج التي تكشف عن حجم الظاهرة وأشكالها:
    ـ يقع الكاتب بالعربيَّة كثيرًا في الخطأ نتيجة التَّوهّم، وغالبًا ما يحدث ذلك حين يتشابه اللفظان أو التّعبيران، ويختلفان تحليلاً فيتوهم الكاتب تشابههما ومن ذلك:
    ـ معاملة بعض المفردات وجموع التّكسير معاملة جمع المؤنّث السالم مثل: رفات، وهي كلمة مفردة على وزن فُعال، بمعنى الفتات من كل شيء، أمّا رفاة (بالتَّاء المربوطة) فجمع رافٍ، من يصلح الثّوب.
    ـ معاملة الكلمات المفردة المختومة بألف وتاء مربوطة معاملة جمع المؤنث مثل: مداواة، مراعاة، مساواة.
    ـ تذكير المؤنث وتأنيث المذكّر، إذ يتوهَّم بعضهم أن كل ما جمع بألف وتاء مزيدتين يكون مفرده مؤنّثًا مما يوقع في الخطأ عند استعمال هذه الكلمات في باب العدد، فيقال في المنزل ثلاث حمامات (دون تاء) والصّحيح (ثلاثة بالتاء) لأنَّ مفرده حمام، ومثل سرادق، واسطبل وفي ذلك قول بعضهم: (إحدى المستوصفات) والصّحيح: أحد المستوصفات.
    ومن الأخطاء الأسلوبيَّة:
    ـ قولهم لا أفعل هذا طالما أنا مبعد، والصّحيح أن يقال: لن أفعل هذا ما دمت مبعدًا؛ لأنَّ طالما لا معنى لها هنا، فهي مكوَّنة من الفعل (طال)وما) وهي بمعنى كثر ما.
    ـ تكرار (كلما) مثل قولهم: كلما ازداد الحر كلما ازداد استهلاك المياه، وصوابه حذف (كلما) الثَّانية.
    (بين) لا يتكرَّر (بين) بين اسمين ظاهرين فلا يقال حدث خلاف بين السُّودان وبين إثيوبيا، إنَّما نقول: حدث خلاف بين السّودان وإثيوبيا.
    ويجوز تكرار (بين) عند وجود فاصل في الكلام نحو: حدث خلاف بين السّودان في مباحثات سدّ النَّهضة وبين إثيوبيا.
    ثم تناول بعض ألفاظ وعبارت يقع فيها الاشتباه مثل:
    ـ قَبول، يقول بعضهم: (مكتب القُبول) بضمِّ القاف، والصّحيح فتحها، لأنَّ القُبول بالضّمِّ جمع قُبل.
    ـ أسهم، المصدر إسهام بمعنى شارك، أسهم فلان في تنمية بلاده، أمَّا ساهم فمصدرها مساهمة بمعنى اقترع، وفي القرآن: (فساهم فكان من المدحضين).
    كما قدَّم نماذج من أخطاء الرّسم كالخلط بين همزتي الوصل والقطع، فنجدهم يكتبون كلمات مثل: الاجتماع، الاقتصاد، والامتحان والاختبار والاتِّصال (برج سوداتل للاتصالات) بهمزة قطع، في حين أنها همزة وصل لا ترسم، كما أنّهم يتركون همزات القطع حيث يجب أن تكون مثل: الفعل الرّباعيّ: أكرم، أعطى.
    ـ الخلط بين التَّاء المربوطة والمبسوطة فنجد من يكتب (مراعاة) بالتاء المبسوطة (مراعات) ويكتب (ثمت) بالتَّاء المربوطة.
    ـ واستعرض المحاضر خلاف اللّغويين المعاصرين في أخطاء لغة الإعلام إذ يقع جمهور المستعملين للغة ـ على رأسهم الإعلاميون ـ بين فريقين من علماء العربية، إذ يرى فريق إطلاق الحبل على الغارب لمستعملي اللّغة العربيَّة يتصرفون كيف يشاءون، وفريق آخر يرى تقييد اللُّغة بقيود صارمة، وهذه القيود ربما تحرم اللغة من سنة التّطوّر الذي تتعرض له جميع لغات العالم، وبين هؤلاء واولئك يضل جمهور المستعملين للّغة – وفي القلب منهم الإعلاميون – طريقهم، وكثير منهم يصيبه اليأس والإحباط، فينضمّ إلى أولئك الذين يتصورون أن هذه القواعد تمثل عائقًا عن التّعبير الطّبيعي بدلاً من أن تكون أداة له؛ لذا فهم يدعون إلى نبذ قواعد اللغة العربيّة وقوانينها، ونتيجة ذلك كله أنهم يتوقفون أمام كلّ كلمة أو جملة يسألون عن وجه الصّواب فيها فيتلقون إجابات مختلفة من أهل العربيَّة، كلّ حسب فهمه وقدرته على التّحليل.
    وقد شغل بعض اللّغويين المعاصرين أنفسهم بالبحث في صيغ وعبارات لم ترد عن العرب في فترة الاستشهاد التي حددها النّحاة (القرن الرَّابع في البوادي والقرن الثَّاني في الحضر) ولكنَّها في الوقت نفسه لا تناقض قاعدة وقد تكون أثرًا من آثار المحاكاة والقياس، ومن ثم فلا حرج في استعمالها.
    وقد يتسرَّع بعض الباحثين في علوم العربيّة في الحكم على هذا اللّفظ أو هذه العبارة بالخطأ رغم أنَّها صحيحة. والحكم على لفظة ما بالخطأ أصعب من الحكم بصوابها. فالحكم بالخطأ يحتاج إلى استقراء تام، وهو ما ليس متيسرًا في غالب الأحوال. أمّا الحكم بالصواب فيكفي فيه العثور على شاهد أو شواهد تؤيّده.
    ـ وأفاض المحاضر في شرح أسباب الخطأ في لغة الإعلام، وهي أسباب خاصة وعامة؛ وتتمثَّل الأسباب الخاصّة في نقص الثَّقافة اللّغويَّة للإعلاميين، فكثير من الأخطاء ينتج من قلة المحصول اللّغوي للإعلاميّ، وسببه الإعراض عن المطالعة المستمرة في نصوص اللّغة الفصيحة، شعرًا ونثرًا، وهذا النقص في الثَّقافة اللُّغويَّة يضاعف من الصُّعوبات التي يواجهها الإعلاميّ وبالتالي يضعف من قدرته على التّفكير، إذ ثبت أن هناك علاقة بين مخزون الإنسان من اللغة وقدرته على التَّفكير وأكثر ما يظهر هذا الضَّعف اللّغوي في خريجي كليات الإعلام وأقسامه، أقول هذا عن تجربة شخصيّة مع هؤلاء الخريجين، فقد أُتيحت لي فرصة الاشتراك في امتحان القيد الصَّحفي لثلاثة أعوام فقد كان الذين يجتازون هذا الامتحان من خريجي كليّات الإعلام (بكالوريوس أو دبلوم) قليلا قياسًا إلى غير خريجي كليات الإعلام.
    وربما كان سبب الضّعف اللّغوي لدى الإعلاميين يرجع إلى مناهج اللُّغَة العربية التي تدرس لهم، أو يرجع إلى الأستاذ الذي لا يعرف احتياج هؤلاء للُّغة، أو عدم قناعة الدّارسين بقيمة اللّغة وأهميتها لهم بوصفها أداة ووسيلة لرسالتهم الإعلاميَّة، وقد تكون كل هذه العوامل مجتمعة سببًا للضّعف.
    ونظرة عجلى إلى واقع الإعلام ما قبل نشوء كليّات الإعلام في عالمنا العربي عامّة وبلادنا خاصَّة لا يجد لمشكلة الضعف اللغوي حضورًا لافتًا، فقد كان المشتغلون بالإعلام ينتسبون إلى تخصصات مختلفة، الآداب، والفلسفة والتاريخ والطّب والصيدلة…إلخ وهم أصحاب محصول لغويّ غزير، يتجلّى ذلك في كتاباتهم في تلك الصحف والمجلات، والأسماء كثيرة ومشهورة في بلادنا وفي مصر والشّام والمغرب العربي.
    وقد دعا هذا الواقع كثيرين ـ وأنا منهم ـ إلى الدعوة إلى جعل الإعلام دراسة فوق الجامعة، وهذا من شأنه أن يضمن أن يكون المنتسب لكليات الإعلام من أصحاب الثروة اللّغويّة والفكريَّة العميقة، وهذا يمكنهم من ملء تلك القوالب الإعلاميَّة والفنون الصَّحفيَّة التي يتعلمونها في كليّات الإعلام بالمفيد والممتع والصّحيح.
    وعن الأسباب العامّة قال الأستاذ الدكتورغالب:
    إن العلاقة بين الإعلام واللّغة علاقة وثيقة، فاللغة هي وعاء الفكر وأداة التواصل التي يتخذها الإعلام وسيطًا، فهي حينئذ تشكل واحدة من أهم ركائز هويتنا ومشروعنا الثقافي والاجتماعي، فما يصيب اللغة من تراجع وضمور يترك أثره في هذه الرّكائز. لذا لا ينبغي الفصل بين التّحديات التي تواجهها العربيّة وما تواجهه مجتمعاتنا العربية من أزمات، ولوسائل الإعلام دور لا ينكر في مواجهة هذه التحديات والأزمات. وسأشير هنا إشارة هنا موجزة لهذه التّحديات للتّأكيد على خطورة الدّور الذي تؤديه وسائل الإعلام في تجاوز هذه التّحديات.
    واستعرض المحاضر في ختام محاضرته أبرز التّحديات التي تواجه العربيّة وتكاد تقعد بها عن أداء رسالتها وهي:
    الصّراع بين اللّغة العربيّة الفصحى والعاميّات وهو ما يطلق عليه (الازدواج اللّغوي)، ومزاحمة اللغات الأجنبيّة للعربيّة في ديارها، إلى جانب تخلّف وجمود طريقة تعليم العربيّة وتعلمها، وعدم مواكبة العربيَّة لانهمار المصطلحات وألفاظ الحضارة الحديثة.
    وكلّ واحدة من هذه المشكلات تمثل محورًا للبحث والدَّرْس والنّقاش. والمأمول أن تجعلها وسائل الإعلام واحدة من همومها ومشاغلها، فتعمل على طرحها واستكتاب الخبراء فيها والعارفين بها. ولا شكَّ أن لهذه التّحديات آثارًا مدمرة على اللّغة العربيّة بوصفها وسيلة من وسائل الاتصال، إذ أنها تقوم بنقل الرسالة الإعلاميّة من المرسل إلى المتلقي، فيكفي أن تهز هذه الأزمات والمشكلات الثقة في نفوس المتحدثين بالعربيّة وتصيبهم بالإحباط في قدرة العربية على الوفاء بحاجة الرسالة الإعلاميّة، فيفكرون في البديل، إمَّا في العاميات المحليّة، أو في اللغات الأجنبيَّة.
    وياله من مستقبل مظلم للعربيّة يوم يحدث هذا؟

التعليقات مغلقة.