صحافة وصحافيون وانتخابات نقابة الصحافيين

صحافة وصحافيون وانتخابات نقابة الصحافيين
  • 31 أغسطس 2022
  • لا توجد تعليقات

عمر جعفر السوري

عفو الخاطر:
عذرٌ لمَنْ مَاتَ لا عُذرَ ِلمَنْ سَلِمَ إذا تَهَدَمَ مَجْدٌ و استُبِيحَ حِمــَـى

بشارة عبدالله الخوري “الأخطل الصغير”

حاولت السلطات التابعة لانقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول والدائرون في فلك الانقلاب أن يمدوا يد العسف التي عرفوا بها الى الجسم الصحافي ومنع انعقاد الجمعية العمومية للصحافيين لانتخاب نقيب لهم ومكتب للنقابة يرعى شؤونهم ويدافع عنهم ويزب عن حرية الصحافة والرأي والتعبير. الا ان إصرار الصحافيين والصحافيات على بناء صرح النقابة واجراء الانتخابات اوجع السلطة الانقلابية ومن يأكل من بقايا بقاياها فانتخبت القاعدة العريضة لأصحاب القلم الزميل عبد المنعم أبو ادريس نقيباً كما تتوالى عملية فرز الأصوات لانتخاب مكتب النقابة. لطالما قضّت نقابة الصحافيين أكثر من غيرها من النقابات مضاجع الطغاة الذين توالوا على حكم البلاد، فهم مرآة الرأي العام، ونبض الشعب. نشد على أيدي الصحافيين والصحافيات ونقف معهم ومعهن في كل خطوة يتخذونها لتعزيز الحريات الصحافية والحريات العامة، سائرين وسائرات مع الجماهير ومتقدمين ومتقدمات صفوف الشعب ومعبرين ومعبرات بصدق عن أمانيه وطموحاته وتطلعاته، كاشفين وكاشفات عن بؤر العمالة والفساد والظلم والعسف وادواتها.

فيما يلي كلمة لي عن تجارب مثيلة اسوقها بهذه المناسبة:

في منتصف ثمانينيات القرن العشرين انعقد في العاصمة المغربية، الرباط، اجتماع المكتب الدائم للاتحاد العام للصحافيين العرب، وذلك بحضور النقابات والاتحادات المنضوية تحت لوائه كلها وأعضاء الأمانة العامة. لم يتخلف أحد، بل تقاطر الجميع لحضور ذلك الاجتماع، وإن ظل حضور وفد اتحاد الصحافيين والكتاب الفلسطينيين محل أخذ ورد بسبب انقسام حدث في صفوفهم تلك الأيام سنفصله لاحقاً. في ذلك الاجتماع حضرت لأول مرة، بعد غياب دام سنين عددا، نقابة الصحافيين السودانيين بوفد يرأسه النقيب الراحل عمر عبد التام ويضم عضوي مجلس النقابة الزميلين يوسف الشنبلي وأحمد العمرابي. لم يكن ذلك الحضور ممكناً قبل سقوط نظام 25 مايو/أيار الذي استولى على السلطة بليل غصباً و عنوةً في العام 1969. و قد تفرد وفد النقابة السودانية دون غيره برئاسة ناقد رياضي لمجلس النقابة، في حين لم يضم وفد آخر محرر رياضي بين أعضائه، سوى العراق.

كان الزميل الراحل عمر عبد التام ناقداً رياضياً ورئيساً للقسم الرياضي في جريدة الأيام لعقود طويلة، وظل يحظى بتقدير الجميع وباحترام الأوساط الرياضية السودانية وغير السودانية. رجل ذو خلق ومناقبية مهنية وحلم يحسده عليه قيس بن عاصم. كان بجلبابه الأبيض الناصع و عمامته يغشى الملاعب و النوادي و يغطى المباريات و المنافسات المحلية و الدولية، يصحبه غليونه الذي لا يفارق يديه الا إلى شفتيه مشتعلاً كان أو مطفأ، ثم يقفل عائداً الى دار الأيام يكتب ما يحرص على قراءته حتى من لم يشغل نفسه بمتابعة أخبار الرياضة و الرياضيين. استمر عبد التام في نشاطه الصحافي، يكتب تعليقاته عن الحدث الرياض اليومي، و يقدم المثل و القدوة الحسنة دروساً الى أجيال من العاملين معه في القسم حتى تجنى عليه رئيس مجلس إدارة دار الأيام و رئيس التحرير بعد تأميمها، الزميل حسن ساتي، فأوقفه عن العمل ليس لجريرة ارتكبها، أو خطأ مهني أتى به، بل لأسباب نقابية بحتة. كان وقف عمر عبد التام عن عمله بعد سنين طويلة من العطاء الثر، مؤشراً لما بلغته غلواء السلطة و زبانيتها من تسلط على رقاب العباد، و ما ذهبوا إليه من بطش و ضيق بالآخرين؛ إذ من يوقف ناقداً رياضياً مخضرماً مثل عمر عبد التام ارتقى بعمله الى حيادية تحابي مُثل الرياضة فحسب دون غيرها، و له قراء معجبون من كل الأجيال، و تاريخ و تجارب يحرص عليها أصحاب الصحف، لو كانت الصحف تلتزم قيم المهنة و تحترم القارئ؟ كان هو و الزميل الراحل كوركين أسكندريان، نجم جريدة الرأي العام، قطبي رحى الصحافة الرياضية في السودان، ثم انضم إليهم فيما بعد الزميل حسن مختار الذي رأس القسم الرياضي في جريدة الصحافة التي كان يمتلكها أخوه، عبد الرحمن مختار. و كوركين، ذو الأصول الأرمنية و العادات الغريبة في طريقة و مكان الكتابة، من نوابغ النقاد الرياضيين الذين مروا على ساحة العمل الصحافي السوداني في تلك الأيام.

انتخاب عمر عبد التام نقيباً للصحافيين السودانيين مثّل سابقة – هي الأولى و الأخيرة حتى إشعار آخر – التي يتصدر فيها أحد النقاد الرياضيين رئاسة العمل النقابي محلياً و عربياً و عالمياً. لم ينتخب الصحافيون العرب أو غيرهم نقيباً لهم من الوسط الرياضي قط حتى كسر الصحافيون السودانيون احتكار رؤساء التحرير و صحافيو الاخبار و المعلقون السياسيون لهذا المنصب. وحدها النقابة العراقية أوصلت الناقد الرياضي المخضرم، ضياء عبد الرزاق حسن الى منصب أمين عام النقابة مراراً، فكان وجهاً مألوفا في اجتماعات الاتحاد العربي و المؤتمرات و الاتحادات العالمية؛ ثم انتخبه النقاد الرياضيون ليرأس اتحاد الصحافيين الرياضيين العرب. هذا التجمع الرياضي العربي، إضافة الى اتحاد رسامي الكاريكاتير العرب والمصورين العرب والصحافيين الزراعيين العرب والصحافيين الاقتصاديين العرب وغيرها من المنظمات المهنية المتخصصة انبثقت جميعها من صلب الاتحاد العام للصحافيين العرب وأصبحت من مكوناته كما أتخذ بعضها من داره في بغداد مقراً، وذلك قبل عودته الى القاهرة. كان الاتحاد انتقل إلى العاصمة العراقية بُعيد زيارة الرئيس المصري، أنور السادات، للقدس.

وفي سبيل تشجيع الأقطار العربية التي لم تتكون فيها نقابات أو اتحادات أو أي شكل من أشكال التجمعات الصحافية، وجهت الأمانة العامة الدعوة الى عدد من صحافيي أقطار الخليج لحضور اجتماع الرباط بصفة مراقب، فحضر رئيس تحرير جريدة “الرياض” السعودية، الزميل الراحل تركي السديري، وشارك في الاجتماعات بهذه الصفةُ. لكن تكوين جمعية الصحافيين السعوديين تأخر حتى مطلع القرن الواحد و العشرين. وقد رأس تركي السديري الجمعية منذ تكوينها حتى رحيله، لكنها تشهد الآن انقسامات بين صفوفها حيث تشكلت نوادي للصحافة في حواضر المناطق السعودية، تنافس الجمعية التي تعترف بها الدولة. وحدها نقابة الصحافيين الكويتيين، أحد مؤسسي الاتحاد العام للصحافيين العرب في القاهرة العام 1964، كانت التنظيم النقابي المنتخب و الفاعل في منطقة الخليج. كانت السابقة الوحيدة في دعوة مراقبين من الأقطار التي لم تشكل نقابات صحافية، حينما جاء وفد يمثل الصحافيين في دولة الإمارات العربية المتحدة لحضور المؤتمر الرابع للاتحاد العام الذي انعقد في دمشق صيف العام 1974، وكان من بين أعضاء هذا الوفد الصحافي السوداني المخضرم الزميل محمد عمر الخضر الذي كان يعمل هناك آنئذِ. محمد عمر الخضر حرفي من طراز رفيع و َجلِد و مثابر، يتعب زملاؤه و هو لا يكل. عملت معه حينما رأس تحرير جريدة “سودان استاندرد”. لكن هذا الوفد انسحب قبيل افتتاح المؤتمر و عاد أدراجه حينما رفضت الأمانة العامة منحه العضوية الكاملة. ظلت الأمارات العربية المتحدة بدون تنظيم نقابي منتخب حتى الألفية الثانية.

أُدرجت في أجندة الاجتماع مسائل ذات صبغة مهنية، و أخرى سياسية، و غيرها مالية و ثقافية، الا إن أهم المشاكل الحاضرة أمام المجتمعين كانت تلك القضايا المتعلقة بالحريات الصحافية، و الانقسام الحاد في صفوف اتحاد الصحافيين و الكتاب الفلسطينيين الذي كان انعكاساً و نتيجة لما جرى في الساحة الفلسطينية عموماً حينئذٍ.

شهدت الساحة الفلسطينية في تلك الفترة انقساماً خرج عن المألوف. فالفلسطينيون عادة يتوزعون على تنظيمات وفصائل كثيرة ذات توجهات متضاربة وولاءات متضادة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، وتدور بينهم معارك يسقط فيها قتلى وجرحى لكنهم غالباً ما يتوافقون على مرجعية واحدة هي منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة ياسر عرفات القدوة المعروف بأبي عمار. في تلك الفترة -بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان -كان ياسر عرفات وقواته قد غادروا بيروت بعيداً عن المشرق وعن مناطق التجمعات الفلسطينية الكثيفة في لبنان وسورية والأردن، وعن جوار الأرض الفلسطينية المحتلة. بعد توقف قصير في اليونان، متجاوزاً سورية، ذهب عرفات الى تونس في المغرب العربي حيث لا وجود للفلسطيني اللاجئ أو المقيم أو المقاتل أو الوافد أو المتجنس. ثم شهدت العلاقة بينه و بين الحكومة السورية بعد ذلك بقليل تدهوراً منقطع النظير تمثل في طرده من سورية و منعه من دخولها، و هو ما لم يتحسب له هو، أو يحسب له أحد من القيادات الفلسطينية حساباً، أو يدور بخلدهم في أسوأ الظروف.

جاء وزير الخارجية السوري حينذاك، عبد الحليم خدام، الى مكتب أبي عمار الكائن بشارع الباكستان في قلب دمشق ليبلغه قرار القيادة السورية بطرده من البلاد، و لم يمهله سوى ساعتين أو نحوهما للمغادرة. سبق ذلك الإجراء طلب القيادة السورية منه قبل حصار بيروت أن يسلك الى لبنان جيئة و ذهاباً طريق حمص – تل كلخ – العريضة، و ليس الطريق العسكري المعتاد بين نقطتي جديدة يابوس، على الحدود السورية و المصنع على الحدود اللبنانية الذي ما برح يسلكه منذ بداية الكفاح المسلح الفلسطيني منتصف ستينيات القرن الماضي. لقد كان تواجد غالبية الفدائيين في لبنان يتمركز في سهل البقاع اللبناني الأقرب الى المصنع من العريضة أو في الجنوب اللبناني، و هو بعيد عن هذه النقطة بلا ريب. ثم ازداد التوتر حدة بعد اغتيال رئيس هيئة أركان قوات الثورة الفلسطينية، العميد سعد صائل (أبو الوليد)، في مكمن بالبقاع بينما كان في طريق عودته الى دمشق. كان سعد صايل عسكرياً محترفاً يحظى بتقدير الجميع، يؤدي عمله بعيداً عن الأضواء و آلات التصوير التي يعشقها الفدائيون و قياداتهم.

تكونت في جلّق الشام، نتيجة لهذا التطورات، جبهة الإنقاذ الفلسطينية من الفصائل المتمركزة في سورية و من بينها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، و القيادة العامة التي يتزعمها أحمد جبريل، و تنظيم نايف حواتمة، و الصاعقة الموالية لسورية، و بعض الفصائل الصغيرة الأخرى التي تدور في أفلاك كثيرة ضمن المجرة ذاتها. ثم حدث لاحقاً انقسام في صفوف حركة فتح نفسها قادته مجموعة متقدمة من قياداتها وكوادرها السياسية و العسكرية برز منهم عضو اللجنة المركزية نمر صالح (أبو صالح) و العقيد سعيد موسى مراغه (أبو موسى) و أبو خالد العملة و سميح أبو كويك (قدري) و الدكتور الياس شوفاني، منظر “فتح الانتفاضة”، و هو الاسم الذي أُطلق على ما تمخض عن هذا الانقسام.

في هذه الأجواء المتوترة بقيت قيادة إتحاد الصحافيين و الكتاب الفلسطينيين المنتخبة مرابطة في مكاتبها بالعاصمة السورية دون اللحاق بقيادة ياسر عرفات في تونس. كان يرأس الاتحاد حينئذ الصحافي و الكاتب الفلسطيني ناجي علوش. لما وصلت الدعوة لاجتماع المكتب الدائم، علم المقيمون في دمشق أن أبا عمار سيرسل وفداً يمثل الاتحاد الفلسطيني الى الرباط، فآثروا البقاء حيث هم خشية الاصطدام بوفد تونس و من ثم إحداث شرخ في صفوف الصحافيين و الكتاب الفلسطينيين قد يتمخض عما لا تحمد عقباه، كما آثروا توفير تداعيات ذلك كله على منظمتهم الإقليمية، فلا يُجبر أحد من العرب على اخذ موقف مع هذا أو ضد ذاك. الا أنهم رأوا ضرورة شرح موقفهم و وجهة نظرهم فيما يجري لزملائهم الصحافيين العرب من خلال نقاباتهم و اتحادهم العام، و يبينوا لهم أن وفد تونس لا يمثل أحداً و أنه وفد فاقد للشرعية و غير ذي صفة.

اتصل بي عشية مغادرتي دمشق الى الرباط القاص و الروائي الفلسطيني، رشاد أبو شاور، و أخبرني أن بعض أعضاء اللجنة التنفيذية لاتحاد الصحافيين الفلسطينيين يودون لقائي و أن لديهم رسالة موجهة الى أعضاء المكتب الدائم يرجون مني حملها إليهم. أبو شاور، الساخر اللاذع دوماً حتى في منامه و في غدوه و رواحه كتب أول عمل روائي ينتقد المقاومة الفلسطينية و قياداتها إذ صدرت روايته “البكاء على صدر الحبيب” في العام 1973.

في تلك الليلة جاء الى منزلي أبو شاور، و القاص و الروائي يحي يخلف صاحب “نجران تحت الصفر”، و معهم رئيس تحرير مجلة الهدف، الزميل بسام أبو شريف، الذي نجا من الموت بأعجوبة حينما انفجرت بين يديه رسالة بريدية ملغومة كان يحاول فتحها لكنها تركت أثارها في أنحاء جسده كله. كانوا يحملون معهم مغلفات كثيرة و هموم أكثر.

شرح يحي يخلف الأسباب التي دعتهم الى اتخاذ قرار البقاء في دمشق بعد أن بلغتهم تفاصيل الاجتماع الذي عقده أبو عمار في تونس خصيصاً لبحث المشاركة في اجتماع الرباط. لم تكن التفاصيل التي سمعتها منهم تثير الدهشة أبداً، فأبو عمار كان يحرص على مناقشة دقائق نشاطات المنظمات المهنية و النقابية و الجماهيرية حرصه على تفاصيل سواها، و يعقد الاجتماع تلو الاجتماع الذي قد ينتهي فجراً أو يمتد الى ما بعد ذلك لبحث الإعداد لمؤتمر فرع صغير من فروع اتحاد الطلاب الفلسطينيين لا يتجاوز عدد أعضائه أصابع اليدين. كان هذا دأبه؛ فهو يعرف الجميع بالاسم و مكان الولادة و تاريخ الميلاد و حالته أو حالتها الاجتماعية، و يتنبأ بمن معه و من ليس معه أو من يقف بين بين، ثم يكتب قائمة بمن يريد انتخابه في ذلك المؤتمر. و قد رووا لي في تلك الليلة ما قاله في اجتماعه بكوادره عن جميع أعضاء أمانة الإتحاد العامة؛ و قد كنت عضواً فيها. حاولت جهدي في لقائنا ذاك، الذي انفض بُعيد منتصف الليل، أن أثنيهم عن قرارهم فلم أفلح، فقبلت أن أحمل رسائلهم الى الحضور بعد أن قرأت الرسالة الموجهة إليّ. كان هذا حقهم علينا، و هو أن يصل صوتهم الى زملائهم، خصوصاً أنهم أتوا عبر صناديق الانتخابات و بتوافق قواعدهم و رضا قيادات الفصائل الفلسطينية كلها.

حرصتُ على أن يتسلم كل وفد من الوفود الحاضرة الرسالة التي أرسلتها إليه قيادة الاتحاد الفلسطيني المنتخبة، فطلبت من موظف الاستقبال في هيلتون الرباط أن يضع كل رسالة في صندوق الغرفة التي يسكن فيها رئيس الوفد. تسلم الجميع رسائلهم مباشرة، مما أثار احتجاج الوفد الفلسطيني القادم من تونس الذي ضم حكم بلعاوي، مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة التونسية، و بلال الحسن، الكاتب و الصحافي الفلسطيني المعروف، و آخر سقط من بين ثقوب الذاكرة. رأى وفد تونس، يؤازره رئيس الاتحاد، الزميل الراحل سعد قاسم حمودي (وذلك نكاية بسورية)، أن الإجراء الأسلم هو تسليم الرسائل إلى رئيس الاتحاد وترك حرية التصرف له في تلك الرسائل. كان واضحاً للجميع أن موقف رئيس الاتحاد نابع من الخلافات المستحكمة بين شقي حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكمين في كل من سورية و العراق، و لذلك تجاوز الحاضرون تلك النقطة الإجرائية حتى لا يستفحل الامر. فوجئ وفد تونس برسالة رفاقهم من دمشق و لم يحسبوا لها حساباً، فطلبوا نجدة من تونس تعزيزاً لصفوفهم، فأرسل أبو عمار خالد الحسن (أبو السعيد) عضو مركزية فتح، و معه رجل المهام السرية الدقيقة، عماد شقور.

توزع الإخوة الحسن على ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، فقد كان خالد من زعماء اليمين في حركة فتح، و هاني يقف في الوسط يميل حيث تميل الريح، و يجلس بلال في صفوف اليسار يتنقل بين ظلاله، ينتقي المديد منها في كل مرحلة من المراحل. أما عماد شقور، الذي ربطتني به علاقة طيبة، فهو الرجل الظاهر – الخفي، و الفتى الوسيم الذي يقف الى جوار أبي عمار فلا يلحظه أحد، محدث لبق و راوية واسع الإطلاع لا يُمل حديثه مهما طال، تلتقط العدسة صورته، لكن لا ينتبه إليه أيّاً كان، و لا يتوقف عنده المدققون في ملامح الوجوه و صور الأشخاص. يرسله أبو عمار الى مهام يقتضي إنجازها مهارة بعينها فلا يُخيّب ظنه، و لكنه ظل دائماً الحاضر الغائب. أمضيت معه في الرباط جلسات امتدت إلى ساعات الفجر الأولى، و كان ذلك آخر عهدي به.

تجاوز المكتب الدائم عقبة الانقسام الفلسطيني الكؤد بتأكيده على وحدة اتحادهم و ببذل الجهود لإعادة اللحمة إليه، رافضا انشقاق و انقسام المنظمات النقابية الصحافية العربية. و بعد فترة وجيزة من انفضاض اجتماع الرباط، و من اندلاع انتفاضة أطفال الحجارة، عاد الجميع الى أحضان فتح الدافئة، يتفيأ كل منهم أشجارها الوارفة المثقلة بثمار سهلة التداول في كل الأسواق و البلاد.

(2)

عرّج المكتب الدائم نحو قضية القضايا الشائكة و أزمة الأزمات المستفحلة فبحث ملف الحريات الصحافية العربية التي تزداد سوءاً كلما انفرجت كوة من “حريات نسبية”. هنا كان لزاماً عليّ أن أطرح على بساط البحث الاعتقال “التعسفي” الذي طال بعض الصحافيين “المايويين” و منهم الزميل الراحل حسن ساتي و الزميل فضل الله محمد و آخرين. اعترض ممثلو النقابة السودانية على مناقشة أمر اعتقالهم باعتبارها ليست من القضايا التي تمس الحريات الصحافية و العامة و حرية الرأي، و ذلك كونهم من سدنة النظام البائد و مناصريه و محازبيه الذين نكلّوا بزملائهم الصحافيين فصلاً و تشريداً و مطاردةً محمومةَ و دسائس عند أهل السلطة و أجهزة الأمن المرعبة. قد يكون كل ذلك صحيحاً – وهو فيما يتعلق بالنقيب عمر عبد التام والزميل يوسف الشنبلي موثق ومشهود -وربما ارتكبوا أو شاركوا فيما أورده الزملاء ممثلو النقابة السودانية، ولكن هذه الحجة لا تبرر الاعتقال التحفظي والحبس بناء على أوامر إدارية. إذن ما الفرق، ساعتئذ، بين سلطة غاشمة مستبدة تسوم الناس العذاب لمجرد الاشتباه، ويخلع أشباحها الأبواب قبيل الفجر فيأخذون الناس الآمنين قسراً من مضاجعهم الى غياهب السجون أو تختفي آثارهم حتى اليوم، وبين نظام ديموقراطي يرعى الحريات العامة ويحترم حكم القانون وسلطة القضاء المستقل.

كان ممثلو النقابة السودانية في اجتماع الرباط – مثلهم مثل كثير من الصحافيين السودانيين – من ضحايا النظام، بلا ريب، ذاقوا على يديه الأمرين فصلاً و تشريداً و هجرة الى أنحاء المعمورة، و في بعض الأحيان الى أرض خراب غير معمورة تعصف فيها رياح السموم و تنعق بها الغربان فوق أشجار العوسج و الزقوم. لكن ذلك لا يعطيهم الحق في التشفي أو الانتقام بذات الوسائل و الأساليب أو بغيرها، بل يجب أن يدفعهم الى المطالبة بتحقيق العدالة و إحقاق الحق.

طالبت وغيري من أعضاء المكتب الدائم بإطلاق سراح الموقوفين فوراً أيّاً كانت التهمة الموجهة إليهم، سيما إن كانت تتعلق بإيمانهم بنظام 25 مايو. فحق الناس في الإيمان بالنظم والدفاع عن رأيهم السياسي حق لا مراء فيه، الا أنهم في النهاية يخضعون للقانون ولحكم العدالة إذا ما ارتكبوا جرائم تعاقب عليها القوانين المرعية الطبيعية غير الاستثنائية، وإذا ما زودوا بكل وسائل الدفاع ولم يحرموا ممن يمثلهم أمام المحاكم. وفي سبيل ذلك رأي أعضاء من المكتب الدائم أن تسعى النقابة السودانية الى حضور جلسات التحقيق معهم وتوكيل محامين يدافعون عنهم أثناء التحقيق ومتابعة مجرياته، وحينما يقفون أمام القضاء العادل، إن وجهت إليهم تهمة تتعلق بآرائهم أو بممارساتهم المهنية. و قد أطنب في ذلك الزميل جلال عارف، أمين سر نقابة الصحافيين المصريين. توافق المجتمعون على ذلك و كلفوا النقابة السودانية بالعمل على إطلاق سراح الموقوفين، على أن تتابع الأمانة العامة للاتحاد هذه القضية عن قرب.

يحضرني اليوم ما جرى في ذلك الاجتماع، و أنا أتابع العسف و التنكيل الذي يتعرض له الصحافيون السودانيون و الصحافة السودانية مؤخراً. فقد حجبت صحف عن الصدور و أغلقت أخرى، كما اعتقلت الأجهزة السرية صحافيين عرّضتهم الى تعذيب جسدي أثيم نشرت صور آثاره على أجسامهم على نطاق واسع، حملته الشبكة العنكبوتية الى العالم كله، و آخر نفسي لم نعلم مداه حتى اليوم. و يقف اليوم زملاء أمام المحاكم بتهم لا تثير الاستهجان فحسب، بل السخرية ممن صاغها و قَبِلَ بتوجيهها؛ “فالانتقاص من هيبة الدولة” و “الكذب الضار” و “إشانة السمعة” تبعث على الاشمئزاز و الازدراء.

الدولة الحق في عالم اليوم لا ينتقص من هيبتها خبر أو مقال في صحيفة سيارة أو اسفيرية، و لا ينال منها برنامج إذاعي أو تلفزيوني أو رسم كاريكاتوري، و الا لتداعت هيبة الولايات المتحدة الاميركية مما ينشر في صحفها و ما يذاع على الأثير عنها أو ينقل عبر الفضاء، فلا يحفل بها أحد و لما وجد الجنرال قريشون من يستقبله في البلاد و يرجو رضاه؛ و لنالت مجلة الكنار انشنيه من الدولة الفرنسية لتصبح هزءاً على قارعة الطريق، و على هذا المنوال لأضحت هيبة دول كثيرة، يحسبون هم لها ألف حساب، تتمرغ في الطين. قالها أحمد بن الحسين أبو الطيب المتنبي قبل ما يزيد عن ألف عام:

على قدر أهل العـزم تأتي العـزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم
و تعظم في عين الصغير صغارها و تصغر في عين العظيم العظائم

أما “الكذب الضار” فهو بدعة البدع، إذ لم يعلم الناس من قبل عن “كذب نافع” أم هو كناية عن الصدق حينما لا يحتمله الحاكم!

و تأتي تهمة “إشانة السمعة” لتكشف مدى ضعفهم و هوانهم، و هي فرية عند بعض حكام المنطقة عرفت “بإطالة اللسان”. من أين لهم العصمة و هذه القداسة التي أسبغها عليهم الزبانية و السدنة و قد خلقوا من ماء مهين؟ على من يشتغل في العمل العام أن يسمع رأي الناس فيه كره ذلك أو لم يكره، و يصدق ذلك على من ارتضى الوقوف تحت الأضواء من كتاب و صحافيين و مفنين و من على شاكلتهم.

احتجزت الاستخبارات العسكرية اللبنانية في يوم من الايام الصحافي اللبناني الشاب حسن عليق الذي يعمل في جريدة “الاخبار” اليومية التي تصدر في بيروت لمدة ست ساعات ثم أطلقت سراحه. نشر هذا الصحافي – قبل احتجازه – تحقيقاً يدعي فيه إن طلب وزير الدفاع اللبناني، الياس المر، من قائد الجيش، العماد جان قهوجي، الانتظار قليلاً حتى يجري التأكد من معلومات تتهم العميد في الجيش اللبناني، غسان الجد، بالعمالة لإسرائيل قد أتاح لهذا الأخير فرصة الفرار خارج لبنان. غضب الوزير المر و أوعز الى الاستخبارات العسكرية باعتقال الصحافي و استجوابه لأنه أشان سمعة الوزير و قائد الجيش و المؤسسة العسكرية، كما عقد مؤتمراً صحافياً كال فيه الاتهامات بالعمالة و التجسس للزميل حسن عليق. في هذه الأثناء كانت رتب كبيرة و نجوم لامعة على الأكتاف في استخبارات الجيش العسكرية تتناوب على “استجداء” الصحافي معرفة أسماء مصادره التي استوحى منها هذه المعلومات فلم تستطع. لم تمتد إليه يد الا بما يشرب أو يدخن أو يأكل، بعضه رفضه بإباء، و لم توجه إليه كلمة نابية واحدة. وحينما تحدث مع عائلته بالهاتف، وهو في حضرة المحققين، وسمع منهم ما كان يقوله وزير الدفاع بحقه في المؤتمر الصحافي، لم يتردد عن القول على مسمع من تلك الرتب الكبيرة: “أيتقول على بهذا ربيب إيلي حبيقة؟” كان إيلي حبيقة من قادة المليشيات المارونية أيام الحرب الأهلية في لبنان (1975 – 1995) الذين تعاونوا مع إسرائيل وقاد مسلحين شاركوا في مجزرة صبرا وشاتيلا. لم ينهر ضابط من الضباط الصحافي الشاب حين سمعوا وصفه القاسي لوزير الدفاع، دع عنك الاعتداء عليه أو تعذيبه. فالوزير المر دخل العمل السياسي و ليس أمامه الا أن يتحمل نبش الآخرين في ماضيه أو التفتيش في حاضره….

خرج حسن عليق من الاحتجاز القسري ليكتب في اليوم التالي قصة تلك الساعات الست في جريدته، ولتطلب “الاخبار” في عنوانها الرئيس “اعتذاراً من وزير الدفاع”. في تلك الساعات التي أمضاها هناك لم تهدأ نقابة المحررين ولا نقابة الصحافة. ذهبت قيادتيهما الى الجميع بما فيهم الوزير الياس المر والعماد جان قهوجي، فضلاً عن الرئاسات الثلاث والوزراء وزعماء الأحزاب وتحرك السياسيون والبرلمانيون وزملاء المهنة وكل من يتعاطى الشأن العام. فقد عدوا ذلك مصيبة ألمت بلبنان و رزية حاقت به و اعتداء غاشم على سيادته و تغول على حرية الرأي و التعبير فيه تمس كل فرد منهم.

وقد حاكموها و المنايا حواكم فما مات مظلوم و لا عاش ظالم

فأين هذا مما جرى و يجري في السودان؟ ألم يحن الوقت ليهب الصحافيون و “قادة” الرأي في البلاد الى توثيق كل اعتداء وقع على الصحافة و الصحافيين و على حرية الرأي و التعبير باليوم و الساعة و الدقيقة و الثانية و الاسم و الرتبة و الجهاز و الكنية؟ كانت بادرة طيبة تلك التي قامت بها ست صحف يوم احتجبت عن الصدور احتجاجاً. سيأتي لا محالة اليوم الذي ينتظر فيه من لم يشارك في هذا الاحتجاج الى من يتضامن معه مثلما جرى مع “المايويين” في اجتماع الرباط ذاك!

رحم الله شاعرنا محمد سعيد العباسي:

مالي وللخمـر رقَّ الكأس أو راقـا وللصبابة تصلى القلـب إحراقا
مضى زمـان تســـــاقينا الهوى بهما في فتية كرموا وجـدًا وأشـواقا
زهر الوجوه متى سيموا الهوان لووا سوالفًا كصوى الساري وأعناقا
صـحبٌ حملـت لـواء العشـــق بينهـم من قبل أن يصبح العشاق عشاقا

elsouri1@yahoo.com

التعليقات مغلقة.