كامل محجوب: صفوة لم تفشل ناهيك عن أن تدمنه

كامل محجوب: صفوة لم تفشل ناهيك عن أن تدمنه
  • 23 سبتمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله علي اٍبراهيم

(عرض لسيرته بقلمه المعنونة “تلك الأيام”، الجزء الأول)

أريد لاحتفالي بالذكرى الخامسة والتسعين لميلاد أستاذنا عبد الخالق محجوب أن يكون عن الجذرية السياسية فيما بعد الحرب العالمية الثانية وكيف كان الحزب الشيوعي، الذي صار قائداً له في 1949. مولوداً شرعياً لها. وسيأخذنا هذا المبحث لذكرى رجال ونساء جاؤوا كل من فج عميق بأثر هذه الجذرية وسحرها ليتركوا بصمة غراء في حياة السودانيين والكادحين منهم بالذات.
لو سألت شيوعياً حزبياً اليوم عن كامل محجوب، موضوع كلمتي لهذا اليوم، لقال لك، متى عرفه، “دا الاتفنس لما قام انقلاب عبود وباع نفسه لنميري”. وصح هذا أو لم يصح سترى التاريخ الحزبي الذي يهدره هذا المناضل الأصنج بالتفريج عن غبائن لا وعياً.
“تلك الأيام” لمؤلفه الأستاذ كامل محجوب لا غنى عنه للمهتمين بمآل اليسار السوداني أو تقويم دور الصفوة في الحياة العامة. فقد أصبح تبكيت الصفوة، مطلق صفوة، على خمولها أو فشلها أو فسادها عبارة دارجة. وكنت نبّهتُ في مقدمة لسلسلة ثقافية بعنوان “كاتب الشونة”، أصدرتها وأنا في غيهب العمل السري الشيوعي في 1976، إلى ضرورة التمييز بين أقدار وفئات الصفوة المختلفة. وقلت إن صفوة البرجوازية الصغيرة النميرية تعمم مثالبها، و”صَغرة” نفسها، وعقمها لتبدو خصالاً عامة للصفوة السودانية، مطلق صفوة. وقلت في مقدمتي إن صفوة البرجوازية الصغيرة هذه تنسى أن من بين زملائها في مقاعد ومدارج الدرس من اختار بذكاء وأريحية وتجرد منذ منتصف الأربعينات أن يولوا وجهوهم شطر غمار الناس، وشغفوا ببث الوعي السياسي بين قوى العمال والمزارعين حتى نهضت بينهم منارات النقابة والاتحاد والنادي الاجتماعي وغيرها. ولذا قال أستاذنا عبد الخالق حين سأله المحققون في 1971: “ماذا أعطيت لهذا الشعب”. قال: ” بعض الوعي”.
كتاب كامل هو الشهادة بأني صادق. ففي أكثر الكتاب يحكي كامل عن تفرغه للعمل الشيوعي بين مزارعي الجزيرة خاصة والمزارعين عامة بين الأعوام 1952-1958. وبدأ كامل نشاطه، الذي سبقه إليه الأستاذ حسن سلامة، بدراسة أولية لأوضاع مشروع الجزيرة ومتاعب المزارعين بكل فئاتهم فيه على ضوء ما كنا نسميه بـ “عموميات الماركسية”. ومن فوق دراسة المجال هذه انطلقت قاطرة الحزب إلى الريف بواسطة رجال بلغوا من التجرد الغاية حتى وصفهم كامل بـ “الصوفية”.
ومن أميز أبواب الكتاب وصف كامل للقائه بالمرحوم الشيخ الأمين محمد الأمين، القائد البارز لمزارعي الجزيرة عن الحزب الشيوعي، وهو على أبواب السفر للحج. وهو اللقاء الذي قدح شرارة عمل نقابي شعبي تناصر فيه المثقف والطلائعي الجماهيري وبلغ ذروته الدرامية في موكب مزارعي الجزيرة اللجب الشهير في 1953 الذي احتشد بميدان عبد المنعم (نادي الأسرة) وفرض شرعية الاتحاد على الإدارة الاستعمارية فرضاً.
لم يكن هذا بخروج كامل الأول ليبلغ بثقافته غمار الناس. فلم يبدأ كامل ماركسياً، بل بدأ إسلامياً في تعلقه بالشأن العام كعضو في جمعية سرية رتبها المرحومان حسن عبدالحفيظ وشيخ الدين جبريل في حوالي 1942. فقد اقتنع المرحومان أن استقلال السودان لن يحققه الأفندية ولكن يحققه الرعاة والمزارعون مستندين إلى قوتهم المسلحة. وكانت هذه النبرة السياسية قد شاعت بين طائفة من وطنيِّ منتصف الأربعينات. وإليها نرد بدايات الحزب الجمهوري الذي أسسه المرحوم محمود محمد طه وصحبه ممن كرهوا أساليب قادة مؤتمر الخريجين (1939) الصفوية في النضال، وتلفتهم صوب مصر أو بريطانيا دون عمل أو وعي عميق بالشعب. وأصاب كامل، وهو صبي بالكاد تخرج من المدرسة الوسطى، هذا الشغف بضرورة استصحاب الشعب في معركة التحرر من الاستعمار. وقد استقرت هذه الجماعة الإسلامية على مشروع تؤسس لنفسها به الاتصال بالشعب وهو تشييد ساقية جنوب مدينة كوستي كبؤرة للقاء مثقف المدينة بجحافل الريف (كما كان يقول رفيقنا المرحوم حسن عبد الماجد) وأعود في غد أحدثكم عن ساقية كامل الإسلامية التي اشتعلت حمرة يوم تفرغ للعمل الشيوعي بين المزارعين عام 1952.
ونختم في كلمة أخرى.

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.