شابو: شاعر ديمة وإنا مشينا إلى حتفنا رعيلاً رعيلا

شابو: شاعر ديمة وإنا مشينا إلى حتفنا رعيلاً رعيلا
عبدالله شابو
  • 31 أكتوبر 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عبد الله علي إبراهيم

كان السي دي في البص الفخيم يندى الأسماع ب “الفينا مشهودة”. والبص يشق بنا عنان مروج النيل الأبيض الخضراء نحو مدينة كوستي تلبية لدعوة من السيد محمد عبد الرحيم بابكر شينبو، وزير الثقافة والإعلام والشباب والرياضة، بولاية النيل الأبيض لتكريم صديقنا ورفيقنا الشاعر عبد الله إبراهيم موسي الذي سار عليه اسم شابو حتى طغى على الأسماء جميعاً. وقرينة هذه الدعوة أن شابو من بلدة الكوة التابعة للنيل الأبيض وقد تعلم بكوستي ودرَّس بكل من الكوة وكوستي.
الفينا مشهودة
عارفانا المكارم انحنا بنقودها
والحارة بنخوضها
هذا صوت الفروسية السودانية التقليدية التي تراوح بين “كاتال في الخلاء وعقبان كريم في البيت”. في هدأة قصيرة بالبص الحاشد برفاق شابو وأحبابه قلت لنفسي ما المكارم التي خاضها جيلنا اليساري لنستحق يوماً ما مثل هذا الغناء العذب؟ لربما ما كنت عرفت شابو في مطلع الستينات لو لم ينتم كلانا لليسار نتهجى حب الشعب والطبقة العاملة بالكلمة في الندوة الأدبية بأم درمان وحول شيخها المرحوم الأستاذ عبد الله حامد الأمين. وهو الرجل العزيمة الذي انحنى لتحيته الزعيم جمال عبد الناصر بالنظر إلى أنه حبيس كرسي متحرك فقال: “حين انحنى العملاق وقفت”. وكنا نلتقي في حلقات أخرى نخطط لوثبة الروح السودانية من ربقة الاستعمار كما هي تبعة المبدعين الذين وصفهم الكاتب الروسي المهيب جوركي بأنهم مهندسو الروح الإنسانية.
يحكي السودانيون عن حرفة الشعر الشقي نادرة رائجة. والشعر هي الحرفة التي أدركت شابو. تروي النادرة عن رجل جاءته ليلة القدر فأراد أن يتمنى الغنى فتلعثم وقال “الغناء” بدلاً عنها فصار فيه حتى جنى الجنا. سمعت النادرة أول مرة في جزيرة مقرات لتفسير تسلسل الغناء في عائلة ود الكليباوي. واختار شابو بوعي مخاطر أن يعيش “شاعراً مثالا” في حين كانت تهش دنيا الأفندية له. كان حين عرفته قد عاد لتوه من بعثة بالولايات المتحدة هي الأولى من نوعها. وكان يمتطي سيارة موسكوفتش خضراء اللون حين لم تكن السيارة بدعة وضلالة بعد. فلم يستقلها لمواضع الجاه الأفندية بل سخرها لمقاطيع النصيب الكتاب والشعراء المطاليق في رحلاتهم الليلية المعروفة.
لا أعرف من مَحَض الشعر ولاءه مثل شابو. هو مثل محمد المهدي المجذوب في هذا. فالمجذوب كان شديد الوعي بالتناقض بين الأفندي والشاعر. وكان يقول لمن يطري شعره: “والله انا محاسب في المجموعات. ما ترخص مقامي”. وهذا محض هزء وتقية. أما شابو فقد بلغ من الفطرة أنه لم يفطن حتى للعوالم الأفندية طيبة الجناب التي اكتنفته. استغرق شابو في الشعر مجذوباً أب عبل وقد تنزه عن الملكية الفردية:
يا شعبي المجيد كالنهار كالذرة
مزاهري وكل ما ملكت لك
فصائدي وكل ما مالكت لك
هذه الزهادة الشابوية جعلته شاعر ديمة. وقد أنشأنا على هذه الفطرة شعراء رضعنا من كلِمهم وخلقهم وعزائمهم. هم الشعراء مصابيح أمتهم. زرقاء اليمامة. فرسان الأمل. طليعة الفتح بالرؤى ممن هجرتهم للشعب بين المنفي و السجن: “لي ليلة فيه وكل أبناء جيلي الشهيد عاشوا لياليه”. كانوا كزهر النجوم: غارسيا لوركا القتيل، ولويس أرغون الفرنسي، وناظم حكمت التركي، وبابلو نيرودا من الارجنتين، وكمال حليم من مصر، والبياتي من العراق. ولما عاج الأفندي الشقي إلى دنيا يكتسبها وفوائد ما بعد خدمة يجنيها عاج شابو في عمر متقدم ليدرس الاسبانية على يد قسيس بكوستي. ودرّسه شابو العربية في المقابل. وكان شابو يريد بذلك أن يقرأ للوركا وبابلو نيرودا في لغتهم أصلية لأن الترجمة تفسد النص.
غنى مغني البص الجهبوذ: عارفانا المكارم. وقلت تلك فروسية الدراويش الفرسان “بتاعين أولي”. فماذا عن فروسية جيلنا الذي لم يبلغ الغاية من مشروعه حتى ظنوا أن شواهد قبوره ستكون بلا اسم أو رسم. ولكن كان شابو لهم بالمرصاد وكتب شاهد الجيل بما لا مزيد عليه:
سيكتب فوق الشواهد من بعدنا
بأنَّا عشقنا طويلا
وأنَّا كتبنا بدم الشغاف
كأنه لم يقل شاعر بعدنا
وأنّا برغم الجفاف
ملأنا البراري العجاف صهيلا صهيلا
وأنا مشينا إلى حتفنا
رعيلاً يباري رعيلا
وإنا وقفنا بوجه الردى
وقوفاً جميلا
سيكتب فوق الشواهد من بعدنا
بأنا كذبنا قليلا
وانَّا انحينا قليلا
لتمض الرياح إلى حتفها
وأنَّا سقطنا سقوطاً نبيلا
وأنا آه آه ،أنا آه ,آه من الصهيل الشهيد

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.