السلطان العثماني مراد كشرطي أخلاق
هدم كل مقاهي إسطنبول ومات شاباً بتليف الكبد

السلطان العثماني مراد كشرطي أخلاق <br> هدم كل مقاهي إسطنبول ومات شاباً بتليف الكبد
  • 17 ديسمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

قلت أمس أنني سأعرض اليوم مقال “شبهات حول شرطة الأخلاق في الإسلام” بقلم مصطفى أكيول في مجلة “نيولاينز” (5 ديسمبر 2022). وكانت شرطة الأخلاق فينا لثلاثة عقود لاقتها المعارضة بعقل المقاومة لا النهضة. وعقل النهضة هو الذي لا يقتصر اشتباكه مع الظاهرة كعاهة لنظام سياسي بعينه مثل الإنقاذ فحسب، بل كعاهة نظام اجتماعي وثقافي وتاريخي أيضاً لا تستنفده الأنظمة السياسة. فالنظام الاجتماعي كالغول في الأحاجي. له رؤوس (كتشنر، عبود، نميري، البشير) كلما قطعت رأساً نبت رأس بديل. فالعاهات في النظام الاجتماعي انتهازية بلا مدسة. فلا مانع عندها أن تضحي بنظام سياسي لم يعد يحسن إليها بنظام سياسي آخر طلباً لطولة العمر فينا.
ويخرج المقاوم متى قصر صراعه مع مثل هذا النظام على الشعار السياسي صفر اليدين. وعليه أن يعيد مقاومته بحذافيرها للنظام السياسي الذي نبت بعد قطع رأس سابقه وله طلع الشياطين.
ومقال مصطفي محاولة للاشتباك مع شرطة الأخلاق في الإسلام نهضوياً بقراءة لفقهها، وممارستها، وصدام الرأي فيها. والحصيلة من مثل هذه القراءة اقتحام باطن الظاهرة للسيطرة عليها بوعي قائم على معرفة دقائقها ومنعطفاتها ودراماها.

جاء مقال مصطفى بالركائز العقدية من وراء شرطة الأخلاق ومثيلاتها. فورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في 8 مواضع من القرآن ذروتها “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” (3:104). واستعان مصطفى بكتاب للأكاديمي مايكل كوك “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي” (2000، 702 صفحة).
قال مصطفى إنه بينما كان الحنابلة يخرجون بالآية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر لدهم المتاجر والدور، ولتحطيم قناني الخمر والآلات الموسيقية وطاولات الشطرنج، والتعرض في الشارع للمرأة والرجل يسيران معاً فيه، وتخريب طقوس الشيعة التعبدية كانت الآية ملهمة للثوار ضد الحكام الطغاة. فكان المعتزلة يفحمون بها خصومهم الذين يدعون إلى الطاعة المطلقة لولي الأمر الغالب الظالم.
لم يشرع القرآن عقوبات على من لم يلتزم بأركانه الخمسة مثل الصلاة بينما حَدّ للجراح والسرقة والزنا والقذف. فالحديث، لا القرآن، هو الذي وضع العقوبات على أركان التعبد ومسائله. وأكثر الأحاديث في هذا الخصوص أحاديث آحاد. فصار ترك أي شعيرة من شعائر العقيدة جريمة موجبة للعقوبة. فقال الطبري إن من ترك الصلاة على أنها غير ملزمة فهو كافر كالمرتد إلا إذا تاب وتفاصيل أخرى. وقضى ابن حنبل بكفره وقتله بينما أذن الشافعي ألا يقتل حتى يستتاب، وإن لم يفعل قتل بالسيف. وحكم أبو العباس السريج بضرب تارك الصلاة بالعصي حتى يموت. وأذن الماوردي بالجلد والتعزير، وهي عقوبات وضعية.
ويأتي الكاتب للحسبة وهي فرق المنفذين لأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي راجعة إلى ممارسة النبي (ص). وقصرها النبي على ضبط السوق الذي أنشأه أول حلوله بالمدينة: “هذا سوقكم فلا ينتقصن ولا يضربن عليه خراج”. وكان يزور السوق بنفسه ليقف على احتيالات أهله التي نهى عنها القرآن. وانتدب النبي على السوق رجالاً ونساء فيهن سمراء بنت نُهيك الأسدية. وانتدب الخليفة عمر على السوق الشفا بنت عبد الله. وعُرف محتسبو الشوق ب”عمال السوق” بينما عُرفوا في الأندلس ب”صاحب السوق”.
وجاء الكاتب بأصل مصطلحي المعروف والمنكر في اللغة للتدليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يبدأ بما انتهي إليه من إكراه. ونظر هنا إلى آراء لكل من أبو عمرو بن العلاء التميمي (ت 712 هجرية) وهو من التابعين، أي الجيل العاقب لجيل النبي، ومقاتل بن سليمان (ت767) وهو من كتب أقدم تفاسير القرآن.
فلم يكن الأصل في المعروف والمنكر في المعنى الذي انطبعت به شرطة الأخلاق في المتأخرين. فالمفهومان معلومان منذ الجاهلية. فالمعروف في دلالة النبل والأريحية ربما في مثل قولنا “بالله اعمل معروف”. والمنكر ما ينقض المعروف. فالمعروف في قاموس ابن منظور (ت 1312) هو ما ساغ للناس وانتفعوا منه. أما المنكر فهو الناشز من القول والفعل يؤذي الضمير.
فقال أبو العلاء إن الأمر المعروف والمنكر لم يخرج عن دعوة الناس بعيداً عن الوثنية ومنع عبادة الأوثان والشيطان. أما ابن مقاتل ففهم من المعروف والمنكر تزكية وحدة الخالق للناس ومنع الشرك.
ومن رأي الكاتب أن وظيفة الحسبة، التي اقتصرت على ضبط السوق، تحولت إلى وظيفة دينية تتربص بمن يأتي بالمنكر من الأعمال فتعاقبه مثل دلق الخمر على الأرض، وحطم الآلات الموسيقية، وضرب الخليع وتمزيق لباسه الحرير. وزكى الحسبة كحرب على البدع والتجديف دون غيرها من الشرور. وهكذا انتهت الحسبة إلى الإكراه الديني بواسطة شرطة أخلاق بعد أن كانت شرطة مكاييل وموازين.
كان لتطرف جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ردود فعل فقهية من علماء خشوا على الدين منها. فأزعجت حسبة جماعة الكاديزادلي في الدولة العثمانية الحنفي الصوفي العثماني عبد الغني النابلسي (ت 1713). فغلب على الجماعة تأثير ابن حنبل (ت 1328) فاشتطت حتى اضطربت الحاضرة العثمانية من فرط ذلك الشطط. فكان من رأيها أنه ما تردى بالعثمانيين سوى البدع مثل الصوفية التي تشجن الناس بالموسيقي، والعلوم المنطقية مثل الفلسفة والرياضيات، وشراب القهوة والدخان التي استشرت في أرجاء الإمبراطورية. ووقع السلطان مراد الرابع تحت تأثير الكاديزادلي فهدم كل المقاهي في إسطنبول، وأعدم المدخنين ومتعاطي الخمور. وكان السلطان سكيراً مدمناً مات عن 27 عاماً من تليف الكبد.
خرج النابلسي لنقض الكاديزادلي التطهرية ومبالغاتها في العقيدة والممارسة. ففرق بين الأمر بالمعروف والحسبة التي سادت معتقداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وممارسة عقابية لتحقيقهما. فقال إن الأمر بالمعروف يكون باللسان لا عقوبة ناجزة. وممكن للإنسان أن يتبع النصح في سكة المعروف والنأي عن المنكر، أو لا يتبعها، ولا جناح عليه من عقوبة. فالعقوبة إكراه على الدين مستنكر من القرآن: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”. وذلك كان أول إدلاء بالآية في خطاب الحسبة تنقية للدين من الإكراه عليه.
وجاء كاتب شلبي (ت 1657) بكتابه “ميزان الحق” ليواصل الخصومة مع الكاديزادلي بعد النابلسي. فقال إن النبي كان سمحاً مع رعيته غيره عن الرجال المغرورين في الأزمان المتأخرة الذين تفننوا في رمي الناس بالكفر لأسباب لا قيمة لها يثيرون الفتن والعراك الدموي بين الناس.
لم يكد زخم ثورة ديسمبر 2018 يتراخى حتى كان من أول ما انشغلت به الثورة المضادة هو استعادة قانون شرطة النظام العام. فالقانون مجرب ناجع كما لا قانون مثله في السيطرة على الأسرة والجنس وحجب الناس عن حرياتهم التي تدعوهم للطلاقة في الآفاق.
وضرب المقاومون الروري. والني للنار.

عنوان الكتاب العمدة في تقصي ظاهرة شرطة الأخلاق
Michael Cook, Commanding Right and Forbidding Wrong in Islamic Thought (Cambridge University Press, 2000).

للمرحوم عبد العزيز بطران كتابات مميزة عن جدل التبغ والتدخين بين علماء المسلمين في أفريقيا.

IbrahimA@missouri.edu
///////////////////////

التعليقات مغلقة.