قتل المدن في حرب المدن: قراءة مدنية في حرب ” الخرطوم”

قتل المدن في حرب المدن: قراءة مدنية في حرب ” الخرطوم”
  • 08 يوليو 2023
  • لا توجد تعليقات

إمام الحلو

«الحرب أخطر من أن تُترك للجنرالات»،
رئيس الوزراء الفرنسي جورج كلمينصو (1917-1920)
مـلخـــــص
حرب ” الخرطوم” (15 أبريل 2023م)، تصنف ضمن حروب الحضر (حرب المدن)، والتي لها خصائص تختلف عن الحروب التقليدية بين الجيوش وتختلف عن حرب العصابات مع المليشيات المسلحة. فالعمليات العسكرية في المدن أصبحت ذات خاصية فريدة. إذ اتسعت من مستوى الشارع وتحت الأرض، إلى مستوى الفضاء العالي فوق المدن وتحولت إلى حصار مقرات صغيرة مرهق.
يعيش الآن أكثر من نصف سكان العالم في البلدات والمدن، وهو رقم قيل أنه من المتوقع أن يرتفع إلى الثلثين بحلول عام 2050. إن الحروب العسكرية الرئيسية في القرن الحالي ” القرن الواحد والعشرين” تمت داخل مدن مكتظة بالسكان. وفيما تتزايد أهمية المدن كتجمعات سكانية ومراكز اقتصادية، فقد أصبحت كذلك تمثّل جبهات وخطوطاً أمامية في معظم الصراعات المسلحة في عصرنا الحالي.
حرب “الخرطوم” بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، (15 أبريل 2023م) هي حرب حضرية، تمددت في مدن عديدة وأعنفها في العاصمة الخرطوم. والتي دخلت الاشتباكات فيها شهرها الثالث من دون أن يستطيع أي طرف حسم المعركة لمصلحته.
لقد واجه الملايين من سكان الخرطوم عنف وشراسة القتال بين الطرفين، وقُتل منهم أعداد كبيرة،- أوردت تقارير أنها تجاوزت ثلاثة الآف قتيل-، معظمهم بسبب سقوط قذائف المدفعية وصواريخ الطيران الحربي ودانات الاسلحة الثقيلة. وخرجت عشرات المستشفيات عن الخدمة، وانهارت خدمات المياه والكهرباء وشبكات الاتصالات، وبالطبع توقفت كل المرافق والمصالح الحكومية، وتهدمت البنيات الاساسية والمباني الاستراتيجية.
إن الصدمة العنيفة لحرب “الخرطوم”؛ والخوف المستمر من العنف الشديد والشعور بالعجز، ستتسبب بجروح نفسية عميقة, مع نقص عميق في تقديم الخدمات الصحية والنفسية للأشخاص الذين ما زالوا يرزحون تحت الحصار بفعل القتال، فضلاً عن الأشخاص الذين يعيشون في مراكز إيواء أو مع أقارب في بلدات ومدن اخرى وفي البلدان المجاورة.
كما أن الدمار الشامل للمباني والمنشآت والمرافق العامة والبنية التحتية للمدينة، سيعيد التنمية إلى الوراء لعقود، وتدمير ما تم من إنجازات تنموية إلى جانب المؤسسات والمعالم المحلية الهامة والتي تدمَّرت في غضون ثوان معدودة، ستترك ندوباً ستحتاج إلى مليارات الدولارات من الاستثمارات وعشرات السنين من العمل لمعالجتها.
إن استمرار هذه الحرب لمدة أطول، ستكون انعكاستها عميقة وأضرارها عصية. تتجاوز المباني إلى المعاني في تخريب ما تم إنجازه -على ضعفه – في معالجة قضايا التحديث والتنمية السياسية، خاصة مسألة بناء التكامل القومي والاندماج الوطني ، وقضايا المشاركة السياسية وتوسيعها..والقضية المهمة.. معضلة الشرعية المؤودة.
المطلوب الآن من القوى المدنية والسياسية خاصة، تغيير الذهنية من الاصطفاف أوالرفض المحايد السلبي ” لا للحرب”، إلى موقف تفاعلي أكثر إيجابية، بنقل المشهد من معركة عسكرية إلى معركة سياسية، وحشد القوى المدنية لمقاومة الحرب ..في مواقف سياسية تجاه القوى العسكرية بالضغط السياسي والقانوني الرادع، وتفعيل الدبلوماسية الشعبية والسياسية للحصول على التضامن الدولي المتماسك.
ومطالبة الدول الأعضاء في مجلس الأمن إظهار “الإرادة السياسية” لإتخاذ موقف أكثر مسئولية تجاه إمدادت الأسلحة والذخائر، والتحقيق في مخالفات القانون الدولي الانساني وجرائم الحرب ومقاضاة مرتكبيها إلى أقصى حد…
إن المعركة السياسية حتى تحقق أهدافها، تتطلب قيادة تتحلى بالكفاءة والإرادة والقبول، وتتطلب العمل الجاد مع ضحايا الحرب لضمان المساءلة والتعافي والمصالحة.
ومتى ما أجمعت القوى المدنية بمكوناتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والمهنية والفئوية وشبابها ونسائها، على تحويل الذهنية، وخوض معركتها السياسية .. فإنه بلا شك سيكون النصر حليفها. كما قال الشاعر الشابي:
إذا التف حول الحق قوم فإنه يصرم أحداث الزمان ويبرم
مدخــــــل
مازال الناس ” أهل الخرطوم” يتساءلون بعدما اصابتهم الدهشة عن الداعي لهذه الحرب الملعونة…وانتابهم الأسى وانتاشتهم الحيرة حينما أنتهبت بيوتهم وممتلكاتهم و ” شقى العمر”. ولما استطالت رحاها بدأو يتشككون في مقولة “حرب جنرالات” … وبدأ الحديث عن أصابع اقليمية ودولية وأبعاد ثقافية وعرقية وتاريخية.
وفي خضم الحيرة والدهشة، يتساءل ” ناس الخرطوم”.. والذين نزحوا منها إلى جوارها والذين نزحوا منها إلى بعيدها.. عن مصير مدينتهم وعاصمة بلادهم .. وهل هناك أمل لعودة ما.. وهل هناك سبيل إلى لحاق ما .. وهل هناك طريقة إلى شيء ما ، يعود بعجلة التاريخ للوراء ..
فربما يعود الناس للخرطوم يوما ما.. ولكنها لن تكون الخرطوم التي كانت…. ببساطة لأن الدولة نفسها لن تعد كما كانت.. لقد كانت الخرطوم عاصمة الدولة المركزية منذ النشأة .. 1822م. واستقرت على ذلك النحو لعهود خلت ..إلى أن أضحت إبان عهد نظام الانقاذ مركز الحياة للسودانيين، عندما إضطر سكان الأقاليم للهجرة إليها طلبا للرزق والعيش، فتضخمت حتى فاضت بأكثر من ربع سكان السودان.
إن ” حرب الخرطوم ” تختلف عن النزاعات المسلحة في دارفور والمنطقتين. إختلافا في الشكل والمضمون.. شكلا فهي حرب بين فصيلين من نفس المنظومة العسكرية ” القوات النظامية السودانية”، الجيش ضد الدعم السريع. بينما حرب دارفور والمنطقتين بين وحدتين عسكريتين مختلفتين ، الجيش والدعم السريع ضد الحركات والجماعات المتفلتة المسلحة. ومضمونا هي تصنف ضمن حرب المدن ” حرب حضرية”، بينما الصراع المسلح في دارفور والمنطقتين أقرب إلى حرب العصابات ” مليشيا” تجوب مساحات واسعة وتهاجم بغتة ثم تختفي..
ولأن الحرب الراهنة في عدد من مدن دارفور وكردفان; الفاشر، نيالا،زالنجي، كتم، برام، الابيض، وبقية المدن، هي إمتداد لحرب الخرطوم ومتأثرة بمجرياتها. عدا مدينة الجنينة فهي حالة متفردة ومأساوية أكثر، لما يعتريها من صراع إثني وقبلي.
خصائص الحروب الحضرية
يقول أنتوني كنج مؤلف كتاب ” حرب المدن في القرن الواحد وعشرين” : إن الحروب العسكرية الرئيسية في القرن الحالي ” القرن الواحد والعشرين” تمت داخل مدن مكتظة بالسكان. وتعنى هذه الملاحظة أن الحروب الحديثة انداحت إلى داخل المدن، أي أصبحت حروب حضرية، ولعل الصورة تبقى واضحة بالنظر إلى معارك في مدن مكتظة بالسكان مثل الموصل في العراق (2014)، وحلب في سوريا (2012-2016) وماريوبول في أوكرانيا ( فبراير 2022)، واخير الخرطوم ( ابريل 2023).
العمليات العسكرية في المدن أصبحت ذات خاصية فريدة. فالحروب الحضرية اتسعت من مستوى الشارع وتحت الأرض، إلى مستوى الفضاء العالي فوق المدن وتحولت إلى حصار مقرات صغيرة مرهق، ، والمقاتلين داخل المدينة يحاربون من أجل الإستيلاء على المباني والطرقات والأحياء. وفي نفس الوقت تقوم وسائط التواصل الاجتماعي الرقمية وشبكات المعلومات بتوصيل أخبار تلك المعارك إلى مستمعين ومشاهدين حول العالم، الذين غالبا ما يصبحون مشاركين فاعلين في الحرب.
كوارث المدن في التاريخ
حتى بداية القرن الحادي والعشرين، كان عدد الناس الذين يعيشون في المناطق الريفية أكثر من المناطق الحضرية، يعيش الآن أكثر من نصف سكان العالم في البلدات والمدن، وهو رقم قيل أنه من المتوقع أن يرتفع إلى الثلثين بحلول عام 2050. وفي بعض الدول يتجاوز الرقم الثلثين. كما في جزيرة تايوان ” مثلا” يعيش 80 في المائة من سكانها.في المدن والبلدات.
وعقب الحرب الأطلسية الثانية، تم تصنيف نيويورك على أنها «مدينة ضخمة» – تلك التي يزيد عدد سكانها على (10) ملايين نسمة. و في عام 2014، وصل عدد سكان مدينة مومباي ” بومباي” الهندية إلى أكثر من (21) مليون نسمة..وتقول الأمم المتحدة أن 33 بلداً تعد «مدناً ضخمة».
وفيما تتزايد أهمية المدن كتجمعات سكانية ومراكز اقتصادية، فقد أصبحت كذلك تمثّل جبهات وخطوطاً أمامية في معظم الصراعات المسلحة في عصرنا الحالي. وفي الماضي «اجتاحت الجيوش المدن وشكلت جبهات كبيرة حولها ومن خلالها»، فالذين يرون أن المدن ساحات قتال حاسمة للحرب، والذين ينظرون إليها على أنها عروض جانبية مدمرة يجب تجنبها بأي ثمن، عليهم الاتفاق على شيء واحد: “أساسيات حرب المدن ليست جديدة. لقد تم حرق وتدمير المدن والتنازع عليها منذ العصور القديمة”.
حرق المدن
عندما أحرق نيرون الطاغية روما في عام 64م، ( حريق روما)، أتلف ثلثي المدنية، ورمى التهمة على المسيحيين من السكان. كان نيرون يرغب في إعادة بناء روما على وجهته، وفي نفس الوقت يتخلص من المسيحيين الذين بدأو في التزايد. وأعيد بناء روما على أسس ومعمار جديد.
وفي لندن تسبب توماس فارينور ” الكسول” خباز الملك تشارلز الثاني ملك إنجلتر، عندما تغافل عن إطفاء نار فرنه بشكل صحيح فتسبب فى حريق مدينة كاملة “حريق لندن العظيم 1666 م” – هدمت النيران مدينة لندن القديمة التي بُنيت في القرون الوسطى، والتي يحيطها سور لندن الروماني الأثري. وقد أعيد بناؤها من جديد على معمار جديد
وفي القاهرة (حريق القاهرة 1952 ) – أشارت بعض اصابع الاتهام إلى الملك فاروق حول مسؤليته عن حريق القاهرة الذى شهد احتراق 700 منشأة ووفاة 46 مصريا و9 أجانب واصابة 552 شخص.
دك المدن
في التاريخ القديم، كانت الحرب يدور رحاها في السهول، وتنتهي إلى تدمير مدن بكاملها، منذ حروب الاسكندر الأكبر ( 356 – 323 ق.م) وحصاره لمدينة صور الفينيقية (332 ق.م) وتدميرها، عندما أمر الإسكندر بقتل السكان جميعًا باستثناء من يلجأ منهم إلى معابد المدينة.
مرورا بتدمير بغداد (1258م) علي يد هولاكو التتاري. لقد صوّر ابن كثير المشهد الدموي في بغداد قائلا “دخل كثير من الناسِ في الآبار وأماكن الحشوش وقُنِيِّ الوسخ، وكان من الناس من يجتمعون في الحانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي المكان، فيقتلونهم في الأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة”. ولشدة عنف هولاكو وقت غزوه بغداد، ظنّ أهلها يومها أنها القيامة، وألقى بالكتب في النهر حتى قيل إنه أسودّ من كثرة الحبر المسال، وقيل إن أعداد القتلى كانت بمئات الآلاف.
وسوبا عاصمة مملكة “علوة” المسيحية، استمرت لما يقارب الألف عام (500 -1504م)، وتميزت بالمساكن الواسعة والكنائس المزدانة بالخضرة والحدائق، وعرفت القراءة والكتابة باللغتين النوبية واليونانية.، دخلتها قوات العبدلاب والفونج فدمروها، وإندثرت معالم مدينة سوبا شرق النيل (النيل الازرق). وانطمست معالم حضارة نوبية عظيمة ولم يتسني لاحقا البحث في آثارها وكنوزها بسبب تبديد سدنة نظام الإنقاذ وبيعهم “الحتات” كما شهد شاهدهم ذات مرة!
يعتبر العديد من المؤرخين العسكريين أنّ أوّل مثالٍ حديثٍ على حرب المدن، بمعنى «حرب الشوارع»، كان خلال حصار سرقسطة (ساراغوسا) الإسبانية من قوات نابليون عام 1809م, عندما تمكّن الفرنسيّون من تحطيم الدفاعات الخارجية لسرقسطة، ثمّ تقدّموا في أحياء المدينة واحتلّوا وسطها وأجبروا القيادة الإسبانية على الإستسلام. وقُتل خمسون ألفاً بسبب المعارك والأمراض، منهم 35 ألفاً من أهل مدينةٍ كانت تضم 55 ألف ساكنٍ عام 1808م.
وقال وزير خارجية أوكرانيا دميترو كوليبا، في أبريل 2022م، عن مدينة ماريوبول، الواقعة على بحر آزوف ، إن «المدينة لم تعد موجودة». نتيجة ضربات القصف الروسي. وقال رئيس بلدية المدينة إنه تم تدمير 1300 مبنى شاهق الارتفاع وأشارت صور الأقمار الصناعية إلى أن ما يقرب من نصف المناطق المبنية تضررت بشدة وتقلص عدد سكان المدينة الذي يزيد على 400000 نسمة بنسبة تزيد على 75 في المائة.
أما أقصى ما وصلت إليه حرب المدن من تدمير وبشاعة، كان في 6 أغسطس 1945م، ” عندما أُسقطت أول قنبلة ذرية في العالم على هيروشيما باليابان واحترقت المدينة في لحظة. ودمرت القنبلة المدينة وقتلت العديد من الأرواح الثمينة. إلى جانب تلك الأرواح، مسحت التاريخ والثقافة والذكريات العائلية للمنطقة بمرور الوقت.”
آثار حرب المدن على السكان والبيئة
“التكلفة البشرية المخيفة لشن حرب في المدن ليست حتمية، بل اختيار”.
الامين العام للأمم المتحدة غوتيريش لأعضاء مجلس الأمن في 25 يناير 2022م.
حين تتعرض المدن للتفجيرات والقصف، يكون 90 بالمائة من الإصابات من المدنيين، حسب أحد التقديرات،وتكون المدارس والمستشفيات في الكثير من الحالات واقعة إلى جانب أهداف عسكرية مشروعة وتُصاب بسبب الإهمال أو بسبب اختيار أسلحة غير مناسبة بل مصممة للاستخدام في ساحات المعارك المفتوحة.
قال الأمين العام للأمم المتحدة يوم 22 يناير 2022، عند افتتاحه مناقشة في مجلس الأمن حول كيفية حماية المدنيين المحاصرين في صراع المدن، إن أكثر من 50 مليون شخص يتأثرون حاليا بالقتال داخل البلدات والمدن.
إن حوالي 90 في المائة من القتلى والجرحى، ليس لهم أي دور في التحريض على العنف. وأوضح الأمين العام للأمم المتحدة أن “المدنيين يمكن أن يعانوا من أضرار مدمرة في أعقاب ذلك مباشرة وعلى المدى الطويل”.
ووفقا له، فإن العديد من الضحايا يواجهون إعاقات مدى الحياة وصدمات نفسية خطيرة. وغالبا ما تتضرر البنية التحتية للمياه والكهرباء والصرف الصحي، وتتعطل خدمات الرعاية الصحية بشدة.
وعلي الرغم من أن القتال في الأدغال أو الغابات يشهد صعوبات مماثلة، لكن وجود المدنيين في المدن يجعل كل شيء أكثر صعوبة. ” وهذا ما تشتهر به حرب المدن بالوحشية والتدمير”. بسبب أن المباني والطرقات توفر الكثير من الأماكن للاختباء، لذلك تحدث معارك إطلاق النار فجأة وعلى مسافة قريبة، وهذا يدعو المقاتلين إلى التنبه والتحفز باستمرار مما يؤثر على أعصابهم ويزيد من توترهم وبالتالي إزدياد حالة العنف والقتل العشوائي.
لقد أوضح السيد غوتيريش أن “حرب المدن تجبر ملايين الأشخاص على ترك منازلهم، مما يسهم في تسجيل أعداد قياسية من اللاجئين والنازحين داخليا”. فبعد أربع سنوات من تدمير 80 في المائة من المساكن في الموصل بالعراق، على سبيل المثال، لا يزال ما يقدر بنحو 300 ألف شخص نازحين.
فإن الدمار الشامل للمباني يعيد التنمية إلى الوراء لعقود، على سبيل المثال، أعادت أربع سنوات من النزاع المسلح في اليمن مؤشرات التنمية البشرية 20 عامًا للوراء.
ومع تحول الأحياء والحارات إلى جبهات قتال، أصبح من الصعب فجأة العثور على أساسيات الحياة – من المياه والغذاء والرعاية الصحية والوظائف والتعليم والسكن اللائق. وغالبًا ما يضطر الناس إلى الفرار من ديارهم، ما يقلب حياتهم رأسًا على عقب ويعرضهم لمخاطر أكبر، مثل العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي. وفي كثير من الأحيان، يقع على عاتق المجتمعات المحلية مسؤولية مساعدة النازحين بينما قد يعانون هم أنفسهم أيضًا من آثار النزاع.
وتؤدي المخاوف التي لا تنقطع بشأن سلامة الأحباء والقلق المستمر بشأن الغذاء والضروريات الأخرى إلى تفاقم الصعوبات الشخصية المرتبطة بالوضع الذي يبعث على الصدمة. كما أن الحزن الشديد أمر شائع، مثل الخوف. وبينما سيتمكن بعض الناس من الاستمرار في العمل والتغلب على الأسى الذي تحملوه، سيعاني آخرون من صدمة نفسية تصيبهم بالعجز.
ومع ذلك، حتى بعد أن تصمت البنادق، يمكن أن يستمر النزوح لسنوات، إذ باتت المنازل والبنية التحتية خاوية على عروشها وتتناثر الألغام الأرضية والعبوات الناسفة المرتجلة وغير المنفجرة والمتروكة في المناطق السكنية، ما يمنع العودة الآمنة للسكان.

الوضع القانوني للمدن في حالة الحرب:
تنظم اتفاقية جنيف الرابعة 1949 المتعلقة بحماية السكان المدنيين في وقت الحرب والبرتوكولات الملحقة بها عام 1977، أسلوب معاملة المناطق الآهلة بالسكان( المدن والقرى). وهي تقرر حظر الهجوم على المدنيين أو توجيه أعمال العنف الدامية إليهم أو بث الذعر بينهم أو التهديد بذلك وتحظر الهجمات العشوائية التي لا توجه لهدف عسكري محدد مما يترتب عليه إصابة الأهداف العسكرية والمدنية من دون تمييز.
كما تقرر ” أنه في حالة ما إذا كان موقع الاهداف العسكرية لا يمكن معه تحديدها من دون أن يؤدي ذلك إلى وقوع ضرب أعمى بين السكان المدنيين فعلى الطائرات ( أو وسيلة الضرب) أن تمتنع عن التدمير.”
البرتوكول الاول من اتفاقية جنيف الرابعة : المواد ،( 51،53،54،56،57،59،63،76 ، 48، 35).
ففيما يتعلق بالقانون الدولي الإنساني، أشار الأمين العام للأمم المتحدة (إلى أن السنوات الأخيرة شهدت قلقا متزايدا بشأن الامتثال لهذه القوانين. وذكر أن “المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة أمر ضروري”.
وأوضح: “نحن مدينون بذلك للضحايا وأحبائهم – ومن الأهمية بمكان أيضا أن نكون بمثابة رادع قوي”.
وقال : إن لدى أطراف النزاع خيارات عند شن الحرب. وأوضح قائلا: “يجب عليهم تكييف اختيارهم للأسلحة والتكتيكات عندما يشنون حربا في المدن، مقرا بأنهم لا يستطيعون القتال في مناطق مأهولة بالسكان بالطريقة التي سيفعلونها في ساحات القتال المفتوحة”. وحث الدول الأعضاء على الالتزام بتجنب استخدام أسلحة متفجرة واسعة النطاق في مناطق مأهولة بالسكان.
وأخيرا، دعا السيد غوتيريش إلى اتباع سياسات وممارسات أفضل، بما في ذلك التتبع الأكثر منهجية للحوادث المزعومة في المدن والبلدات. كما يعتقد الأمين العام للأمم المتحدة أن هذا النوع من التحليل يمكن أن يوجه نهجا أكثر مسؤولية تجاه مبيعات الأسلحة، ويساعد في توضيح مصير الأشخاص المفقودين، ويوجه طرقا لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين.
حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية
اللجنة الدولية للصليب الأحمر حددت أربعة اجراءات:

  1. يجب على أطراف النـزاعات المسلحة تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني السارية، التي تتكيف مع الاتجاهات الرئيسية في الحروب تطبيقاً صارماً والامتثال لها، وبالأخص مبادئ التمييز والتناسب والاحتياط والتي تمثل أهمية بالغة في حماية المدنيين من آثار الأعمال العدائية في المناطق الحضرية.
    مبدأ التناسب – مراعاة التناسب ما بين الضرر الذي قد يلحق بالخصم والمزايا العسكرية الممكن تحقيقها، ويسعى مبدأ التناسب الى إقامة التوازن بين مصلحتين متعارضتين هما: الإنسانية والضرورة الحربية.
    ومبدأ التمييز بين الاهداف المدنية والعسكرية، ووردت هذه القاعدة في نص المادة (52) ” في كل وقت بين المدنيين أو غيرهم من الاشخاص المحميين والمقاتلين، وكذلك بين الأعيان ذات الطابع المدني، وكما هو واضح فإن النص يوجب التمييز بين الأهداف العسكرية والغير عسكرية التي لا تمثل في حد ذاتها أهدافا عسكرية.
    ومبدأ الاحتياط… يعد من أهم مبادئ القانون الدولي لحماية البيئة، و الذي يهدف إلى الزام الدول بعدم التذرع بغياب الدليل العلمي بالنسبة للآثار الضارة للأنشطة الإنسانية على البيئة، و اتخاذ كافة التدابير الإحتياطية اللازمة لتفادي الأضرار المحتملة.
  2. يجب عليهم أيضًا إعادة تقييم نهجهم للعمليات بصورة عاجلة في البيئات الحضرية، بما في ذلك من خلال مراجعة العقائد المتعلقة بحرب المدن وإجراءات التدريب والتخطيط والتكتيكات واختيار الأسلحة. ويجب أن تشكل حماية المدنيين أولوية في تخطيط العمليات العسكرية وتنفيذها، إذ تظلّ الأطراف المتحاربة ملزمة باتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وقوع أضرار عرضية بين المدنيين.
  3. الأهم من ذلك، يجب عليهم تجنب استخدام الأسلحة المتفجرة الثقيلة بأي ثمن، حيث إنها مصممة لإطلاق قوة تفجير كبيرة من مسافة بعيدة وعلى مساحات واسعة، ما يتسبب في أضرار عشوائية ويجعلها غير ملائمة للاستخدام في المناطق الحضرية والمراكز السكانية الأخرى. ولا ينبغي استخدامها ما لم تتخذ تدابير كافية للتخفيف من وطأتها للحد من أثرها واسع النطاق والمخاطر اللاحقة على المدنيين.
  4. يتحمل حلفاء أطرف النزاع وشركائه مسؤولية كبيرة: إذ يجب عليهم تصميم دعمهم ووضع إطار له بشكل كافٍ من أجل تجنب تفاقم العواقب الإنسانية على المدن. بدلاً من ذلك، ينبغي لهم الإسهام بشكل استباقي في توفير قدر أكبر من الحماية للمدنيين والأعيان المدنية.
    أكثر من مجرد شوارع وأبنية
    “إنّ اسوأ سياسةٍ هي الهجوم على المدن، لا تهاجم المدن الّا حين لا يكون أمامك أيّ خيار آخر” ــــ
    القائد العسكري الاستراتيجي الصيني صَن تزو
    قد يستغرق إصلاح الدمار الناجم عن حروب المدن وقتاً طويلاً. وقد تحتاج الفضاءات والمناطق المختلفة في المدينة في كثير من الحالات أعواما أو حتى عقودا لبنائها. وفي القتالات العنيفة، يمكن لكل هذه الإنجازات إلى جانب المؤسسات والمعالم المحلية الهامة أن تدمَّر في غضون ثوان معدودة، مما يترك ندوباً ستحتاج إلى مليارات الدولارات من الاستثمارات وعشرات السنين من العمل لمعالجتها.
    وينطوي إصلاح الأنظمة والمعالم المحلية الهامة على مخاطر كثيرة. فكلّما تم استخدام الأسلحة المتفجرة، تبقى نسبة معينة منها من دون أن تنفجر حتى يصطدم بها شيء ما. وبالتالي، قبل بدء أعمال الإصلاح في المناطق الحضرية، ينبغي مسح المنطقة أولاً وإزالة القنابل غير المنفجرة؛ وهذا العمل مكلف للغاية ويستغرق وقتاً طويلاً، غير أنّه في غاية الأهمية. ويضاف هذا التحدي أيضاً إلى العديد من التحديات التي تعيق استعادة الحياة إلى وضعها الطبيعي بعد حرب المدن.
    وقد أجبر تزايد معدلات الصراع الحضري المنظمات الإنسانية على إعادة التفكير وتحسين الطريقة التي تساعد بها المدن على الإستعداد للعنف المكثف. وتتمثّل إحدى الخطوات التي اتخذتها وحدة التلوث الناجم عن السلاح التابعة للجنة الدولية في العراق وأوكرانيا، على سبيل المثال، في تحديد المواقع الصناعية وغيرها من الأماكن التي يمكن فيها تخزين مواد كيميائية سامة أو مواد خطرة أخرى.
    إنّ المدن في نهاية المطاف تعني أكثر بكثير من مجرد مبانٍ، وشوارع، وأنظمة مياه ومستشفيات. ولا تتوقف الجروح التي يعاني منها السكان على الإصابات الجسدية فحسب، بل كثيراً ما ينتج عن الحرب في المناطق الحضرية تفكك المجتمعات المحلية وتشرذم الشبكات الاجتماعية.
    لهذا، تهدف الإستجابة الإنسانية أيضاً إلى تحقيق الصحة العقلية للمتأثرين بالحرب. مع التركيز على مساعدة الأطفال الذين يشكلون نسبة مقدرة من ضحايا حرب المدن.
    لقد كان ماو تسي تونغ يحذّر الثّوار من دخول المدن، وأن يسيطروا على الأرياف حتّى تسقط المدن لوحدها وتستسلم. حتّى لينين، الذي قامت حركته ــــ على العكس من ماو ــــ بالسيطرة على المدن ومن ثمّ الإنطلاق منها لغزو الريف، كان يحذّر البلاشفة من استخدام أسلوب الإرهاب في حرب المدن، لأنه يفصلهم عن الشعب ويخلق تناقضاً بين الأهداف السياسية ومصالح الناس.
    في كتابه عن حرب المدن، يقول انتوني جوز أنّ هناك ثلاثة شروطٍ أساسيّة لنجاح أيّ حركة تمرّد:
  5. أن تتحرك على مساحاتٍ كبيرة وبشكلٍ لا يسمح بالتنبؤ بحركتها ومحاصرتها؛
  6. أن تظلّ بعيدةً عن السواحل، حتى لا يتمكن العدوّ من مفاجأتها بالإنزالات؛
  7. وأن تختار أرضاً صعبةً لا تقدر الدّولة على الوصول اليها بسهولة.
    كلّ هذه الشروط غير متوفّرة حين تكون محاصراً في مدينةٍ، ولهذا السّبب، فإنّ كلّ الأمثلة التي رواها جوز في كتابه، “من وارسو عام 1944 الى غروزني 1994، انتهت الى النتيجة ذاتها: هزيمة المدافع المحاصَر، وثمنٌ هائلٌ يدفعه المدنيّون. ولا يوجد استثناءٌ واحد”.
    معركة ستالينغراد ( 17 يوليو 1942) هي مثال جيد لهذه النظرية، كان الهدف هو دعوة الجيش السادس الألماني الى «فخٍّ»، فيصبح محاصَراً بعدما كان مهاجِماً. وحين أطبق الحصار أخيراً على الألمان وانقطعت عنهم الإمدادات في ستالينغراد، استسلم الجيش بكامله بعد أقلّ من شهرين.
    فعلى الرغم من نجاعة حروب الشوارع وقدرتها على دحر أقوى الجيوش تاريخيا، إلا أنها تنطوي على ردود فعل عنيفة من الجانب المهاجم الذي ينتهي بقصف المدن المستهدفة ومحوها، إلا أنه إذا فاز “فلن يربح سوى كومة من الأنقاض”.
    قراءة مدنية لحرب “الخرطوم”
    حرب “الخرطوم” 15 أبريل 2023م، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، هي حرب حضرية، تمددت في مدن عديدة ، أعنفها في العاصمة الخرطوم. والتي حتى الان دخلت الاشتباكات فيها شهرها الثالث، من دون أن يستطيع أي طرف حسم الصراع لمصلحته. وهذا ما يزيد المخاطر على المدنيين والمنشآت المدنية والخدمية.
    لقد واجه الملايين من سكان الخرطوم عنف وشراسة القتال بين الطرفين، وقُتل من المدنيين أعدادا كبيرة بسبب سقوط قذائف المدفعية وصواريخ الطائرات الحربية. كذلك خرجت عشرات المستشفيات عن الخدمة لأسباب مختلفة، وانهارت خدمات المياه والكهرباء وشبكات الاتصالات، وبالطبع توقفت كل المرافق والمصالح الحكومية، وتهدمت البنيات الأساسية والمباني الإستراتيجية.
    ومع استمرار القتال الشرس دون إنقطاع، تقدمت السعودية والولايات المتحدة بمبادرة لوقف اطلاق النار في 11 مايو لتوفير ممرات آمنة لتوصيل مواد الاغاثة للمحاصرين. وتواصلات المحاولات من منبر جدة، حيث بلغت الهدن أكثر من عشرة اتفاقات، لم تكلل بنجاح ملحوظ، بل أن الإعلان عن الهدنة أصبح يشكل عبئا إضافيا على المتواجدين داخل الخرطوم، حيث تستغل جماعات النهب والكسر المنزلي، وقف القتال والقصف الجوي في الإغارة على المنازل والمصانع ومكاتب الشركات.
    تقول الكاتبة عائشة البصري ” للعربي الجديد”، انتهى زمن الحروب التقليدية وغيّرت حرب المدن ميزان القوة بين الأطراف المتحاربة، ورفعت كفة المليشيات على حساب أقوى الجيوش”. وبدلا من ترويج وهم “حماية المدنيين”، الأحرى أن تضغط الرياض وواشنطن على الطرفين لإجبارهما على وقف إطلاق النار والإشراف فعليا على إجلاء المدنيين على الأقل من المناطق التي توجد بها مواقع استراتيجية يسعيان إلى السيطرة عليها، ومن الأحياء التي انتشرت فيها قواتهما إستعدادا لحرب الشوارع.
    وإن كان المجتمع الدولي جادّاً في مسعاه الإنساني، لابد أيضاً أن يضمن أبسط وسائل العيش لمن شرّدتهم الحرب داخل السودان وخارجه، وإلا فإن تقاعسه سيؤكّد أن “حماية المدنيين” مجرّد شعار في قاموس الإستجابة الإنسانية، وأن المحادثات الدبلوماسية تُكسب الطرفين مزيداً من الوقت من أجل حسم الحرب عسكرياً، مثلما حدث في حرب إثيوبيا بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير شعب تيغراي ؛ حروب لم تتدخّل فيها الأمم المتحدة ومجتمعها الدولي، تاركة الأطراف المتناحرة تحسم الصراع بقوة السلاح، على جثث المدنيين.
    إن التوجيه إلى سكان الخرطوم المدنيين بالخروج من منازلهم ” لمسافة بيتين”!!،إذا أحتمى معهم أفراد من الدعم السريع… لأنها ستُدك بالطيران والمدفعية..كان توجيها مخيفا. والتوجيه الممنهج بإنتهاك أعراض السكان المدنيين وسلب ممتلكاتهم وكسر منازلهم تحت تهديد السلاح .. يعتبر توجيها همجيا.. وكلا التوجيهان مخالفان للقانون الدولي الإنساني ومخالفان لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية السكان المدنيين في وقت الحرب والبرتوكولات الملحقة بها . خاصة مبادئ “التمييز والتناسب والاحتياط”.
    حرب “الخرطوم” تختلف عن التعريف الكلاسيكي لحرب المدن، لأنها وقعت بين فصيلين من القوات المسلحة السودانية، ولأنها إندلعت بفعل تمرد ” قوات الدعم السريع” على الجيش السوداني الذي يمثل أحد رموز مكونات الدولة السودانية..والأعجب أن طرفي النزاع يدعوان إلى هدف واحد; هو تحقيق التحول الديمقراطي، وامتناع العسكر عن ممارسة السياسة والتوقف عن استلاب السلطة والعودة للثكنات. وذلك عندما وقعا معا على الاتفاق الإطاري 5 ديسمبر 23، المتضمن هذا الهدف.
    كتب ديفيد بيتز من كينغز كوليدج لندن واللفتنانت كولونيل هوغو ستانفورد – توك في دورية تكساس للأمن القومي (مجلة عسكرية وأمنية): «على مدار التاريخ تقريباً، كان الجنرالات يكرهون احتمال القتال في المدن ويعتبرونه كابوسا مرعبا وسعوا إلى تجنبه». وهذا ما أشار إليه الجنرالان، الفريق أول عبدالفتاح البرهان القائد العام للجيش السوداني ” حرب عبثية” ، والفريق أول محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع ” أجبرنا على الحرب”. فإن صدقت النوايا فهذا يعني أنه يفترض متى ما سنحت الفرصة لوقف الحرب فإن قادة الطرفين سيجنحان إلى السلم.
    قوات الدعم السريع لا تتمتع بالشروط الثلاثة التي حددها “انتوني جوز” لنجاح أيّ حركة تمرّد داخل الدولة. وفي الواقع فإن الجيش يطوق قوات الدعم السريع في داخل العاصمة المثلثة. ورغم حيوية حركة قوات الدعم السريع داخل المدينة وقدرتها العالية على المناورة وفعالية استخدام الاسلحة المختلفة، إلا ان كل الأمثلة التي رواها جوز في كتابه، “من وارسو عام 1944 الى غروزني 1994، انتهت الى النتيجة ذاتها: هزيمة المدافع المحاصَر، وثمنٌ هائلٌ يدفعه المدنيّون. ولا يوجد استثناءٌ واحد”. وفي دراسات التاريخ العسكري لحرب المدن، يقول ستيوارت لايل ( ورد ذكره سابقا)، ” في معظم المعارك الحضرية التي درسناها، يفوز المهاجم”.
    وفي حالة حرب الخرطوم، فإذا اعتبرنا أن المهاجم هو الجيش، فإن الحكمة العسكرية التقليدية تقول أن الجيوش في الهجوم يجب أن تفوق عدد خصومها بثلاثة إلى واحد لتجاوز موقع الدفاع. والجيش الامريكي يحدد نسبة (15:1) أي تفوق عدد قوات الجيش بخمسة عشر ضعفا على عدد قوات الدعم السريع. وهو ما يصعب مهمة الجيش خاصة ما رشح من تحليلات بعض العسكريين عدم توفر المشاة ولا القوات الخاصة الضرورية في حرب المدن بأعداد كافية.
    من غرائب حرب الخرطوم.. أن تسريبات وتكهنات عديدة ومتزايدة تشير إلى أنه رغم الإحتقان وتصاعد وتيرة التعبئة والتحشيد قبل اندلاع الحرب بفترة، إلا أن من أشعل فتيل الحرب ( الطلقة الأولى) هو طرف ثالث خفي !!. و بعض تحليلات هذه التكهنات تقول أن دلائل مقتضى الحال تشير إلى الطرفين تم دفعهما دفعا للحرب،وأن الدعم السريع إذا كان يخطط لإنقلاب لم يكن ليتأخر عن الهجوم حتى وقت متأخر من ساعات صباح يوم السبت ( الثامنة والنصف صباحا)، ليفقد عنصر المفاجأة وفرصة إعتقال قيادات الجيش العليا. كذلك الدليل على أن الجيش لم يكن المبادر، إذ لا يعقل أن يخطط لهجوم مباغت دون إحاطة كبار قيادات الجيش المركزية وهم في طريقهم إلى مكاتبهم في القيادة العامة لممارسة أعمالهم اليومية بشكل طبيعي. ولا يعقل أن يستهدف المدينة الرياضية أولا وهناك عشرات المواقع الاستراتيجية المهمة تحت سيطرة قوات الدعم السريع.
    كما أن الجيش يحيط بالدعم السريع حول اسوار العاصمة، والدعم السريع يطوق مبنى القيادة العامة حيث يتواجد قادة الجيش السوداني.. فأيهم المدافع وأيهم المهاجم؟!! .. والواقع يقول انهما يحاصران بعضهما البعض، فإذا تحققت فرضية “ستيوارت لايل” فيعني أن الطرفين في حالة دفاع، ولن يكون هناك منتصر. وحتى إذا كان هناك منتصر، فلن يربح سوى “كومة من الأنقاض”. ولكنه من المحتم أن هناك ثمنٌ باهظ سيدفعه المدنيّون.
    فماهو الثمن الباهظ الذي سيدفعه المدنيون إذا استطالت هذه الحرب أكثر من ذلك؟:
    • ما يحدث الان في الخرطوم، في أن القصف الجوي والتدوين المدفعي، أو الإعتداء المسلح على المواطنين داخل منازلهم أو في الطرقات ، تسبب في قتل وجرح المدنيين في المدن الثلاث أكثر من المقاتلين ربما تجاوز العدد الثلاثة الآف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين ، وأن السلب والنهب الممنهج لمقتنيات وممتلكات المدنيين قد فاق حد التصور. ولا شك أن غالبية القتلى والجرحى، ليس لهم أي دور في التحريض على هذا العنف.
    • إن الصدمة العنيفة لحرب “الخرطوم”؛ والخوف المستمر من العنف الشديد والشعور بالعجز، ستتسبب بجروح نفسية عميقة للأشخاص الذين ما زالوا يرزحون تحت الحصار، فضلاً عن الأشخاص الذين يعيشون في مراكز إيواء أو مع أقارب في مدن اخرى وفي مدن البلدان المجاورة.
    • إنه الآن وبعد مضي أكثر من 10 أسابيع من بداية حرب الخرطوم، يقع على عاتق الأسر في بعض أحياء الخرطوم وفي المدن والقرى خارج ولاية الخرطوم والمجتمعات المحلية في المدن وفي خارج السودان؛ مسؤولية مساعدة النازحين بينما يعانون هم أنفسهم أيضًا من آثار الحرب.
    • تدمير عدد ضخم من المنشآت والمباني والمرافق العامة من جراء القصف الجوي والمدفعي خلال الاسابيع الماضية مما خلف الآف الأطنان من الحطام والركام الذي يشكل مخاطر على كل من البيئة وصحة الناس. كما أن الذخائر غير المنفجرة تجعل عودة الناس إلى ديارهم خطيرة للغاية.
    • والدمار الشامل للمباني والمنشآت والمرافق العامة والبنية التحتية للمدينة، يعيد التنمية إلى الوراء لعقود، مما يقوض التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة.
    • كما أن تدمير البنى التحتية والمرافق العامة إلى جانب المؤسسات والمعالم المحلية الهامة والتي تدمَّرت في غضون ثوان معدودة، ستترك ندوباً ستحتاج إلى مليارات الدولارات من الاستثمارات وعشرات السنين من العمل لمعالجتها.إنه من المؤكد أن هذه الحرب ” حرب الخرطوم” ستنتهي، كما إنتهت كل الحروب الحضرية، لكن المهم أن تنتهي بأسرع ما يمكن، لأن استمرارها يعني تطور نوعي في النزاع إلى حرب أهلية طاحنة، وإلى فتح الباب على مصراعية لجماعات الإرهاب والتطرف، وإلى إنحيازات التدخل الأجنبي والتبعية، ومن ثم إنهيار الدولة وتشطير السودان، ومن جانب آخر ستزيد من معاناة المواطنين المدنيين في الحصار وفي خارج الخرطوم، والدمار والخراب سيكون مضاعفا مقارنة بآثار حرب المدن في الدول المشابهة لأوضاعنا في الاقليم، وذلك نسبة لضعف التكامل القومي والاندماج الوطني ولهشاشة بنية الدولة ولضعف القدرات الإقتصادية وشح الموارد الطبيعية والصناعية.
    مبادرات وقف الحرب
    تواترت في الآونة الأخيرة مبادرات متنوعة تناشد بوقف الحرب ووقف إطلاق النار الفوري، وجلوس طرفي النزاع إلى طاولة المفاوضات..وأهم هذه المبادرات منبر جدة الذي تقوده الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، ومنبر الإيقاد الذي يجد الدعم من الاتحاد الافريقي.. ومبادرات وطنية من تجمعات مثقفين واساتذة جامعات ومفكرين ومهنيين، بمنطلقات وإتجاهات مختلفة..كالآلية الوطنية لدعم التحول الديمقراطي ووقف الحرب، والجبهة المدنية لوقف الحرب، ومجموعة فريق العمل لوقف الحرب ولمشروع سياسي وطني.
    حتى الآن لم تتمكن هذه المبادرات الدولية والاقليمية والمحلية، من وقف الحرب أو تخفيف حدتها، وحماية المحصورين في داخل العاصمة، ولم تتمكن من فتح ممرات آمنة لتوصيل المساعدات الإنسانية للمحتاجين المحاصرين.
    على أنه ليس من المحتمل أن تقف هذه الحرب بتكرار المحاولات نفسها.. وأنه يبدو أن قائدي طرفي النزاع من خلال تصريحاتهما أنهما يرغبان – لكنهما لا يستطيعان – في وقف الحرب.. رغبة مشوبة بالإحساس بالورطة.. وأن قوة الدفع الكامنة داخل رحى الحرب أقوى من الإرادة الراغبة في إنهاء الصراع.. قوة الدفع التي لن تستمع لصوت المناشدات المدنية ورجاءات المجموعات الأهلية.
    كذلك فإن إحتمال حسم المعركة بانتصار أحد طرفي النزاع غير مؤكد، لأن مؤشرات التغلب حسب تاريخ الحروب الحضرية الحديثة بالتوفر على ميزة الحصار الهجومي غير متيسرة لدى أي من الطرفين.
    كذلك فإن احتمال انتهاء الحرب فجأة نتيجة لحدث خارج النسق الموضوعي لها، أو بسبب تدخل عسكري خارجي يبقى إحتمال ضعيف لا يركن إليه.
    إذن ما العمل؟
    “في عصر يعتبر فيه عدم القيام بأي شيء، أمراً محفوفاً بالمخاطر، لابد أن تكون البشرية مستعدة”
    القوى المدنية والسياسية منها على وجه الخصوص، ليس لها مكان في الميدان العسكري إلا مقاعد المتفرجين..فإذا أرادت هذه القوى أن تغير الواقع الحالي، عليها أن تغادر مقاعد المتفرجين..
    ولن يتم ذلك إلا بتغيير الذهنية من الإصطفاف أو الحماسة لأحد طرفي النزاع… أو الرفض المحايد السلبي ” لا للحرب”، إلى موقف تفاعلي إيجابي على نحو يحقق العشرة مطالب التالية:
  8. نقل المشهد من معركة عسكرية إلى معركة سياسية:
    1- تحويل بؤرة التركيز بالنظر إلى ما بعد الحرب
    2- إمساك القوى السياسية لزمام المبادرة.
    3- استخدام القوة السياسية في تحقيق مطالب الشعب.
  9. حشد القوى المدنية لمقاومة الحرب بمواقف سياسية تجاه القوى العسكرية.
  10. الضغط السياسي والقانوني الرادع على طرفي النزاع لحماية المدنيين والأعيان:
    1- تحذيرهما بضرورة تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني السارية. وبالأخص مبادئ (التمييز والتناسب والاحتياط)، وتحميلهما مسئولية عدم الالتزام بها .
    2- يجب عليهما أيضًا إعادة تقييم ومراجعة العقائد المتعلقة بحرب المدن واختيار الأسلحة. وأن تشكل حماية المدنيين أولوية في العمليات العسكرية.
    3- عدم استخدام الأسلحة المتفجرة الثقيلة ( الأسلحة المميتة).
    4- تنبيه حلفاء طرفي النزاع وشركائهما تحمل المسؤولية الأخلاقية والإسهام بشكل مؤثر في توفير قدر أكبر من الحماية للمدنيين والأعيان المدنية.
  11. تفعيل الدبلوماسية الشعبية والسياسية للحصول على التضامن الدولي المتماسك
  12. مطالبة الدول الأعضاء في مجلس الأمن إظهار “الإرادة السياسية” للتحقيق في مخالفات القانون الدولي الانساني وجرائم الحرب ومقاضاة مرتكبيها إلى أقصى حد.
  13. مطالبة المجتمع الدولي بإتخاذ موقف أكثر مسؤولية تجاه إمدادت الأسلحة والذخائر.
  14. التتبع الأكثر منهجية للحوادث والانتهاكات في كافة المدن المتأثرة بالحرب.
  15. العمل على توضيح مصير الأشخاص المفقودين.
  16. بذل الجهد في إطار الاستجابة الإنسانية لتحقيق الصحة العقلية والنفسية للمتأثرين بالحرب.
  17. العمل على ضمان المساءلة والتعافي والمصالحة.
    خاتمة
    ليس الهدف من هذه القراءة المدنية وقف ضرب النار ووقف القتال في حرب الخرطوم، ولا إلى فتح مسارات آمنة لتوصيل المساعدات الانسانية للمحاصرين في الخرطوم.. إنما تهدف إلى تحويل الذهنية الشعبية، الوطنية والسياسية من أتون الحرب إلى النظر إلى آفاق المستقبل.. إلى ما وراء الحرب.
    وتهدف إلى الدعوة لاستخدام القوة السياسية في تحقيق مطالب الشعب في السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل. والعدل الاجتماعي ….، واقرار مدنية الحياة العامة..لإقامة نظام سياسي جديد قائم على مدنية الدولة ومبادئ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وعلى احترام مبادئ حقوق الانسان وحرياته الاساسية وعلى معايير الحكم الراشد.
    إن استخدام القوة السياسية يحتاج إلى قيادة سياسية ذات كفاءة، لها حصيلة معرفية واسعة وقدرات قيادية عالية وخبرات في طرائق العمل السياسي والجماهيري والدبلوماسي.. إذ أن قلة الكفاءة، يسي اخطر من الفساد على حاضر ومستقبل الوطن العزيز. ويشير أحد النقاد السياسيين إلى أن معظم الرداءة إنما بسبب عدم الكفاءة.
    لقد علت الأصوات في الداخل والخارج بوقف هذه الحرب اللعينة، لكن وحتى بعد مرور ما يقارب الثلاثة أشهر منذ اندلاعها لا يبدو أن هناك مؤشر للإستجابة من أحد طرفي النزاع..ولا يوجد بصيص أمل في القبول بمبدأ الحوار لإيجاد حل للنزاع القائم. والدلائل تشير إلى إصرار الطرفين على القتال حتى النهاية.. مما يعني استطالة أمد الحرب.. وانفتاح البلاد على سيناريوهات غير حميدة..
    إنه من غير الممكن أن تبقى القوى السياسية والمدنية تنظر إلى الواقع الحالي للبلاد وهي تنهار وإلى المستقبل الواعد وهو يتلاشي دون أن تحرك ساكنا.. وأن الحراك المطلوب ينبغي أن يكون جامعا ومنتظما وشاملا لكل أطياف المجتمع الذي يؤمن بالديمقراطية وسيادة حكم القانون، ورافضا للدكتاتوريات والشموليات السابقة والحاضرة.
الوسوم إمام-الحلو

التعليقات مغلقة.