حقيبة الفن وتخيل الأمةك مقدمتي لكتاب “هوية السودان من خلال نصوص الحقيبة” (2/1)

حقيبة الفن وتخيل الأمةك مقدمتي لكتاب “هوية السودان من خلال نصوص الحقيبة” (2/1)
  • 28 أغسطس 2023
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله علي إبراهيم

الأصل لهذا الكتاب رسالة للدكتوراة من جامعة الخرطوم في 2015 عنوانها “حقيبة الفن والحركة الوطنية”. وكان لي شرف الإشراف عليها حتى دافعت عنها عفاف عبد الحفيظ بنجاح في 2015.
مبحث الكتاب عن كيف تخيلت أغنية الحقيبة في عشرينات القرن الماضي وثلاثينياته لشعراء وغاوين ومغنيين الوطن المأمول بعد جلاء الاستعمار في مصطلح عربي إسلامي خالص. وهو تخيل وقع في سياق حركة وطنية في مركز دائرة الحكم اقتصرت على القومية الشمالية في غيبة شبه كاملة من شركاء الوطن الآخرين.

مكمن قوة البحث الذي من وراء هذا الكتاب أنه عقد في حلال البحث مسألتين بصورة غير مسبوقة. والمسألتان هما الحركة الوطنية وتراث حقيبة الفن. فمباحث الحركة الوطنية معروفة. فهي أما ركزت على السردية السياسة (محمد عمر، مدثر عبد الرحيم، فدوى عبد الرحمن، حسن أحمد إبراهيم مثلاً)، أو نظرت في مؤثرات لها على الشعر السوداني (أو العكس)، أو الصحافة (محمد محمد علي، محجوب عبد المالك). أما الحقيبة، من الجهة الأخرى، فقد اقتصرت دراستها على كتب عشوائية عن مناسباتها، وأصولها، وبلاغتها، وتصويرها لمجتمعها وهلمجرا. ومتى قاربت الحقيبة الحركة الوطنية كانت عن المعاني العامة والعناوين والشجن الوطني.

دخل الكتاب على الحركة الوطنية من زاوية تخيلها للأمة على بينة من نظرية الأكاديمي بنيدكت أندرسون المعروفة ب”الأمم المتخيلة” والتي لم يسبق لبحثنا في الحركة الوطنية توظيفها إلا في ما كتبت الأمريكية هزر شاركي ربما. فاستصحب الكتاب بهذا المدخل المبتكر الحقيبة كأخطر وعاء حامل لذلك الخيال. ومبحث الكتاب بالنتيجة هو الأول من نوعه بتجديده عروق الفكر في دراسة الحقيبة ودراسة الحركة الوطنية معاً.
يوطن الكتاب مبحث الحقيبة في علم الفولكلور بجهد بحثي منقطع النظير ومقنع. فأخذ بالتعريف الذي جاء به الفلكلوري الأمريكي آلان دنديز، وأستاذه رتشارد دورسون قبله، ل “فولكfolk ” (شعب) فخرجا به من حظيرة الريف والفلاح الأوربيين في دارج استخدامه في بريطانيا مثلاً إلى بيئة امريكية لم تعرف “الفلاح”. وأضطرت المؤلفة لتوسع ضيق “الفلولك” الأوربي لتشمل به أهل الحضر. فصارت المدينة مثل أم درمان منشأة فولكلورية. وصار إبداعها “الشعبي” فولكلوراً. وعليه عدّت الكاتبة الحقيبة “فولكلوراً” في المدينة وسمت فولكها ب”مجتمع الحقيبة”.

ثم ركزت المؤلفة على جانب آخر في تعريف الحقيبة كفولكلور. فالفولكلور غالباً ما كان مما نتداوله شفاهياً. فوجدت المؤلفة أن معارف الحقيبة تجري مشافهة بصورة غالبة من حيث الأداء، وتناقل أخبار مجتمعها، وتاريخها. كان هذا مبررها للقيام بعمل حقلي شامل بين مجتمع الحقيبة المعاصر من مثل اتحاد الغناء الشعبي مما يقوم به كل فولكلوري لجمع مادته من شفاه الناس وما في صدورهم. ثم نظرت للحقيبة كفلكلور من زاوية أنه فعل لا يكف عن التجدد والبروز، ولم يصبح فعل الماضي الذي كان الظن أنه موضوع الفولكلور.

ومن أهم أبواب توطين المؤلفة للحقيبة كفولكلور هو نظرها الممحص في علاقة الفولكلور والحركة القومية. فليس من علم ارتبط بمثل هذه الحركة كالفولكلور. فخرجت أمم وسط وشرق أوربا من عباءة الفولكلور في مثل كتابات الألماني جوان قوتفريد هردر، ومن الشغف بحكايات الأخوة قرم الألمان. فمادة الفولكلور عند المفكرين القوميين هي مستودع الأصالة و”شهادة بحث” الأمة التي ظلت حية في صدور غمار الناس دون الصفوة ممن تخطفتها الثقافات الأجنبية الزاعمة الرقي. ولذا بدأت الحركات القومية في وسط وشرق أوربا بالذات بحملات جمع الفولكلور وترويجه لاسترداد الأمة من براثن استتباع الآخرين.
أميز ما تجد في الكتاب هو كتابة المؤلفة لمسرد الحركة الوطنية. فهي شديدة التوفيق من الوهلة الأولى في الإمساك بعظم ظهر فكرة ذلك المسرد وموالاته حتى غاياته. فبحثت في فصلها الثاني مثلاً عن الحركة الوطنية من مصادر الأدب النظري عن القومية. وأوفت الغاية بالرجوع إلى الياس خدوري وتوماس هودجكن وإرنست قلنر وأنطوني سميث وغيرهم من المنظرين الذين لا يكون بحث في الحركات القومية بدون النظر في كتاباتهم. كما أنها فصّلت محاضن الحركة الوطنية بما تجاوز مشهور حركة الخريجين وندواتها ومجلاتها إلى عرض واف لمواعينها في الخدمة البريدية، والسكك الحديدية، ونازع الحضر. وتغلغت أكثر لتبحث أدوار للسينما والتصوير والقصة القصيرة والنقد الاجتماعي كمناشئ للحركة الوطنية. فكتبت بذلك فصلاً لن يفوته باحث أو مهتم بالتاريخ المعاصر للسودان.
ونواصل

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.