من أين جاء هذا الحميدتي؟ (2-2)

من أين جاء هذا الحميدتي؟ (2-2)
  • 05 ديسمبر 2023
  • لا توجد تعليقات

د.عبدالله علي إبراهيم

قال الروائي السوداني الطيب صالح “من أين جاء هؤلاء الناس؟” حين راعه من نظام “الإنقاذ” خروقه لحقوق الإنسان لدى توليه الحكم في السودان عام 1989. ولاحق السؤال النظام كاللعنة لصدوره عن سادن للروحية السودانية.
ويقف كثير من الناس أمام ما راعهم من حرب الدعم السريع الناشبة وقساوتها ليسألوا “من أين جاء هؤلاء الناس؟”
فالدعم السريع، حسب كتاب جولي فلنت عن الجنحويد، منتج شرعي للجفاف والتصحر الذي ضرب شمال دارفور كجزء من الساحل الأفريقي خلال السبعينيات والثمانينيات. وترافق فيه زعزعتان ديمغرافيان. فزعزعت موجات الجفاف المتلاحقة تلك أول ما زعزعت الأبالة (رعاة الإبل) العرب في شمال دارفور من قبائل منسوبة لشعب الرزيقات الذي كثيره مع ذلك من رعاة البقر (بقارة) في جنوب دارفور. ونكبت تلك البادية الشمالية في دارفور فلم تعد دارهم صالحة للعيش فيها. وسعى أبالتها يطلبون رزقاً في الأرض. وبغوا.

ومن جهة أخرى كانت جماعات من عرب تشاد ممن ضربهم الجفاف والتصحر نفسه وويلات الحرب الأهلية هاجرت إلى السودان. وكانت ذروة تلك الهجرة في منتصف الثمانينيات التي تبنى فيها العقيد معمر القذافي مشروع الحزام الإسلامي العربي إلى داخل أفريقيا بصور شتى. وجاء بعض أولئك العرب بدعوة من أهلهم في السودان يعززون صفهم لغرض أو لآخر. ومع توفر الماء والكلأ لهم حز في نفوسهم أنهم بلا “دار- حاكورة” في مهجرهم، وهذا نقص عظيم يجعلك مواطناً من الدرجة الثانية بين من استضافوك في دارهم وصارت، في قول فلنت، “أسبقية أولئك العرب حيازة حاكورة لقبيلتهم بالنظر إلى غربتهم في دارفور مجردين من الشوكة الإدارية والسياسة التي تأتي من تملك مثل تلك الحاكورة”. ورموا لذلك الغرض بعينهم على سكنى وديان شعب الفور الخصيبة في غرب وجنوب جبل مرة. فأخذوا في حلف مع عرب من السودان في طرد الفور من دارهم بحرق بيوتهم. فحرق مسيرية تشاد 10 قرى غرب بلدة كاس في ليلة واحدة خلال أكتوبر (تشرين الأول) 1987، وأنشأ المحتلون قرى جديدة واحدة باسم إنجمينا عاصمة تشاد.

وجاء الوقت لتستثمر الحكومة في محنة الرعاة العرب الوجودية تلك لمشروعها في تمكين نفسها.وترافقت مع ذلك تطورات في جنوب السودان عام 1991. واحتاجت “الإنقاذ” إلى الرجال لتجنيدهم فيما سمته “كتيبة السلام” لقاء الترخيص لهم باحتلال دار الفور غرب جبل مرة. فاحتل المحاميد من أبالة شمال دارفور غرب الجبل، بينما احتل بني حسين جنوبه وغربه. وكان نصيب السلامات والمهادي من عرب تشاد وادي أزوم المنحدر من الجبل. ثم استباحت الحكومة الجبل لهم باستعمالهم لقتال حركات دارفور المسلحة التي خرجت للمعارضة عام 2003. فاستنوا ممارسة حرق القرى لطرد أهلها نازحين إلى معسكراتهم في أطراف المدن.

وتأتي هنا النقطة التي رغبت فلنت في إثارتها وهي أن حرب العرب والزرقة تزامنت مع حرب للعرب ضد بعضهم بعضاً أيضاً. فكانت تلك الأرض المنزوعة من الفور سبباً للشقاق بين أولئك الأعراب أنفسهم. فصارعت الحوطية، وهم من عرب تشاد، النوايبة من أبالة شمال دارفور حول مثل تلك الأرض عند بلدة زالنجي عام 2007 وسقط 250 منهما صرعى. كما تصارع الترجم ضد الرزيقات الماهرية مما أسفر عن 500 قتيل. وتعاقد المهزومان، الترجم والحوطية، على حلف ضموا إليه البرقو (من الزرقة) والثعالبة من ولاية كردفان. كما ضموا إليه المسيرية من ولاية كردفان من ذوي الصلة القديمة بالحكومة التي أحسنت إعدادهم لحرب الحركة الشعبية في جنوب السودان. ولم تعد بحاجة إليهم بعد اتفاق السلام الشامل عام 2005.

وفي فبراير 2007 تصارع أبالة شمال دارفور والترجم حول وادي بلبل الذي هو أصلاً ملك للفور. وكان احتله الترجم، عديمو الدار، داراً في التسعينيات. وكانوا أول من تطوع للتجنيد مع الحكومة عشماً منهم لتمنحهم الحكومة داراً ولدوا من دونها. وجاء لينافسهم على الوادي أولاد منصور من الماهرية أهل محمد حمدان دقلو الذين هاجروا من شمال دارفور نهاية الثمانينيات إلى جنوب دارفور. وعبأ المتصارعون النصراء من تشاد. وهزم الأبالة الترجم هزيمة نكراء ونهبوا آلافاً من سعيتهم مخلفين 70 قتيلاً و50 ألف نازح من 52 قرية حرق الأبالة أربعاً منها. وعاد الأبالة للترجم في يوليو 2007 فقتلوا منهم 172 ودفنوهم في قبر واحد وغنموا محصولهم وسعيتهم.
وفي معركة أخرى قتل رصاص حرس الحدود 30 من الترجم. وزال خطر الأبالة على الترجم حين تمرد حميدتي نفسه على الحكومة وهدد باحتلال مدينة نيالا لتأخر الحكومة في صرف رواتب جنده.
وكشفت الحرب عن حجم الخراب الذي يقع جراء توافر السلاح الحكومي بيد القبائل من مثل الكاتيوشا والقذائف الصاروخية والـ 10 بنادق غير مرتدة ناهيك عن ناقلات الجنود من التاتشرات مما زودتهم به كتيبة مخابرات حرس الحدود. وكان قد أقبل على التجنيد فيها أبالة شمال دارفور ممن صار القتال مهنتهم بعد انسداد أبواب الرزق الآخر في وجههم.
ولم تقف حرب العرب للعرب. فدارت في فبراير عام 2010 حرب المسيرية والرزيقات. ودخلها أبالة الرزيقات الشمالية بأسلحة حرس الحدود وأنواع العتاد الذي تقدم ذكره. فاستدعي المسيرية من جانبهم أقرباءهم من تشاد وبقارة جبل مرة للهجوم على أحياء الأبالة النوايبة الذين استدعوا بدورهم عرب بني حسين والمهادي وأولاد راشد والعريقات والماهرية وأم جلول بقيادة ضباط من حرس الحدود.
ودارت تلك الحرب حول مَن مِن العرب يتملك أرض الفور المنهوبة؟ وذكر شهود نقل أسلحة ثقيلة لحميدتي من حرس الحدود. وجاء في تقارير مؤكدة أن المسيرية استعانوا بجماعة من أهلهم انشقت عن “قوى التغيير والديمقراطية” التشادية.
لن تكون أبعدت النجعة إذا اقتصرت إجابتك عن سؤال من أين جاء هؤلاء العرب الـ “جنجويد”؟ على قولك بمجيئهم من رحم المركز الحكومي. ولكنها إجابة في مثل بحث من أضاع شيئاً عنه تحت عمود النور في حين كان أضاعه في مكان معتم. فإذا اكتفينا بتوزير الحكومة بصناعة الـ “جنجويد” نكون ربما أحسنا المعارضة في حين تقاصرنا عن النفاذ إلى أوضاع في الريف زلزلت زلزالها. فتجاسرت فيه أعراف تملك الأرض مع نازلات الطبيعة وتآكل أساليب حياة مثل الرعي مع وهم حدود الدولة القومية مع زحف اقتصاد السلعة في إنتاج الريف، ليخرج منه مثل أبالة شمال دارفور الذين كان عليهم إعادة إنتاج أنفسهم من فرط وحشتهم وفاقتهم. وجاءتهم الدولة العاقة لا لتزيل الصدأ عن حياتهم بل لتستأجرهم ليقتلوا خصومها بلا غبينة معلومة، مكرهين لا أبطالاً. وغلبت السردية الأخيرة على الأولى. وهو غلب حرمنا من فهم حرب “الدعم السريع”، الدور الثاني من الـ “جنجويدية”، فلا نرى منها سوى خروجها من رحم مركز دولة “الإنقاذ” لا جماع السياسات في الريف والإقليم التي هيأت خروجها من ذلك الرحم. وقيل من جهل تاريخه أعاده وبثمن فادح في غالب الأحوال.

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.