ثلاث مراجعات لكتاب قرينلو عن “المباني المرجانية في سواكن”

ثلاث مراجعات لكتاب قرينلو عن “المباني المرجانية في سواكن”
  • 28 يناير 2024
  • لا توجد تعليقات

د. بدرالدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه مراجعات / اِسْتِعْرَاضَات (reviews) ثلاث لكتاب جان بيير قرينلو المعنون: “المباني المرجانية في سواكن: العمارة الإسلامية والتخطيط والتصميم والترتيبات المنزلية في ميناء على البحر الأحمر” بأقلام ثلاثة من الخبراء: الأول هو تموثي انسول Tim Insoll (أستاذ كرسي القاسمي للآثار الإفريقية والإسلامية بجامعة اكستر البريطانية، ومؤسس ورئيس مركز الشارقة لدراسات الآثار الإسلامية)، وقد نُشِرَتْ مراجعته للكتاب في العدد الأول من المجلد الخامس عشر من مجلة “African Archeological Review”، الصادرة عام 1998م، صفحات 81 – 84.
وكاتبة المراجعة الثانية هي أستاذة علم الأنثروبولوجي الأمريكية سوندرا هيل Sondra Hale، وقد نشرتها بالعدد الرابع من المجلد العاشر لمجلة “African Arts”، الصادرة عام 1977م، صفحات 5 – 8.
أما المراجعة الثالثة فهي بقلم جورج اسكانلون George Scanlon (الخبير بالفن والمعمار الإسلامي. https://shorturl.at/inNU7). وقد صدرت مراجعته في المجلد الثامن من مجلة الدراسات الإسلامية Journal of Islamic Studies عام 1997م، صفحتي 112 – 113.

وسيلحظ القارئ الكثير من نقاط التباين والقليل من نقاط الاتفاق عند كُتَّاب هذه المراجعات، ربما بسبب تباين خلفياتهم المهنية واهتماماتهم البحثية وتوجهاتهم الفكرية.
المترجم

1/ مراجعة تموثي انسول
هذا كتاب عن المعمار التركي والمصري في المدينة المهجورة سواكن، التي تقع على ساحل البحر الأحمر في جمهورية السودان. وقد صدر الكتاب لأول مرة في عام 1976م، وهذه طبعة جديدة له صدرت عام 1995م وبها تقديم (بقلم منصور خالد).
ويركز الكتاب على المدينة بجزيرة سواكن، على عكس مستوطنة القيف التي لا تزال مأهولة جزئياً بالبر الرئيسي، وتم التخلي عنها في عشرينيات القرن الماضي لصالح ميناء ومدينة بورتسودان، التي تقع على بعد حوالي 60 كم. ويحوى كتاب قرينلو مسحاً ووصفاً لستين من مباني الجزيرة (من بين نحو 300 مبنى) يرجع تاريخها للفترة بين القرن السادس عشر وبدايات القرن العشرين، والتي تهدم الكثير منها منذ أن أُجْرِيَ أول مسح لتلك المباني في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. وفي هذا الصدد، على الأقل، يُعد هذا السفر سجلاً مهماً لمكون آخر لما يسمى في الهندسة المعمارية ” نمط أو أسلوب البحر الأحمر The Red Sea Style” (والتعبير من نحت المعماري البريطاني ديريك ماثيو Mathew, D.H. عام 1953م. المترجم).

ويقر قرينلو نفسه بأنه لا يستطيع الزعم بأن سفره هذا هو كتاب يمكن تصنيفه ككتاب علمي / معرفي؛ ورغم أن هناك دلائل على أن هذا القول هو من باب التواضع المفرط إلى درجة معينة، إلا أن قوله هذا في ذات الوقت هو صحيح جزئيا، وكان من الممكن بالفعل أن يكون هذا عملاً علميا معرفيا بأكثر مما هو عليه الآن. غير أن هذا لا ينقص من قدر وقيمة هذا الكتاب وما يحويه من مناظر ورسومات خطية وتخطيطية مفيدة. غير أنه من الواجب قبل الدخول في نقاش هذه الأمور أن ندرس بتفحص محتويات الكتاب بترتيب منطقي. فالكتاب به 11 فصلاً، تتعلق أولاً بتخطيط المدينة وتاريخها وإعادة بناء ما كانت عليه الحياة المنزلية في منزل نموذجي. ويتبع ذلك ثمانية فصول إضافية عن المباني (المنازل والمساجد والحصون) وعن التفاصيل المعمارية والمباني وتقنيات البناء.

ليس هناك الكثير الذي يمكن قوله عن الفصلين الأولين في هذا الكتاب سوى القول بأن المؤلف قد استخدم فيهما أحياناً لغة قديمة نوعاً ما. فعلى سبيل المثال، تجد في الصفحة الثامنة جاءت كلمة المغرب مكتوبة هكذا Mohgreb وهي Maghreb ، بينما كُتبت ليبيا هكذا Lybia وهي Libya. ومن الواضح كذلك أوجه التشابه المذهلة مع أوضاع مستوطنات الجزر الأخرى على الساحل، سواءً تلك التي هُجرت، مثل الموقع السابق لجزيرة الريح (أيضاً في السودان)، وتلك التي لا تزال مأهولة بالسكان، مثل مصوع في إريتريا. وجاءت مناقشة الحياة المنزلية في الكتاب مناقشةً تتصف بالعمومية في لهجتها، وتتبع منظوراً تقليدياً، يبدو مرة أخرى منظوراً عتيقاً إلى حد ما، من خلال، على سبيل المثال، صورة “نحن وهم” التي تصورها الإشارات التي وردت في الصفحة رقم 19 وهي تتحدث عن “الشعوب الشرقية Eastern peoples” و”المسلمين” (/Moslems Muslims). وينقسم الوصف اللاحق للهندسة المعمارية في سواكن إلى فئتين: الأولى تصنف المباني التي يعود تاريخها إلى ما قبل عام 1860م على أنها تركية؛ والثانية تصنف المباني التي يرجع تاريخها إلى ما بعد ذلك على أنها مصرية ولكن مع تأثيرات أوروبية. ومن الواضح أن قرينلو يعتبر أن الأولى ذات أهمية أكبر، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها بُنيت وفقاً لنفس تقاليد البناء وأنماطها الموجودة في مكة والمدينة، وهو أسلوب “يجب أن يظل ثابتاً لسنوات عديدة في ثقافة محافظة مثل ثقافة الإسلام” (صفحة 22). ويمكن التشكيك في هذه المقولة أيضاً باعتبارها تبسيطاً واضحاً ومفرطاً.

وعلى الرغم من أن هذه المراجعة – حتى الآن- تنتقد كتاب قرينلو، إلا أنه في الحقيقة فإن معظم النقاط التي ذكرتها عن هذا الكتاب تعد نقاطاً ثانوية، وأن وصف “البيوت التركية السابقة الأكبر”، والبيوت التركية الأصغر”(صفحتي 22 و38) هو وصف مفيد لعلماء الآثار الذين يعملون على دراسة البيوت في منطقة ساحل البحر الأحمر وجزره البحرية. وفي حين أنه من غير المحتمل أن تُعقد مقارنات وتشابهات مباشرة بين بيوت سواكن ومنازل جزيرتي الريح أو دهلاك الكبرى، على سبيل المثال، إلا أن المادة التي جلبها لنا قرينلو، تجعلنا على الأقل، نأخذ في الاعتبار الاحتمالات المتضمنة. في كثير من الأحيان، نحن محدودون – وبشكل مفهوم – فيما نعرفه عن البعد الرأسي من خلال طبيعة الأدلة الأثرية: غالباً مثل الخطط الأرضية وحدها، أو – إذا كنا أكثر حظًا- ربما بعض الدورات في أعمال البناء (masonry). ومن خلال المساحة يمكن توضيح مقدار ما يمكن أن يكون غائباً في الخطط plans ورسومات الغرف التي وردت في كتاب قرينلو. ومن الأمثلة الرئيسية على أنواع المعالم التي قد لا نتمكن أبداً من إعادة بنائها من الأدلة الأثرية هي الجسور التي كانت تربط أحياء المنازل في سواكن، والتي تمت الإشارة إليها في عدة حالات. وكانت تلك الجسور تسمح لنساء العائلات بالمرور دون أن يلاحظهن أحد من الناس وهن ينتقلن من بيت إلى آخر. وسيكون من المستحيل الاستدلال على تلك الجسور من كومة من الركام والجص والبقايا المحتملة التي سيجدها عالم الآثار اليوم.
ويقدم لنا كتاب قرينلو وصفاً للمساجد والزوايا في سواكن، ويعتبر وصفه سجلاً لتلك الأبنية، يمكن مقارنته بالمساجد والزوايا في أماكن أخرى. وما أجده أكثر إثارةً للاهتمام ما وُصف في الكتاب من مبانٍ شُيدت بالأسلوب المصري في البناء، مثل بناية “الوكالة caravanserai” الضخمة (وهي نزل /خان للمسافرين وتجار القوافل على الطرقات البعيدة، ويستخدم أيضا مخزنا للبضائع المصدرة أو المستوردة، وكإسطبل)، التي كانت – مبلغ علمي – هي واحدة من أكبر النزل الأكبر في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ومن المباني المثيرة للاهتمام التي وصفها الكتاب (في صفحات 72 و85 – 86) هي المباني العسكرية مثل قلعة الحكم البريطاني – المصري في مدخل الجزيرة، التي أقامها الجنرال غوردون. ورغماً عن القيمة العالية لمثل تلك المباني (الآن أو في المستقبل)، فقد أهملها الباحثون في معظم الدراسات عن سواكن، ربما لاعتقادهم بأن أمر خراب مثل تلك المباني لا يعد أمراً له قيمة. ومن الخطأ كذلك القول بأنه ليس من غير المألوف وضع المقابر بالقرب من عتبات الأبواب في المدن الإسلامية؛ “حيث يتم تقديم الاحترام الكبير للموتى، الصفحة 57”. وعلى وجه التحديد للسبب الأخير، عادةً ما يتم وضع المقابر والقبب خارج المستوطنة. وفُصلت المعلومات المقدمة حول تقنيات البناء والميزات المعمارية والتشطيبات الزخرفية بطريقة الكتالوج. وفي هذا الصدد، يمكن أيضاً تقديم تعليق حول بنية الكتاب. لماذا تستحق مناقشة الروشانات / المشربيات في فصل مكون من صفحة واحدة فقط (ص 21)، لكي يتم تضمين الجزء الأكبر من المواد المتعلقة بهذه الميزات لاحقاً (صفحات 103 – 109)، إذ أن هذا يبدو ترتيباً غريباً وبالتأكيد غير ضروري. وكان من الممكن الجمع بين الاثنين بسهولة وحذف “الفصل” الذي لا لزوم له والذي يتكون من صفحة واحدة.

وبعد فحص عام لمحتويات الكتاب ببعض التفصيل، من المهم العودة لأهم معلم في الكتاب، ألا وهو الرسومات التوضيحية به. ولا مشاحة في أنها رسومات جيدة جداً.؛ وخلفية المؤلف التي ذكرت تفاصيلها في داخل الغلاف الخلفي، بحسبانه فنانا (تشكيلياً) ومؤسس “مدرسة الخرطوم للتصميم” تتضح جلياً في تلك النبذة عنه. وتضيف تلك الرسومات بعداً غالباً ما يكون غائباً في الأعمال الأكثر “علمية” من هذا العمل، سواءً أكان ذلك إضافة مركب شراعي صغير أو سفينة شراعية في الخلفية (ص 25)، أو مجموعة من الأشخاص الذين يشغلون الغرف في رسم تخطيطي مقطعي للمنزل من الداخل (ص 34)، أو الإبل وركابها يمرون خارج المنزل (ص 59). تم إنشاء المخطط الأصلي الذي سجله قرينلو من خلال ترتيب الهياكل ومقارنة النتائج بخريطة كبيرة الحجم للمدينة. وكان لا بد من الحكم على الأبعاد الرأسية بالعين المجردة، والتي يقول قرينلو إن تدريبه كفنان كان مفيداً لانجازها (ص 6). ويمكن بالطبع انتقاد هذه الطريقة لكونها طريقة غير علمية، وبالتالي يمكن التشكيك في قيمة رسوماته التوضيحية كمخططات دقيقة للمباني. وأنتقد هينكل (ص 93) رسومات قرينلو لعدم استخدامه لأي قياسات فيها، ولتسجيله لبعض المعلومات الخاطئة عنها. وعلى الرغم من أن هنكل محق في نقده لهذا الكتاب، إلا أن نقدة يبدو قاسياً بعض الشيء.
ويمكن القول في الختام، بأن هذا الكتاب هو كتاب مفيد، ويمكن وصفه بأنه “عمل دافعه الحب labor of love”. وبالإضافة لذلك، فمن حسن الطالع جداً أن قرينلو قام بهذه الدراسة، حيث سجل حجم المدينة التي سقطت بسبب الإهمال. وكما يسجل هينكل (ص63)، فإن خطط الحفاظ على المدينة كانت قد تعرضت لعدد من المشاكل بأكثر من نصيبها العادل، وأوقفت تلك المشاكل لاحقاً أي عمل تم التخطيط له. وبالتالي، فهذا كتاب غير قابل للتكرار، وفي رأي المراجع، فهذا سفر ناجح ومفيد.


2/ مراجعة سوندرا هيل
إن مؤلف هذا السفر الممتاز هو نفسه شخصية تاريخية في الفن (التشكيلي) السوداني، وفي المشهد الثقافي بوجه عام. فينسب له إنشاءه لأول مدرسة للفنون (ضمت لاحقاً للمعهد الفني، ثم لجامعة العلوم والتكنلوجيا) خرجت العديد من الفنانين المتميزين (ذكرت سير بعضهم في صفحات مجلة “الفنون الإفريقية”. وكان قد أرسل في عام 1935، وهو في الخامسة والعشرين من العمر، للمشاركة في برنامج تجريبي للأعمال اليدوية بمعهد للتربية (في بخت الرضا)؛ وكان مسماه الوظيفي هو “موظف أعمال يدوية Hand work officer”. وجاهد قرينلو من أجل جعل الحكومة الكلولونيالية البريطانية تقبل بإدخال مادة الفنون في مناهج المدارس السودانية. ثم أنشأ “مدرسة التصميم” بكلية غوردون التذكارية، والتي خرجت في عهدها الباكر فنانين من أمثال إبراهيم الصلحي عام 1948م. وكان قرينلو يدرك، منذ البداية، عدم تمثيل الفن الإسلامي بالسودان، فقد كان يشجع طلابه دوماً في دروسه على الاهتمام بالتراث والتقاليد المحلية. ومن أقواله المأثورة أنه يعتبر الفن الإسلامي هو “تصميم خالص pure art”. وذكر أيضا أن “هذا يُشاهد في المباني الطينية، وفي الفن التطبيقي ذي الأنماط الرمزية الهِيراطِيقِيّة شديدة التعقيد والمطبقة على كل شيء. ويبدو أن هذا التصميم في الحياة اليومية قد تم تجاهله كلياً عند تدريس الفن في المدارس الأفريقية. أردت أن أرى إعادة اكتشاف وولادة جديدة للمبادئ الأساسية من كل الفنون – وهو ما بدا أمراً ممكناً في السودان”.
وبهذه الفلسفة المؤمنة بأهمية الفن في حياة الناس اليومية، التي تقدر بشدة فن التصميم، وتحترم تقاليد وأعراف البيئة السودانية وتراثها الثقافي بعمق، فليس من المستغرب أن يكون قرينلو هو من أنتج لنا أفضل كتاب باللغة الإنجليزية عن تاريخ الفن السوداني. وليس بالأمر الغريب ألا يكون قرينلو مهندسا معماريا لينتج هذا السفر عن المعمار؛ فقد أتيحت له المصادر في موضوعه، وكان شغوفا بالبيئة السودانية، وكانت له في التصميم عين فاحصة ومميزة ودقيقة. كم هو مناسب أن يقوم فنان عبر الفن الجرافيكي بإعادة تشكيل أحد أجزاء تاريخ السودان الفني القديم – معمار المباني المرجانية بجزيرة سواكن، ميناء السودان “المهجور” الذي ازدهر منذ العصور الوسطى حتى هذا القرن العشرين. وكان قرينلو قد أخذ عددا من طلاب الفنون في سنوات الأربعينات في رحلة إلى سواكن، نسبة لأنها تمثل شكلاً من أشكال الفنون كان يجيد فهمه، ولا يمثل “انتهاكاً” للمبادئ الإسلامية التي يؤمن بها طلابه. وأستطيع الآن أن أفهم من أين ورث الصلحي شغفه الكبير بإعادة اكتشاف التصميم التقليدي / التراثي في البيئة السودانية. وكان قرينلو، الذي غادر السودان عام 1951م بعد أن ظل يرسم بعض مناظر سواكن لقرابة عقدين من الزمان، قد عاد إليه في 1973م و1974م بغرض التأكد من دقة المعلومات التاريخية التي ضمنها كتابه.

يُقال بأن سواكن هي “المدينة المثالية لدراسة جماليات الفن الإسلامي”. وكان القائد البحري البرتغالي دا كاسترو قد وصف المدينة في عام 1510م وكتب ما نصه: “في وسط زاوية دائرية توجد جزيرة مسطحة، مستديرة تماماً تقريباً ومستوية مع الماء، على بعد حوالي ميل. وفي هذا الفضاء ليس هناك قدم من الأرض غير ما تشغله البيوت، بحيث تكون الجزيرة بأكملها مدينة، وكل المدينة جزيرة. هذه هي سواكم ٍSuakem (هكذا كتبها. المترجم)”.
وكان قرينلو شديد الاهتمام بتلك البيوت التي أتى دا كاسترو على ذكرها، وتلك التي تمثل حقباً مختلفة من التاريخ وأساليب العمارة الإسلامية. وعندما قام البريطانيون بإجراء مسح للجزيرة في بدايات القرن العشرين، لم تكن هناك سوى القليل من البيوت الكبيرة، ونحو 200 من البيوت الأصغر. وبالإضافة لذلك كان في الجزيرة الصغيرة المسطحة مسجدان، ونحو ست زوايا، وشارع أقيمت حوله محلات تجارية. لقد كانت سواكن تبدو دوما “مدينة عتيقة”- سواءً من الجو، أو حتى حين يتجول المرء في شوارعها. وكتب قرينلو ما يلي عنها: ” كانت الجدران الخارجية للمباني مطلية باللون الأبيض وتقود إلى المشربيات والأبواب الخشبية المنحوتة التي تعلوها أغطية الأبواب (door – hoods) الحجرية المنحوتة.” وبيوتها مكونة من ثلاثة أو أربعة طوابق و “وبنيت على شكل أحياء blocks أو مدرجات terraces، مرتبة في صفوف في كل واحدة منها، وتفصل بينها جميعا شوارع ضيقة…”.
وقبل أن يخوض قرينلو في وصف شديد التفصيل يمكن للمرء تخيله لجزيرة صغيرة جدا (عرضها نحو 400 مترا وطولها يزيد عن ذلك) وبها الكثير من المباني، حاول أن يضع سواكن في نمط معين من أنماط المعمار الوظيفي. فقسم بنيات المدينة في الجزيرة العربية وأفريقيا المسلمة إلى صنفين، يختلفان عن بعضهما البعض في الأحوال المناخية، فأولهما هو أراضٍ صحراوية داخلية، والثاني هو نوع تكيف مع احتياجات الطقس الساحلي. وذهب قرينلو إلى أن المناطق الساحلية تتطلب نوعاً من البناء يلتقط كل أنسام البحر وتدعها تدور داخل البيت بحرية. وهذا هو نمط البناء في سواكن الذي يتمثل في المشربيات، وشبكات التهوية، وسلالم التكييف وشرفات الأسطح (الخرجات). وعلى الرغم من أن قرينلو رجل فنان يستمتع بروعة وجمال ميناء الجزيرة القديم، إلا أنه كان لا يزال يحس بالالتزام بالرأي الذي يذهب إلى أن العمارة الإفريقية ليست سوى “استجابة تقنية للضرورة البيئية لتوفير المأوى”. وهذا رأي يعتقد عالم الفلكلور الأميركي جون مايكل فلاش (Vlach) في سياق آخر، أن فيه تجاهلاً للحقائق الثقافية، وفي هذه الحالة هناك تجاهل للوحدة الثقافية / الجمالية مع الساحل الشرقي الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر. وأشاد قرينلو (في إشارة كتبها كملحق) بالواقع الثقافي لسواكن المتمثل في “اكتمالها” “وحدة الجزيرة لدرجة الاكتمال”، الذي تحقق فقط في مرحلة ما بعد الازدهار، ويبدو أن الجزيرة الدائرية هي وحدة واحدة هنا. “إن الوحدة تشير إلى اتفاق اجتماعي عميق واعتقاد ملازم يصاحب النظام الميتافيزيقي السائد ودين الإسلام”. وينتمي هذا الموقف الفلسفي إلى مقدمة الكتاب، وكان يمكن له أن يمنح الكتاب فكرته الرئيسية (theme).

وعلى الرغم من أن قرينلو كان يرى أن معمار سواكن “المحلي” هو معمار “غريبً”، إلا أنه سعى أيضا لعقد مقارنات بينه وبين معمار مناطق ساحل البحر الأحمر الأخرى كمصوع وجدة. غير أن تحيزه “العربي” ربما قد حال بينه وبين عقد مقارنات (إلا بالاستنباط inference) مع معمار مناطق أخرى مثل مقديشو ولامو وبيت وغيدي (في كينيا) وكيلوة (جزيرة بتنزانيا)، وبالطبع زنزبار. وتشابه أوصاف المعمار السواحيلي معمار سواكن، إذ أن مباني السواحليين تشيد أيضاً بالمرجان، وتطلى بالجير وتغطى بالمرجان الشاطئي وتزين بتصميمات هندسية مزخرفة، وبأخشاب مزخرفة منحوتة على يد “أسطوات” / أساتذة مهرة. غير أن قرينلو يعبر عن أسفه لأنه ليس بالخبير في مثل هذه الأمور. وفي نهاية المطاف، فإن عينه المدربة على التفاصيل وصبره في تقديم ما يراه (بعين الفنان التشكيلي) هو ما شجعه على تأليف هذا السفر. وكان قرينلو أحيانا يدخل ومضات شاعرية على وصفه لسواكن، فيقول: ” بيوت سواكن ومساجدها … منظرها لا ينسى عندما كانت سليمة، وهي تطفو على منصة تلك الجزيرة المسطحة ذات الشكل البيضاوي …. “.
ملأ قرينلو سفره بـ 562 من الرسومات التوضيحية التي أنجزها بالقلم والحبر، ولم يلجأ قط للتصوير الفوتوغرافي، على الرغم من أن الكتاب يحتوي على عدد قليل من الصور لسواكن القديمة. وبدأ كتابه بنبذة مختصرة عن الجزيرة، ثم وصف تاريخ ما جرى فيها من الأحداث، الجليلة والعادية. وتناول الحياة المنزلية بالجزيرة، واصفا المواد التي كان يستخدمها سكانها في مساكنهم للنوم أو الأكل والغسيل. ووصف خريطة منزل عادي في المدينة وما فيه من أثاث، والإضاءة بالشوارع. وخصص فصلا كاملا لمشربيات (روشانات) المنازل، وتناول ذلك – بتفصيل شديد – مداخلها. وتناول أيضا هندسة المساجد والزوايا والخلاوى بالجزيرة، وقارن بين الطرازين التركي والمصري في البناء.

وتطرق قرينلو بالكتابة والرسم في الفصل العاشر من الكتاب للمواد والأدوات المستخدمة في البناء بسواكن. ولعل هذا هو الجزء الأكثر أصالة وجدة في هذا الكتاب، ربما باستثناء أطروحة ديفيد لي David Lee في عام 1967م المعنونة “جغرافية أنواع المنازل الريفية في وادي النيل بشمال السودان The Geography of Rural House Types in the Nile Valley of Northern Sudan “. وخصص الكاتب فصلاً كاملا في كتابه للحديث عن الأخشاب المستخدمة في سواكن.
وسجل قرينلو بعض تفاصيل الحياة اليومية في سواكن في عهدها الزاهر. ووصف أبعاد الغرف بمنازلها وشرح وظائفها. فعلى سبيل المثال كانت الروشان تستخدم للجلوس والدردشة وشرب القهوة وتدخين الشيشة وتناول الطعام والنوم ، أو مجرد التحديق في المنظر خارج البيت، أو في مشاهدة المهرجانات المحلية لمدينة شرقية باحتفالاتها المتكررة ووصول ومغادرة القوافل والحجاج إلى مكة.
ويمكن القول – إجمالاً، بأن قرينلو قد أفلح في أن يقدم للقارئ صورةً عن مختلف جوانب الحياة اليومية في مدينة سودانية، لم يسبقه عليها أحد من الكتاب باللغة الانجليزية. ولا ريب عندي أنه من الظلم الفادح انتقاد قرينلو على ما لم يتطرق إليه في مؤلفه هذا، فمساهمته هذه تتحدث عن نفسها. وكما اعتاد العلماء والخبراء أن يقولوا عن هذا الكتاب “إنه يسد ثغرة في معرفتنا” لهذا النوع من الهندسة المعمارية، فهو يحاول بالفعل تقديم سرد تاريخي لسواكن، ويذكر التدهور الاقتصادي والهيكلي الذي حاق بها. ولكن، مثل العديد من الذين كتبوا عن مشهد سواكن، يسرد قرينلو روايته كما لو لم يكن هناك أي شعب على الإطلاق في هذه الجزيرة باستثناء الباشوات والبكوات الأرستقراطيين في سواكن. وصور الكاتب سكانها وكأنهم “غرباء” تماما في مشهدها، وتطرق بعجالة وبصورة عَرَضِيّة لمجموعات عرقية شملت الهدندوة و/أو العرب من أصول حضرموتية. وأرى أن تسمية الجزيرة بـ “المهجورة” يعد تقليلًا إلى حد ما من شأن الأكواخ والفقر الذي وسم المدينة في عام 1977م. ولا يمكن وصف سرعة انحدار سواكن بعد إنشاء بريطانيا لبورتسودان (كبديل بحري حديث) إلا بالصور. وأظهر لنا ديفيد رودن في مقاله بمجلة “السودان في رسائل ومدونات SNR” الذي صدر عام 1970م صور مدينة سواكن في أعوام 1905 و1921 و1924 و1931، وصور حالتها وهي “مهجورة ومهملة” في عام 1967م (https://shorturl.at/ADMV0). وكنت قد صورت في عام 1974م تلك الأكواخ، التي كانت تشيد أحيانا قريبا جداً من تلك القصور والبيوت الكبيرة المتهدمة، والتي لم يكن الأهالي الفقراء يستخدمونها قط كمأوى لهم؛ فقد كان نحو 80% من تلك البيوت قد تهدمت تماماً بحلول عام 1947م، ولم تعد آمنة للسكنى.
عندما نقرأ كتابا رومانسياً مثل كتاب قرينلو، يبدو من العسير تذكر أن سواكن لم تمت، وليست “مدينة اشباح” كما يُفهم عادة من هذا التعبير. فقد كان فيها دوماً أناساً يقيمون فيها على هامش الاقتصاد، ولا يلتقطون إلا لمحات من ماضيها العظيم، واستفادة أقل من حاضرها (البائس).


3/ مراجعة جورج اسكانلون
هذه هي الطبعة الثانية من هذا الكتاب الذي صدر لأول مرة من دار نشر أوريل عام 1976م من دون عناوين جانبية كثيرة. غير أن محتويات الكتاب لم تراجع، ولم يتغير ترتيبه كثيراً. وأستعيض عن المنظر الجوي المعاد تشكيله للجزيرة (في عام 1900م) الذي كان يشكل واجهة الطبعة السابقة بارتفاعات متدرجة، بخريطة للمخططات الأرضية لتلك المباني نفسها. وظهرت في هذه الطبعة الجديدة مقدمة لمنصور خالد مدير مركز أفريقيا للمواردِ والبيئة.
ويمكن للمرء أن يتخيل أن الدافع لإصدار طبعة جديدة من هذا الكتاب هو ببساطة تنبيه العالم الخارجي إلى الخراب الهائل الذي حاق بتلك الجزيرة البديعة المحبوبة في الفترة بين التاريخين المذكورين. ومن الجلي أن المؤلف كان قد عاد لزيارة سواكن مرة أخرى وأصيب بالإحباط والاكتئاب من عدم قيام حكومة السودان في تلك الفترة بالحفاظ على مباني سواكن. وهو يقر بأن المادة التي شِيدَتْ بها مباني سواكن (المرجان الأبيض المقطع والمسحوق) هي مادة قابلة بسهولة للتحلل العادي بسبب شدة الرياح وأمطار الخماسين بالمنطقة. ويتطلب الحفاظ على تلك المباني لياسة / تجصيص plastering سنوي، وتجديد الدعامات الخشبية للأرضيات والنوافذ. ويملي مثل هذا الاهتمام على السكان الاهتمام واليقظة أيضاً. غير أن المأساة المحزنة للجزيرة هي أنه عندما حلت بورتسودان محلها في عام 1909، كلن معظم السكان قد رحلوا عنها، وكانت أعداد من آثروا البقاء بها غير كافية للقيام بالصيانة المطلوبة. ولعل المصير الوحيد الذي يمكن تصوره، على ضوء معدل الدمار الحالي، هو أن تقوم وكالة مثل اليونسكو بمساعدة الحكومة السودانية (إن كانت مهتمة) في جعل سواكن شيئاً يشبه أبراج البحر الأحمر (Burgess of the Red Sea).
وستغدو القيمة الكاملة غير القابلة للتجزئة لكتاب قرينلو واضحة جلية عندما يتم تنفيذ هذا العمل. لأنه لا يوفر جولة معمارية للمباني المهمة فحسب، بل لأنه يصنف بأمانة المخطط التفصيلي الذي يمنح تلك الهندسة المعمارية تمييزها الإقليمي. وهذا أمر عاجل وبالغ الأهمية، لأنه مع مثل هذه الخلفية يمكن لمن يقوم بعملية الترميم أن يميز بين مباني الفترة الأولى والفترة الثانية (المصرية) من تاريخ سواكن الجمالي، وجعل عملية الترميم أصلية بقدر الإمكان. ومن الأجزاء المهمة بالكتاب هو ما قام به المؤلف من مسح لطرق البناء بالجزيرة (الفصل العاشر)، وهو عمل جمع بين المعمار والفن. وبالتالي، إذا ضاعت المعرفة بمثل هذه الأساليب في هذه الأثناء (وهو أمر ممكن تماماً) في عالم فقد عقله بسبب المنفعة الرخيصة التي يجنيها من استخدام الخرسانة المسلحة، فيمكن إعادة تعلمها سريعاً من هذا الكتاب.
وتترك كلتا الطبعتين مؤرخ الفن الحديث عاجزاً عن الكلام في رهبة لا تُنسى من خلو أي منهما من حتى صورة فتوغرافية واحدة! وهنا يقدم المؤلف في كتابه بياناً ورسالة واضحة؛ بياناً ورسالة يجب استيعابهما جيداً قبل التسرع في إصدار الأحكام. أما بالنسبة لبعض جهود قرينلو، فقد أنتج الرجل سفراً لم يكن ليُدهش أحداً في عام 1850م، حين كانت الرسومات الخطية والمقياس البصري يمثلان القاعدة المتعارف عليها، والتي يجب أن نشعر بالحزن على افتقادها في العقد الأخير من الألفية. وبالنسبة للآخرين، تكاد مثل هذه الجهود تكون بلا قيمة لها عندما لا تكون مدعومةً برسوم توضيحية فوتوغرافية.

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.