الجالية الإغريقية في السودان (1821- 1885م)

الجالية الإغريقية في السودان (1821- 1885م)
  • 08 فبراير 2024
  • لا توجد تعليقات

د. بدرالدين حامد الهاشمي

The Greek Community in Sudan between 1821 and 1885
أنطونيوس شاالديوس Antonis Chaldeos
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لمقال بقلم الدكتور أنطونيوس شاالديوس عن تاريخ الجالية الإغرِيقِية في السودان بين عامي 1821و1885 نُشِرَ عام 2017م في العدد الواحد والستين من مجلة الدراسات السودانية (لجنوب السودان والسودان)، الصادرة عام 2020م، صفحات 56 -64.
عمل كاتب المقال باحثا مشاركا بجامعة جوهانسبرج. وكان – بحسب سيرته المبذولة في الشبكة العنكبوتية – قد تخرج ببكالوريوس الهندسة الاليكترونية، ثم أتجه بعد ذلك لدراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية والتاريخ في الجامعة الإيجية (نسبة إلى بحر إيجة) باليونان. وحصل الكاتب أيضا على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة جوهانسبرج بجنوب أفريقيا. ومجال تخصص الكاتب هو تاريخ الوجود اليوناني في شمال وشرق أفريقيا (مثل تونس وإثيوبيا)، ودراسة الاقتصاد الاجتماعي للأغاريق في تلك المناطق وتداخلهم مع المجتمعات المحلية، وعملية بناء هويتهم الثقافية والوطنية في مهاجرهم الأفريقية. وللكاتب عدة مقالات وكتيبات عن الجالية اليونانية في السودان وعدد من الدول الإفريقية الأخرى.
وللمزيد عن تاريخ الأغاريق بالسودان يمكن النظر في عدة مقالات مترجمة صدرت تحت عناوين: “الأغاريق البزراميط بالسودان الحديث”، و “الأغاريق في السودان”، و”أسماء المواقع السودانية ذات الصلة بنشاط رجال الأعمال اليونانيين (الأغاريق)”، و “الأغاريق في السودان”، و”الإغريقي نيكولاس الذي أحب الخليفة”، و”فندق الأكربول بالسودان”. وكل تلك المقالات وغيرها مبذولة على موقع سودانايل ومواقع إسفيرية أخرى.
المترجم


خُلاَصَة البحث: استوطن الكثير من الأوربيين في السودان بعد نجاح حملة 1821م، وكان من ضمن هؤلاء عدد من الأغاريق. وكان هؤلاء قد شاركوا في القتال مع تلك الحملة، وانخرطوا بعد ذلك في كثير من أنشطة التجارة والاستثمار وريادة الأعمال. وكانوا يقيمون في الخرطوم وسواكن وكسلا ومدن أخرى. وبالنظر إلى دورهم المهم في فترة احتلال مصر للسودان، يهدف هذا المقال لدراسة مساهمة الأغاريق في الأطوار الأولى للنمو الاقتصادي في السودان، خاصة في مجالي التجارة والزراعة.
1/ ارتبطت هجرة الأغاريق الأولى للسودان بوجود الجيش المصري به. وعقب انتصار إسماعيل باشا عام 1821م في سنار، عمل الحكم التركي – المصري الجديد على إقامة أولى مُنْشَآته العسكرية بالخرطوم لتكون مقراً دائماً لقواته. وكان جيش إسماعيل باشا مكونا من خليط من الأجناس، كان من بينهم أغاريق، عملوا جنوداً وضباطاً ومترجمين وموردين وأطباء. وبعد انتهاء أعمال حملة إسماعيل الحربية، آثر الجنود الأغاريق الاستقرار في السودان، وقدم إلى الخرطوم أيضاً تجار مصريون وأغاريق، وتجار من السودانيين من مناطق النيل الأزرق. وازدادت أعداد سكان العاصمة مع توافد الكثير من المهنيين إليها، كان منهم حرفيون وصناع مراكب وبحارة وخبازين وتجار وصناع سلاح (غُنْدَقْجِيّة)، بل وحتى صيادلة. وعقب عام 1830م اشتغل بعض رجال الأعمال الأغاريق في السودان (الذين كانوا قد أقاموا مراكز تجارتهم بمصر) في تجارة العاج والجلود وريش النعام. واستغل بعض أولئك الأغاريق حالة كونهم أول أوربيين يقيمون بالسودان في العمل كمرشدين (guides)، أو كقادة للحملات التي استكشفت النيل، حتى أن البريطاني صمويل بيكر وصفهم بأنهم “مارك بولو أفريقيا” (1). وجذب انتعاش التجارة بين غرب السودان والمغرب العربي المزيد من التجار الأغاريق، مع غيرهم من الأوربيين الآخرين.
ولا توجد الكثير من المعلومات عن نشاطات الأغاريق في السودان قبل عام 1840م – ربما باستثناء التاجر الإغريقي لمبيدورس Lampidoros الذي عاش في كردفان في عام 1838م، ولقي مصرعه على يد بعض مسترقيه. ثم ظهر تجار آخرون مثل جورج أفروف Averoff الذي جاء لمصر عام 1840م ووسع نطاق تجارته مع أخيه أنستاسس لتشمل أم درمان وبقية أرجاء السودان. وقيل إن اسم حي “أبو روف” بأم درمان مشتق من اسمه.


2/ اِنْخَرَطَ التجار الأغاريق في مجال زراعة وتجارة القطن بعد سنوات قليلة من غزو إسماعيل باشا للسودان (تحديداً في نهاية عام 1839م). وكانت الإدارة المصرية للسودان قد شرعت في زراعة القطن في المناطق القريبة من سواكن (مثل طوكر)، ثم في بربر ودنقلا وسنار والمناطق حول الحدود مع أثيوبيا، بعد التغلب على كثير من العقبات مثل قلة المياه وغياب العمالة المدربة. وكان غالب ما يُنْتَجُ من قطن يستخدم محلياً في صنع الأقمشة، ويصدر الباقي لمصر عن طريق التجار الأغاريق والسوريين. وازداد الطلب على القطن في بريطانيا، وهذا مما ضاعف من رغبة التجار الأغاريق في التوسع في زراعة القطن بالسودان.
وبلغ النشاط الاقتصادي للأغاريق بالسودان ذروته في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر مع زيادة التغلغل التجاري المصري في السودان. وتضاعفت أعداد التجار الأغاريق في الخرطوم وسواكن والمدن القريبة من الحدود الإثيوبية مثل كسلا. واستدعى ذلك إنشاء قنصلية يونانية في الخرطوم (وفي سواكن أيضاً) عام 1871م. وتمثل يوميات الإغريقي ميقوس بابادام مصدراً مهما للمعلومات عن الأغاريق الذين سكنوا بالخرطوم، التي كان بها 132 من التجار وطبيبين. وكان فيها مقاهي لبيع الشاي والقهوة، وست محلات تجارية كبيرة، ومحلات صغيرة لبيع الخردوات والتبغ والمشروبات. وكان لبعضها فروع في المسلمية وسنار وكركوتي ؟(Karkoti). وامتلك رجل اغريقي (اسمه مانوليس ديلموجيانس) ورجل مصري (اسمه بطرس بولس، كان يُعد في ذلك العهد أغنى رجل في السودان) مصنعا للصابون. وكان غالب من يأتي من المهاجرين الأغاريق الجدد للخرطوم لا يحملون معهم مبالغ كبيرة من المال، بل كانوا يعتمدون في بدء أنشطتهم التجارية البسيطة بالبلاد على ما يستدينونه من الأغنياء من بني جلدتهم الذين أتوا قبلهم للسودان. وكان هؤلاء يزودونهم بالمشروبات الكحولية، أو بالخضروات. وبعد مرور نحو عام يكون المهاجر الجديد قد أفلح عادةً في تكوين رأس مال يبلغ نحو 150 إلى 200 من الجنيهات المصرية.


3/ بدأ الأغاريق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الاستيطان في كسلا وسواكن. وكانت لسواكن أهمية خاصة لمصر، باعتبارها الميناء الوحيد بالبلاد، ولقربها من شبه الجزيرة العربية ومن ميناء عدن الذي يسيطر عليه البريطانيون. وكانت سواكن (التي كانت فعلياً تحت الإدارة المصرية منذ عام 1840م، وغدت تحت سيطرة الحكم العثماني في 1865م) هي نقطة العبور الوحيدة لحجاج غرب أفريقيا. وأمر ممتاز باشا حاكم سواكن بالبدء في مشروع إعمار ضخم للمدينة والميناء. وفي عام 1867م أفتتح بها أول مكتب بريد رسمي لتسهيل التواصيل بين رئاسة الشركات التجارية في القاهرة وممثليهم في سواكن


4/ خصص الكاتب نحو ستين سطراً للحديث عن سواكن وما حدث فيها من تطور اقتصادي وتجاري وعمراني إبان العهدين المصري والعثماني. وهو يعزو ذلك للتوسع في زراعة القطن في دلتا خور بركة، وتشييد المصريين لقناة السويس وافتتاحها في 1859م، وارتفاع عدد سكان سواكن إلى 800 نسمة. وفي الفترة بين 1874 و1883م انتعشت الأحوال الاقتصادية في سواكن. فعلى سبيل المثال فقد زاد في عام 1879م عدد سكانها حتى بلغ نحو 6,000 نسمة، بينما بلغت قيمة الصادرات عبر مينائها نحو ربع مليون من الجنيهات المصرية. ولم يكن بسواكن حينها من الأوربيين سوى ثلاثين رجلاً إغريقيا يعملون في مجالي الزراعة والتجارة، وكانت ليهم علاقات ممتازة مع السلطات المحلية، وجمعوا أموالاً لإقامة كنيسة لهم في مهجرهم الأخير. وكان هناك عدد قليل من الأغاريق يعيشون ويعملون منذ عام 1874م في مناطق خارج سواكن، مثل طوكر، التي أقام فيها أحدهم محلجاً صغيراً للقطن. وأتى من بعد ذلك التجار البريطانيون الذين عملوا في تجارة العاج وريش النعام (من كردفان ودارفور) الذي كانوا يصدرونه للهند، والبن (من الحبشة) والذهب (من سنار)، والقطن والماشية (من كسلا). وكانت تُرْسَلُ عبر سواكن أيضاً أعداد كبيرة من المسترقين. ويأتي للسودان من الخارج عبر ذلك الميناء الوحيد العديد من البضائع مثل السكر والصابون والأرز والمنسوجات، وتًحمل على الجمال لتوزع في مختلف مناطق السودان. وأدى رجلان إغريقيان دوراً مهماً في فتح طريق بين بربر وسواكن وذلك بين عامي 1868 و1869م. وساهم ذلك الطريق في تقليل مدة السفر بين سواكن والخرطوم من 85 يوماً إلى 35 يوماً. وعندما منحت الحكومة المصرية شرق السودان وضعاً إقليميا خاصاً في عام 1881م، وجعلت من سواكن عاصمة له، أقامت اليونان لها في عام 1883م قنصلية فيها، وكان أول قنصل لها هو شارلامبوس كانتاكوزينوس. وكان الأطباء الأغاريق في الجيش المصري هم أول المستوطنين في سواكن. وتبعهم بعد ذلك التجار الأغاريق القادمين من مصر. وعمل قليل منهم كمهندسين وكممونين للسفن، وفي إنشاء المزارع وتربية الحيوانات.


5/ كان عدد سكان مدينة كسلا في منتصف سنوات القرن التاسع عشر نحو 8,000 نسمة. وكان إسماعيل باشا يخطط لزراعة القطن فيها، مستعيناً في ذلك بالأغاريق بحسب ما ورد في مقال لويكلي صدر بعنوان “قصة الخرطوم” (2). وقام على ذلك العمل الأغاريق في كسلا والقضارف. وكانت بكسلا قاعدة للجيش المصري بها طبيب إغريقي، وعدد من محلات التجار الإغريق. بل وتوسعت التجارة في المدينة لتتعدى المتاجرة في المحاصيل الزراعية والمصنوعات، إلى تجارة السلاح. فقد صار أحد التجار الأغاريق بالمدينة يبيع الأسلحة منذ عام 1856م للإمبراطور الإثيوبي ثيودور (3). وتعاقد الإغريقي نيكوي فيكيارليس مع قادة الجيش المصري عام 1872م لتوريد الصابون لهم من مصنع أقامه في كسلا. وبعد عامين أفتتح فيكيارليس هذا مصنعا آخر للصابون في القضارف كان يورد منه الصابون للجيش المصري هناك. ومن الملاحظ أن انتشار الأغاريق في السودان في ذلك العهد كان يتفاوت بحسب التعاقدات التي كانوا يبرمونها مع الجيش المصري، وهذا هو ما جعلهم يبلغون مناطق بعيدة مثل كردفان وفشودة والقضارف وغيرها. وأقام إغريقي اسمه جورج ملاماس مزرعة قطن، وخدمات مُعدّيات على ضفاف النهر في قرية قرشي رغم الصعوبات التي واجهها في الحصول على رخصة من السلطات.
وفي أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر كان رجال الأعمال الأغاريق قد بلغوا الكثير من مناطق دارفور، حيث كانوا يتاجرون في ريش النعام. وبحسب قصة رواها الإيطالي قيسي (Gessi) كان سليمان باشا (من جزيرة ليمنوس أو لِمْنَى اليونانية) قد بدأ في أعمال تجارية مشتركة مع زعيم قبيلة شكا / شاكا Shakka (؟)، غير أنه بدا لذلك الزعيم بعد حين أن يسجنه بعد أن اتهمه بأنه رجل مصري، وأجبره على العمل في خدمته. غير أن سليمان باشا أفلح بعد فترة في استعادة ثقة ذلك الزعيم، وعاد لتجارة ريش النعام.


6/ الخلاصة: لم يكن عدد الأغاريق في السودان كبيراً، ولكنهم رغم ذلك أدوا أدواراً كبيرة في ميادين التجارة بالسودان، كممثلين للشركات التجارية البريطانية واليونانية الكبيرة في مصر. وكانوا من أهم رواد الزراعة بالسودان، خاصة زراعة القطن. وفي غضون الربع الأخير من القرن التاسع عشر استقر الأغاريق في كل مكان تقريباً في السودان، وكانوا من أعمدة الاقتصاد المحلي، وتركوا أثراً لا يُمحى في تاريخ تلك الفترة. (أورد الكاتب هنا قائمة بأسماء 25 من البيوتات التجارية التي أقامها الأغاريق في السودان بين عامي 1850 و1870م)
إشارات مرجعية
(1) . ماركو بولو (1245 – 1324م) تاجر ورحالة ومستكشف من البندقية بإيطاليا. وصمويل بيكر (1821 -1893م) مستكشف بريطاني وضابط وكاتب وخبير بالتاريخ الطبيعي، حاول استكشاف منابع النيل في عهد الخديوي إسماعيل.
(2) . مقال “قصة الخرطوم ” من ثلاثة أجزاء، هذا رابط لواحد منها https://shorturl.at/nIM28
(3) . لمزيد من المعلومات عن الإمبراطور الإثيوبي ثيودور اُنْظُر الرابطْ https://shorturl.at/iwANX

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.